تذهب مجمل القراءات الاولية لعمليات الانبار الاخيرة التي اطلق عليها “ثأر القائد محمد” الى انها يمكن ان تحدث تغييرات نوعية ومهمة في واقع الصراع والمواجهة في العراق بين الدولة من جهة، والجماعات الارهابية المسلحة-لاسيما مايعرف بالدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) من جهة اخرى.
ولاشك ان مثل تلك القراءات تستند الى معطيات شاخصة على ارض الواقع، فضلا عن حقائق وارقام ربما لم تبرز على سطح مشهد الاحداث
لاعتبارات ترتبط بظروف المواجهة في بعدها الامني والاستخباراتي.
المعطيات على الارض
وهنا يمكننا الاشارة الى بعضا من تلك المعطيات، حتى تتبلور الصورة، لتتكامل فيما بعد عبر تشخيص النتائج المتوقع ترتبها على عمليات “ثأر القائد محمد”.
اولا: ان تلك العمليات، على خلاف عمليات سابقة، غطت مساحات شاسعة، تمثلت بصحراء الانبار التي تشكل مايقارب ثلث مساحة العراق، علما ان صحراء الانبار تمتد الى ثلاث دول هي سوريا والاردن والسعودية، وتمتد الى سبع محافظات عراقية هي نينوى وصلاح الدين وكربلاء وبابل وبغداد والنجف والمثنى، ومعروف ان القسم الاكبر من الارهابيين ومجمل الدعم والتمويل اللوجيستي، القادم الى العراق طيلة الاعوام العشرة الماضية يأتي من هذه الجهات.
ومن يقول ان صحراء الانبار، تعد مفتاح الامن والاستقرار في العراق في حال تم احكام السيطرة عليها من قبل الدولة، او مفتاح العنف والاضطراب والفوضى في حال وقعت تحت قبضة الجماعات الارهابية المسلحة، يعد قولا صحيحا الى حد كبير، واحداث ووقائع الاعوام الماضية اثبت ذلك.
ثانيا: والى جانب تغطيتها لمساحات واسعة، فأن اهدافها ليست محدودة ولا محددة بنطاق معين، بل انها تتمثل اساسا في القضاء على كل مظاهر العنف والارهاب وتهديد الامن والاستقرار في البلاد لا في الانبار لوحدها، وهذا ما اكده رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي ومسؤولين وقادة اخرين ، من بينهم وزير الدفاع سعدون الدليمي، وقائد القوات البرية الفريق اول الركن علي غيدان.
ولاشك ان شمولية الهدف-او الاهداف-يعني ان هناك استراتجية مبتنية على ادوات ووسائل ومسارات واضحة ومحددة، ولعل اشراك مختلف صنوف الجيش وتشكيلاته مثل القوات الجوية ومجاميع من القوات البحرية، والقوات الخاصة، والدروع والمدفعية والمشاة في تلك العمليات، الى جانب جهازي الاستخبارات والامن الوطني، يعكس الافق الواسع لما يراد تحقيقه والوصول اليه.
ثالثا:ادارة العمليات والاشراف عليها تمت على اعلى المستويات القيادية، بدءا من القائد العام للقوات المسلحة، ووزير الدفاع، مرورا بالقيادات الميدانية، مثل قائد القوات البرية، ومعاون رئيس اركان الجيش، وقائد عمليات الانبار، وقائد شرطة الانبار، الى جانب عدد من قادة الفرق العسكرية، والمستشارين والخبراء العسكريين والامنيين.
رابعا:حظيت تلك العمليات بتأييد ودعم واسع وواضح من مختلف القوى والشخصيات السياسية والدينية والعشائرية، ترافق مع دعوات ومطالبات بأستمراريتها حتى تحقيق الاهداف المطلوبة، الى جانب توسيع رقعتها لتشمل مناطق اخرى تعاني من سطوة الجماعات الارهابية المسلحة.
ولعلها من المرات القليلة التي تحظى فيها اجراءات وتحركات حكومية ذات طبيعة امنية وعسكرية بهذا النطاق الواسع من الدعم والتأييد، رغم الملاحظات والتحفظات والمؤاخذات والاعتراضات التي تبديها تلك القوى والشخصيات على اداء الحكومة وسياساتها في ادارة شؤون الدولة.
وطبيعي ان هذا الدعم والتأييد الواسع يعبر عن ادراك عميق لخطر الجماعات الارهابية، وتقدير سليم وصائب لضرورة مواجهتها والقضاء عليها بأسرع وقت ممكن، ويعبر ايضا عن تفهم واقعي لما يمكن ان يترتب عليها من اثار جانبية سلبية الى جانب النتائج الايجابية الكبيرة.
وحتى اشد المعترضين على الحكومة او المعارضين لها لم يتجرأوا على توجيه الانتقادات لها، كما هو دأبهم بأستمرار، لذلك فأنهم اما اثروا الصمت، او اكتفوا بأبداء بعض التحفظات الخجولة ليس الا.
وكان التفاعل والتجاوب الكبير والملموس من قبل شيوخ ووجهاء وعموم ابناء عشائر المناطق الغربية للعمليات العسكرية الاخيرة، بمثابة رسالة بالغة الاهمية عن حقيقة مواقف النسيج الاجتماعي هناك من الجماعات الارهابية المسلحة، لاسيما التابعة لتنظيم القاعدة، وماتحدث به عدد من شيوخ ووجهاء العشائر، مثل رئيس مجلس ابناء العراق الشيخ محمد الهايس، الذي استشهد نجله مؤخرا على ايدي الجماعات الارهابية، والشيخ ماجد علي السليمان، والشيخ احمد الهايس، والشيخ وسام الحردان رئيس مجالس الصحوات، يشير بوضوح الى حقيقة وجوهر تلك المواقف.
خامسا: ووفق معلومات شبه مؤكدة، كان هناك تنسيق بين العراق واطراف مجاورة، الهدف منه تضييق الخناق على الارهابيين وقطع الطريق عليهم، وعدم السماح لهم بأعادة تنظيم صفوفهم من خلال الحصول على ملاذات امنة اخرى، تعوضهم عن مافقدوه وسيفقدوه جراء عمليات الانبار الاخيرة، ولعل بعضا من كلام رئيس الوزراء الاردني عبد الله النسور خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره العراقي نوري المالكي في بغداد قبل عدة ايام يشير ضمنا الى هذا الامر، بقوله “نحن نواجه عدوا مشتركا”، ونفس الشيء بالنسبة لسوريا، التي من الطبيعي جدا ان تتخذ اجراءات مشددة للحؤول دون تدفق الارهابيين الفارين من العراق اليها، وهي التي باتت تطاردهم تحت كل شجر وحجر.
النتائج المفترضة
وعلى ضوء المعطيات المشار اليها انفا، فأن النتائج التي يفترض تبلورها من عمليات “ثأر القائد محمد” تتمثل في:
-انهاء بؤر التوتر ومصادر العنف والتحريض الطائفي المتمثلة بساحات الاعتصام في الفلوجة وسامراء ومناطق اخرى، والتي باتت اوكارا وقواعد لقيادات تنظيم القاعدة، وقد اكد رئيس الوزراء العراقي ان المعلومات الاستخباراتية المتوفرة لديهم، “تؤكد وجود اكثر من ثلاثين من كبار قيادات تنظيم القاعدة في ساحات الاعتصام”، لذلك فأن قرار فض تلك الساحات وتحديد مهلة زمنية لذلك بالتزامن مع العمليات العسكرية، مع وجود التأييد الكبير لتلك الخطوة من قبل العشائر ومختلف المكونات الاجتماعية، يعطي انطباعا واضحا على ان الامور سائرة بالاتجاه الصحيح.
-تجفيف جزء لايستهان به من منابع العنف والارهاب في العراق، ارتباطا بحقيقة “ان صحراء الانبار تمثل اما مفتاح الامن والاستقرار، او مفتاح الفوضى والاضطراب في العراق”.
-الفرز بين اصحاب المشاريع والاجندات الارهابية التخريبية، وبين من يبحثون ويسعون الى اصلاح الواقع، فالتوجه الحكومي الجاد لقطع دابر الارهاب، يساهم في تشخيص الجهات التي تدعم هذا التوجه وتسانده من اجل تخليص العراق من شرور الارهاب والارهابيين وترسيخ الامن والاستقرار، وبالتالي تعزيز فرص البناء والاعمار والنهوض، وفي ذات الوقت تشخيص الجهات التي تريد ابقاء الاوضاع السلبية الراهنة على ماهي عليه، حيث الجماعات الارهابية تعيث في الارض فسادا، وتزهق الارواح وتسفك الدماء من دون اي وازع ديني او اخلاقي، مستفيدة من الضخ المالي والاعلامي والعسكري الهائل من قبل اطراف خارجية معينة.
-استعادة الامن والاستقرار في مناطق واسعة من المحافظات الغربية (الانبار ونينوى وصلاح الدين) اضافة الى مناطق غرب بغداد، وهذا الاستقرار من شأنه ان ينسحب على مناطق اخرى من الجغرافية العراقية، بأعتبار ان القسم الاكبر من العمليات الارهابية التي تقع في مناطق الجنوب والوسط والفرات الاوسط يكون التخطيط لها وتنفيذها وتمويلها من مجاميع وخلايا متمركزة في المناطق الغربية اساسا.
-تخفيف حدة الاحتقان الطائفي-المذهبي في البلاد، الذي اوجدته الجماعات الارهابية من خلال استهدافها الدموي لكافة مكونات المجتمع العراقي، واعتداءاتها وتجاوزاتها على الرموز والمقدسات الدينية المختلفة، من اجل اثارة الفتنة فيما بينها، وتأليب هذا الطرف على ذاك.
خلاصة القول ان عمليات “ثأر القائد محمد” التي جاءت على خلفية اغتيال قائد الفرقة السابعة العميد الركن محمد الغروي وعدد من ضباط ومراتب فرقته قبل بضعة ايام في وادي حوران غرب الانبار، وان كانت متأخرة، الا انها تعد خطوة حازمة في الاتجاه الصحيح للتعاطي مع الملف الامني بما يفضي الى تغيير الحقائق والوقائع على الارض، وفي كل الاحوال تبقى مسألة الحفاظ على الانجاز اهم واصعب من تحقيق الانجاز بذاته.
[email protected]