قبل مكيافيللي كان فقه السياسة يتكئ على عكّازة أخلاقيّة، فلا يستطيع أمير وحاكم أو حتى بهلوان أن يغضّ الطرف عن الحكمة والفضيلة الأفلاطونية ولو من باب التستر بذلك، إذ أن الفساد والدسائس وألوان الرذيلة تملأ دهاليز قصور السلطة. الى أن جاء مكيافيللي أو نيقولا الشيطان كما وصفه وليم شكسبير في أحد فصول مسرحياته، مكيافيللي الذي سجل نصائحه السياسية في كتاب الأمير لم يفضح ما تتستر عليه الدولة وإنما وضع لذلك السلوك الغير أخلاقي مبررات بحكم لزومه في تحقيق الأهداف وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، حتى أن مكيافيللي أسرف بذلك الى حد اعتبار الأخلاق منقصة في السياسة. ومنذ الانحطاط الذي شرعته الميكافيللية للسياسيين حدث ما حدث للعالم وتحديدا دول العالم الثالث، باعتبار ارتكاز السياسة على منظومة أخلاقيّة تتناقض مع الممارسات الميكافيللية. هذا ما تقوم عليه غالبية الأنظمة السياسية في الدول الكبرى والمنظمات الدولية وتحديدا منظمة الأمم المتحدة، وفق مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. لكنّ المصيبة الكبرى التي انتهجتها منظمة الأمم المتحدة ومجلسها الأمني تكمن في تبنيها للميكافيللية في سلوكها السياسي مع الشرق الأوسط وتحديدا العراق وتسترها بعباءة الأمن والسلم الدوليين، وأكاذيب احترام سيادة الدول وطنطة الدفاع عن حقوق الإنسان. فلم تبقى حيلة أو نذالة أو فعل إجرامي وإرهابي تقوم به أمريكا وأخواتها إلا وبرره مجلس الأمن الى مستوى غسل عار الميكافيللية في بشاعة جرائمها وسلوكها الغير أخلاقي.
وتأسيسا لما تقدم، لماذا الاستغراب من تصريحات مجلس الأمن حول الانتخابات وكل هذه الدبلوماسية والإشادة، والأغرب أن الطبقة السياسية لم تتعض من العواقب الوخيمة التي خلفتها قرارات مجلس الأمن الهوجاء من دمار وخراب على جميع البلدان العربية ومنها العراق التي عصفت بها رياح الديمقراطية الصفراء.
أما السؤال لماذا نسمع كل هذه الإشادات والاستحسان بالانتخابات العراقية الان، ولماذا لم نسمع بها في كل عملية انتخابية جرت منذ 2003، فالإجابة على السؤال ستفضح ما جرى ويجري من مؤامرة على العراق؟
وعليه يستوجب فهم طبيعة كيف تصنع القرارات داخل مجلس الأمن، ذلك المجلس الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وبالتحديد (صهاينة الكونكرس).
لقد أتت تصريحات مجلس الأمن مباشرة بعد الاحتجاجات وثورة الغضب التي يشهدها الشارع العراقي من قبل جماهير القوى السياسية التي يطلق عليها (الخاسرة)، وتزامنت مع رفض قوى الإطار التنسيقي الشيعي لمخرجات العملية الانتخابية، هذا يدل ويؤكد على أن تصريحات مجلس الأمن ليست عفوية، وتقف خلفه قوى محركة لديها أهداف تتجاوز مطالب الشارع العراقي. ولا يمكن اعتماد ما أدلى به مجلس الأمن من تصريحات إعلامية كمبررات سياسية مقنعة على صعيد أهداف منظمة عالمية بحجم الأمم المتحدة ومجلس الأمن. من هنا فقد دق ناقوس الخطر لدى القوى السياسية الرافضة لنتائج الانتخابات في إشارة من القوى الكبرى بقلب الطاولة على بعض الكتل والشخصيات السياسية، أو احراج هذه القوى وإرغامها على القبول بالنتائج من وجهة نظر مجلس الأمن. بيد أن هذه التصريحات شكلت إنعطافة سياسية لدى القوى الرافضة، هذه الانعطافة لها تكاليفها في رصد حساب السياسة العراقية والإقليمية. لأن مساحة المناورة على ضوء تطورات الأحداث في العراق والشرق الأوسط لم تعد تسمح بمسك العصا من الوسط أو اللعب على الحبلين من قبل مجلس الأمن.
على أن هذه التصريحات رغم قوتها، إلا أنها تأتي في سياق المزايدة والسمسرة الأمريكية وليست موقفا سياسيا دوليا. وكان الأجدر من مجلس الأمن أن يوجه تصريحاته للناخب العراقي، لا أن تكون تصريحاته ورقة ضغط على القوى السياسية.
ووفقا لما تقدم، فإن تصريحات مجلس الأمن تأتي في إطار البروباغندا لمواجهة بعض القوى السياسية، لأن مجلس الأمن لا يعنيه اطلاقا ملف الانتخابات العراقية، وذلك لأن الإدارات التي شغلت مجلس الأمن منذ الاحتلال الأمريكي إلى اليوم، تتعامل مع العراق باعتباره ولاية أمريكية. بمعنى أن هذه التصريحات لا تمثل سوى ورقة يتم توظيفها من آن لآخر، إذا لم تنصاع القوى السياسية للولايات المتحدة الأمريكية كما ينبغي، عندها تلجأ أمريكا وعن طريق مجلس الأمن لممارسة بعض الضغط في ملف الانتخابات مثلا، لأنها تعلم يقينا أن هذا الملف تحديدا يمثل أهم وأخطر الملفات التي يمكن الضغط من خلاله على العراق.
أسباب التصريحات:
1. استبداد وتفرد الولايات المتحدة الامريكية بمجلس الأمن وتضيق مساحة الرأي بالنسبة لدول الأعضاء الآخرين، وعدم الاكتراث بعواقب ذلك على المستوى الدولي.
2. التناقض الواضح في سياسات مجلس الأمن، فتارة يتقرب إلى حكومات التطرف والاستبداد الراديكالية، وتارة أخرى يقدم نفسه داعما مخلصا للشعوب الفقيرة وحركات التحرر في العالم.
3. فشل الولايات المتحدة الأمريكية في معالجة الأزمات الاقتصادية والسياسية في العراق خاصة وهي راعية للعملية السياسية منذ تأسيسها.
4. فتح أبواب العراق للجماعات الأصولية والإرهابية، وقد نتج عن ذلك اعتبار العراق من الدول غير الآمنة، وتحميل الشعب العراقي أوزار وأعباء أثقلت كاهله بسبب تلك السياسة الخاطئة، وصلت انعكاساتها الكارثية إلى الرياضة لدرجة حرمان الشعب العراقي من مؤازرة منتخب بلاده للكرة على أراضيه.
طرق مواجهة تصريح مجلس الأمن:
على مستوى السياسة لا توجد مشاكل تستعصي على الحلول ولا توجد مطالب مستحيلة التحقق، فيما يخص حالة مجلس الأمن وتعامله مع نتائج الانتخابات سنحاول إجمال أفضل أساليب المعالجة والتعامل وفق ما يلي:
1. على جميع القوى السياسية، عدم الرهان الكبير على هذه التصريحات، وأنها فقط للمزايدة من قبل مجلس الأمن على أنه راعي للديمقراطية في العالم.
2. على السلطة التنفيذية أن تعلن تحمل مسؤوليتها أمام الشعب بسير العملية الانتخابية، ورفض تصريحات مجلس الأمن، خاصة وإن العملية لم تكتمل بعد بشكل نهائي، ولا تترك تقدير رد فعل هذه التصريحات للنخب الجماهيرية التي تحرص على الاستقرار وهي تدرك حجم الخطر الداهم في حالة انهيار العملية الانتخابية.
3. أن تبادر مفوضية الانتخابات بسرعة انجاز الطعون وسلك كل الطرق سواء بالعد والفرز اليدوي وغيرها، ولا تترك ذريعة يمكن استغلالها من قبل الجهات التي تتربص الذرائع في تأجيج الشارع العراقي وخلق حالة الفوضى العامة بما ينتج عن ذلك من عواقب وخيمة تبدأ بفقدان التوازن العام وشلل الدولة أو تخبطها في احتواء غضب الجماهير.
4. تجنب استخدام العنف في مواجهة غضب الشارع والاكتفاء بحماية المؤسسات والمرافق الحيوية للدولة مع تسخير جميع وسائل الإعلام في تهدئة روع الجماهير وامتصاص الغضب بكل الأساليب والطرق السلمية الممكنة.
5.مبادرة الحكومة بدعم مطالب القوى الرافضة لنتائج الانتخابات، من خلال قرارات تناغم رغبات الجماهير المنتفضة، وبما يتماشى مع متطلبات المرحلة، ولا بأس في عقد مؤتمر عام تشارك فيه جميع الأحزاب والقوى الوطنية لغرض الخروج من المحنة والمحافظة على الدولة والنظام العام.
6. أن تُعدل جميع القوى السياسية بدون استنشاء من سياساتها وتحديدا معالجة الخطاب السياسي، ذلك الخطاب الذي كان ومازال السبب الرئيسي في مشاكل العراق على المحيط الدولي والإقليمي، وتنأى بالعراق عن التوترات والصراعات التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل.