في ٢٥ تشرين الاول ١٩٢٠ ، تشكلت اول حكومة عراقية في التاريخ ، وكانت مجرد صورة ، بينما كان السير برسي كوكس هو مَن يدير البلاد ٠ وما كانت لتتشكل هذه الحكومة لولا قيام ثورة العشرين والتي اجبرت البريطانيين على تغيير سياساتهم واساليبهم في العراق ٠ لقد وضعت ثورة العشرين البريطانيين امام خيارين : اما تأسيس حكومة عراقية او الجلاء ( فيليب آيرلاند ( السفير الامريكي الاسبق في العراق ) – ص٢١٧ ) ٠ ويعترف كوكس نفسه بان الثورة ادت الى حصول هياج في لندن للمطالبة بالجلاء عن العراق ، وان الحكومة البريطانية نفسها كانت مضطربة جدا ( الوردي ج٦ ص٩ ) ٠ وهكذا كانت احداثها وماقبلها ( ١٩١٩ – ١٩٢٠ )، قد اطلقت عملية جديدة ، الا وهو النمو الصعب لمجتمع وطني عراقي ( بطاطو ج١ ص٤٢ )٠ ومن هنا كانت القيمة التاريخية لثورة العشرين ٠المفارقة ان شخصا صار فيما بعد رئيسا للوزراء – مزاحم الباججي – قال عنها للحاكم البريطاني : يؤسفني جدا ان تؤدي حماقات الافراد العرب الى ازعاج الامة البريطانية في مهمتها المشرفة ( الوردي ج٦ ص١١ ) ٠ والحقيقة ان ممارسات الادارة والجيش البريطانيين بحق العراقيين – وحسب قائد القوات البريطانية في العراق الجنرال هالدين – من سخرة وجمع طعام وسحب الزراع من حقولهم وتشغيلهم كعمال في الجيش وتقييد التجوال والاسفار واتباع السياسة السياسة الاستعمارية المألوفة في الهند من حيث معاملة الناس بخشونة واذلالهم ٠٠الخ ( الحسني – احداث عاصرتها ص٢٩) هي من اشعل الثورة ، فضلا عن مساعي الحاكم السياسي العام ويلسن لالحاق العراق كمستعمرة بالهند ( د وميض نظمي – الجذور السياسية ص٣٣٩) ٠
تشكلت الحكومة برئاسة عبد الرحمن النقيب ( ٧٨ سنة) من ثماني وزراء ، واضافوا لهم – في ٢٢ شباط ١٩٢١ – وزيرا شيعيا ، هو محمدمهدي بحر العلوم ٠ واستمر هذا النهج بعدها حيث يضاف وزير شيعي واحد لكل تشكيلة وزارية ثم صارا اثنين ، حتى بلغت النسبة الثلث في اواخر العهد الملكي ، ولكنها تراجعت في العهد الجمهوري ٠ وعموما فمن ٥٩ وزارة تشكلت في العهد الملكي كان منها ٥ وزارات فقط شكلها رؤساء وزراء شيعة ، اي ما نسبته اقل من ٩٪ ( العلوي – الشيعة والدولة القومية ص٢٠٠) ٠ وهكذا تم التأسيس لدولة علمانية عندما يتعلق الامر بالدين وطائفية عندما يتعلق الامر بالمذاهب ٠ وقد توقع البريطانيون ان تؤدي هذه السياسة الى الايقاع بين السنة والشيعة ( عبد الله النفيسي – دور الشيعة ص ١١٩) ٠
وكان ضمن هذه الحكومة ١٢ وزيرا بلا وزارة ( كان بينهم اربعة من الشيعة ) ٠ وقد عُين لكل وزير بحقيبة وزارية مستشار بريطاني يسيره ويوجهه ، وكان هو الحاكم الفعلي في الوزارة ، حتى صار الاهالي يقصدونه بدلا من الوزير ( الوردي ص ٢٦ ) ٠
خُصصت لهذه الحكومة ومستشاريها البريطانيين رواتب ضخمة ، حتى ان وزير العدلية مصطفى الالوسي لما استلم راتبه الاول ، فُوجئ بضخامته فصرخ : اللهم انصر الدين والدولة ( العمري – حكايات سياسية ص ٤٥ ) ٠
الغريب ان وزيرين من وزراء هذه الحكومة ( عبداللطيف المنديل واحمد الصانع) قادا – في حزيران ١٩٢١ – حملة لانفصال البصرة ، وجمعا ٥٤٠٠ توقيعا على طلب قدماه للمندوب السامي البريطاني ( الحسني – تاريخ الوزارات ج١ ص٩٨) ٠
وقد اختتمت هذه الحكومة عمرها بتتويج الملك فيصل الاول ملكا على العراق ، وتم التمهيد لذلك برفع مضابط من الاهالي بترشيح الملك فيصل ، وكان بعض المستشارين البريطانيين في الالوية ( المحافظات ) يوعزون للاهالي باضافة كلمات من قبيل : ترشيح الملك فيصل شريطة بقاء الوصاية البريطانية !!! وحولوا العملية بتدخلاتهم الى مهزلة حقيقية ٠ والطريف ان مدير ناحية طاووق نظم مضبطة بترشيح الملك فيصل ، ثم شاع في المساء ان الانگليز عدلوا عن ترشيحه ، فنظم مضبطة ثانية برفضه ، وفي الصباح سلمهما معا لمشاور اللواء البريطاني ( احداث عاصرتها ص٦٣) ٠
وهكذا اسس البريطانيون للكثير من المهازل والمساويء والمصائب في الحياة السياسية العراقية ، وفرضوها فرضا ، وكان اسوأها الدستور العراقي ( القانون الاساسي ) والذي صاغه البريطانيون انفسهم ( المصدر السابق ص ١٢٠ -١٣٩) ، والمعاهدة البريطانية العراقية ، وامتياز النفط والذي لامثيل له بالعالم حتى في بلد كالكويت عندما كانت امارة ( مذكرات احمد مختار بابان ص٢٠٥ و٢٤٦-٢٤٧ ) ٠٠٠وغير ذلك الكثير ٠
الخلاصة ، لقد اسس البريطانيون في العراق ، مااطلق عليه وبدقة الكاتب الفرنسي لويزار : دولة ضد مجتمعها ، فكانت عثمانية التفكير والروح والاساليب ٠ وللاسف انها لازالت كذلك ٠
الشيء بالشيء يذكر ، ان المس بيل سكرتيرة المندوب السامي وصفت صحيفة ( الاستقلال) العراقيه والتي كانت تدعو لاستقلال العراق بالبلشفية ، وبانها تقبض تمويلا ماليا ، ثم اغلقوها – في ٩شباط ١٩٢١ – وساقوا اصحابها الى السجون ( الوردي ص٣٤) ٠ وهكذا تتشابه الامبريالية تماما مع الديكتاتورية في كيل التهم وتلفيقها لمن يعارضها ٠