23 ديسمبر، 2024 10:58 م

للمروءات في “الطفوف” نكهتُها المتميزة وعبيرها الفواح …
إنّها لم تُكتبْ في صفحات التاريخ فقط ، وانما كُتِبتْ في صفحات القلوب ، فليس ثمة أغلى وأنبل من (الموضوعية) التي تُلخِص القيم الاخلاقية والرسالية كلها .
انها اللون الباهر من البطولة، العابرة لكل الحسابات المصلحية والدنيوية  التي تشدّ أصحابها الى الارض ، وتحرمهم من نعمة التألق في سماء المكارم العالية والمناقب السامية ….
إنَّ الأبطال في كربلاء، فتحوا عيون التاريخ على صورٍ لم تكتحل بها من قبل وهذه الصور الفريدة في حقيقتها معادلات جديدة، في صراع الحق الدامي مع الباطل ورموزه .
والملف الحسيني ، له لغتُه الخاصة، المتوهجة بحروفها ومعانيها ودلالاتها ومقاصدها وفضاءاتها البعيدة المدى ….
لغة الطفوف بطولةٌ وفداءُ
وحروفها الأشلاء والشــــــهداءُ
وبلاغة الأبطال أنَّ جراحهم
في كربلاء قصيدةٌ عصـــــماءُ
يشدو بها الأحرار عبر مسارهم
وبلحنها يتبرعم العظـــــــماءُ
وعلى شِفاه الدهر منها قصةٌ
تُروى وفيـــــها للأباةِ رواءُ
-2-
وحسبُنا- في هذه المقالة الوجيزة – أن نشير الى بعض المشاهد النابضة بالروائع ، والمثيرة لساخن المدامع :
بشر بن عمرو الحضرمي
قام بشر يقاتل يوم العاشر من المحرم، وجاءه في ذلك الحين من يخبره بان ولده أسيرٌ في الريّ فقال :
احتسبه عند الله ،
وما كنتُ أحبّ ان يؤسر ابني وأبقى بعده حيّا
ولما سمع الحسين مقالته ، قال له :
أنتَ في حِلٍّ من بيعتي ، فاعمل على فِكاك وَلَدِكَ ، فقال بشر :
” أكلتني السباعُ حيّاً ان فارقتُكَ، فأعطاه الامام (ع) ثيابا قيمتُها ألف دينار ليعطيها الى ولده محمد ليفتدي بها أخاه .
ما كان (بشر) ليترك الحسين ويمضي لاطلاق ولده من الأسر رغم ان الامام الحسين جعله في حلّ من بيعته ،
لماذا ؟
لان نُصرةَ الحسين ، والشهادة بين يديه، دفاعاً عن الحقّ وعن الاسلام المنتهك على يد الطواغيت من بني أمية ،والانسانية المعذبة لايمكن ان تقاس بقضية انقاذ ابنه من الأسر .
ان انشداده الى الحسين ونصرتِهِ، جعله في موقع الاصرار على المنازلة للظالمين بلا هوادة ودون ان يعروه ارتخاء أو ميل لاي قضية اخرى …
وهكذا استوعبته همومُ الرسالة فجعلته في قمة المجد والأصالة .
انها (الموضوعية) في أبرز تجلياتها، والبطولة في فصل مشرق من فصولها الخالدة .
وسلام عليه في الشهداء الاحرار .

مسلم بن عوسجه وحبيب بن مظاهر
حين صرع – مسلم بن عوسجه – يوم الطف، مشى اليه الحسين (ع) ومعه حبيب بن مظاهر، والحسين يقرأ قوله تعالى :
(من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )       الاحزاب /23
وكان بمسلم بن عوسجة رمق من الحياة، فقال له حبيب :
” لقد عزَّ عليّ مصرَعُكَ يامسلم ، أبشر بالجنة “
فأجابه مسلم بصوت ضعيف :
(بشرّك الله بخير يا أخي “
فقال حبيب :
” لو لم أعلم أني في الأثر، لأحببتُ ان توصي اليّ بكلّ ما أهمَّك “
ففتح مسلم عينيْه ، فرأى الحسين واقف عند رأسه فقال :
” ياحبيب
أوصيك بهذا خيراً ، وأشار الى الامام الحسين (ع) ، قاتِلْ دونه، لاتقصر عن نصرته ”
فقال حبيب :
” أفعلُ ورب الكعبة “
كانت الوصية بالحسين ، ولم تكن بأهلٍ، ولا عَرَضٍ من أعراض الدنيا وشؤونها .
وهكذا تتجرد النفوس الكبيرة من كل المفردات الدنيوية الصغيرة .
إنّ الأبطال تُشغلهم قضيتهم العادلة ، ولا تستهلِكُهُم الهموم الشخصية والعائلية …
وبهذا يتجلى الفرق بينهم وبين سواهم، من ذوي الارتهان بالمنافع والمصالح الموقوته …
الغفاريان
وجاء الغفاريان الى الحسين يوم الطف، ووقفا أمامه وهما يبكيان
فقال لهما الحسين :
ما يبكيكما …؟! ، اني أرجو ان تكونا بعد ساعة قريريْ العين .
قالا :
أبا عبد الله ، ما على أنفسنا نبكي ، وانما نبكي عليك ، نراك وحيداً وقد أحاط بك الأعداء ..
انهما كانا قد صمما على الشهادة بين يديْ الحسين ، ولكنّ الهاجس الذي روعّهما ، وأقَضّ مضجعهما، ودفعهما الى ان تنساب من عينيهما الدموع ، هو الوضع المتأزم الذي واجهه الامام الحسين (ع)،فهو أمام موج بشري متلاحم من أشرس الأعداء ، بينما هو وحيدٌ في الميدان، بعد مصرع الانصار الشجعان .
كانت دموعُ الغفارييْن أبلغَ خطبة في الكشف عما كان يعتمل في نفسيهما من مشاعر وخواطر وأحاسيس نبيلة .
ولن نستطيع ان نُوفّي حقها ببضع جُملٍ وكلمات .
انها عصارةُ الأخلاق، وخلاصةُ المعالي ، وقمة السمّو الرساليّ ، وزبدةُ الانسانية .
ان جراح الحسين (ع) في كربلاء هي جراح الرسالة والانسانية ، وجراحات أهل بيته وأصحابه، انما تستمد عظمتها من عظماته، فسلامٌ عليه وعلى من استشهد بين يديه كلما أشرقت الشمس ولألأت مصابيح الحق والهدى .

[email protected]