قلت لزميلي وقد ملّ سماع أفكاري: أتدري لماذا كانت التربية أولى من التعليم؟ ولماذا ينتمي قطاع التعليم بالجزائر إلى وزارة التربية؟ قال بنبرة حادة وجادة في آن: نعم، أدري لماذا التغبية أولى من التعليم، ولماذا قطاع التعليم ينتمي إلى وزارة التغبية؟
فهمت أنّ زميلي أعيته أفكاري الطوباوية، المؤمنة بأنّ الأسرة حاضنة هذا النشء، رجاء الأمة ودرع المستقبل، بعدها تسلمه أمانة للمدرسة، منارة العلم ومنهل المعرفة، فيأخذ المعلم الذي كاد أن يكون رسولا بيده إلى بر الأمان. لكن، هيهات أن تجد أفكاري صدى عند زميلي الذي أضناه الواقع المرير للمدرسة الجزائرية، المستسلمة للرداءة، المنتجة للسلع المتعفنة.
قال: تنتابني قشعريرة خفيفة وأنا أهيم بالخروج من البيت متوجها إلى الثانوية، تبدأ فرائصي بالاضطراب، مع دخولي إلى ساحة المؤسسة ورؤية صفوف التلاميذ الواحد تلو الآخر تنتظر تحية العلم للصعود إلى الأقسام. يبدأ قلبي في الخفقان ونفسيتي في الهيجان، وأنا أواجه هذه الجموع المفترسة التي ترى من الأستاذ فريسةيسهل الانقضاض عليها وتمزيقها إربا إربا، أوضحية المنظومة التربوية التي منحت كلّ الحقوق التربوية والاجتماعية لهذا المراهق في سن العشرين أو دونه قليلا. هو طفل بريء تحميه كلّ الحقوق الوطنية والدولية، وهو رجل يمكن أن يردي أستاذه قتيلا بلكمة واحدة. إنّه فارع الطول، قوية البنية، مفتول العضلات، له من الحرية ما لا يملكه والداه.يسهر مع زملائه بالشارع إلى ساعة متأخرة من الليل، يدخل البيت ليجد أمه تحضر له وجبة ساخنة، يستيقظ صباحا ليجد بجانب سريره مبلغا من المال. يخرج من البيت متوجها إلى مؤسسته خاملا، متذمرا من هذا السلوك الروتيني الذي يحياه يوميا، فيدخل إلى القسم وهو في حالة غضب وعياء، يرى في أستاذه مصدر أتعابه وشقائه، وفي حصة الأدب مادة مملة تجاوزها العصر، يرى في امرئ القيس والمتنبي وأبي تمام شخصيات غريبة عن عالمه، أيحق لهذا الأستاذ أن ينتقل بك من عالم الحاسوب واللوحات الإلكترونية إلى عصر قفا نبكي، أو أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي؟
ما أعيشه،يا زميلي، يعيشه أساتذة المواد الأخرى، فالرياضيات يراها هذا المراهق المدلل رموزا مبهمة، ويرى الفرنسية لغة المستعمر، والإنجليزية لغة العدو، والعلوم الشرعية مقيدة لحريته وحماقاته، أما المدرسة فهي السجن الذي يختفي فيه لساعات محروما من لهوه وصعلكته.
قال زميلي، موجها سؤاله لي: أتملك من راحة البال وسعة الصدر ما يجعلك تستوعب هذه النماذج في القسم؟ علما أنّ ضربه ممنوع، وتوبيخه ليس بيداغوجيا، وحرمانه من الفرض ليس قانونيا، واستدعاء والده غير مجد، وإحالته للمجلس التأديبي لا يفيد في شيء؟
قلت: لكن، عملية التربية صعبة وشاقة، لا يقدر عليها من لا يملك من المواهب التربوية ما يؤهله للتعامل مع هؤلاء المراهقين، وعملية البناء أصعب بكثير من عملية الهدم. لا بدّ من التسلح بالصبر والنفس الطويل.
قال: هو كذلك يا زميلي، عندما تُنشئ الأسرة جيلا مزودا بالخلق الجميل، وتسلمه للمدرسة، لتقوم هذه الأخيرة بدور المربي من خلال التأطير الجيد، وفرض الصرامة والانضباط على الجميع، ثمّ تمنح له الزاد العلمي الكافي للحصول على الشهادة في الحياة الدراسية، حينذاك يقول الوليّ موجها خطابه للمجتمع بأسره: قم للمعلم وفّه التبجيلا، ويردّ المعلمموجها خطابه للأم صانعة الأجيال: الأمّ مدرسة إذا اعددتها. ولجميع الطلاب يقول: أيّها الطالب الطموح إلى المجد تقدم.
إنّ العملية التربوية لا تتمّ في أجواء غير ملائمة، دون مرافقة الأسرة، واهتمام المسؤولين بقطاعهم، فالمعلم مربّ لكنه لا يملك عصا سحرية، نتاجه يظهر بالأخص، في العائلات الراغبة في التعلم. التلميذ محور العملية التربوية ليس ورقة بيضاء ولا عجينة تصنع منها المدرسة ما شاءت كما روّج لهذا بعض التربويين، التلميذرهين بيئته التي تمنحه الاستعداد للتعلم، أو التمرد على العملية التربوية. الكتاب (المناهج والبرامج) يصنعها الساسة والمربون الذين لهم أهداف وغايات يرغبون في تحقيقها بعد سنوات. وكلّ نقص أو خلل في هذه العناصر المكونة للعملية التربوية، تصبح العملية التربوية تغبية للأجيال الصاعدة.