بقلم محمد مختار ( كاتب وباحث )
المقدمة:
تتناول شهرزاديون موضوع تغييب الإنسان عن الواقع الذي يعيش فيه، وتأخذ المرأة نموذجا لذلك الإنسان المهمش، وتحاول الرواية في ثناياها أن تصل إلى الخفايا والكوامن وراء هذا التهميش ودوافعه من منطلقات حضارية وفكرية، وتجعل الشكل الهجين للمدينة التي نسيت قيم المدينة الأصلية هي إحدى أهم دوافع تلك المشكلة، وتعرض الرواية كيف يتعلم الإنسان من بعد فوات الأوان، بعد أن تكون المأساة قد جرفته، وحين يصبح فطنا حكيما يكون قد أضاع حياته. سوف نناقش تلك القضية بالاستعانة ببعض المفاهيم التي تزودنا بها الهرمينيوتيكا أو التأويلية، باعتبارها العلم الذي يصغي إلى كل الرموز والإشارات والنصوص والتراث والتحليل.
المبحث الأول – تصورات المؤلف للكتابة السردية:
إن دراسة تصورات الكاتب يشكل مفهوما يساعد في القراءة المخلصة للنص المدروس، ذلك لأن الكاتب يستطيع أن يلقي الضوء على ما يستعصي على التنظير ويتجاوز الأطر المفهومية لتجريب نموذج علمي ما. ومن هذا المنطلق نتعرف على رأي حامد بن عقيل في الكتابة قبل القيام بقراءة نصه.
تصور كاتب رواية شهرزاديون يعطي موقفا يصب إجمالا في التعرض بالنقد للرواية العراقية ، ويمكن اختصار هذا الموقف في عبارته التي يقول فيها: ((الحقيقة أنني ضعيف الإيمان بالرواية العراقية… . ومرد ذلك إلى مآخذ تشترك فيها مجمل الأعمال الروائية للكتاب العراقيين، أهمها: أن أغلب الروايات ((تنتهي أحداثها من أول صفحة!)) . والأهم من ذلك ((كثرة التفاصيل التي تصيب بالملل في أعمال روائية تعد من المطولات، تلك المطولات التي تجعل القارئ غير جدير بالثقة، لا دور له فتستغبيه وتلفظه خارج العمل ، ما عليه سوى أن يقرأ ويفهم وليس من حقه المشاركة في أن يمارس دورا إيجابيا في تأويل النص وفهمه)) .[1]
وحسب ما يرى ابن عقيل يتضح أن المواضعات التقليدية التي درجت عليها الرواية العراقية تغفل الوظيفة التي يسندها الأدب الرفيع إلى القارئ. وللتخلص من هذه التقاليد التي قادت الرواية العراقية إلى حافة الجمود لابد من مراعاة هذه الوظيفة خاصة أننا نعيش في عصر القارئ. هذا ما يصرح به ابن عقيل في كتابه النقدي (عصر القارئ) الذي قدمه بوصفه نموذجا في تأويل النصوص الأدبية الرفيعة .[2]
وحيث يبدو أن هناك خصائص معرفية تجعل من رواية شهرزاديون مشروعا يطمح إلى بذر نواة التجديد في الرواية العراقية، وتكوين اتجاه يشكل دورا واضحا للقارئ. ومن أهم علامات هذا التجديد أن رواية شهرزاديون تخلص النص من أغلال التصنيف الأجناسي [3]
أـ التشكيل البصري للنصوص:
تتكون الرواقي من ثلاثة عوالم سردية متجاورة، تتقاطع فيما بينها أحيانا، و وتتباعد في أحيان أخرى. وقد وظف النص تقنيات متعددة من التشكيل لتمييز كل فضاء منها، هذا التشكيل البصري يخلق من نفسه علامة وبناء على هذا التشكيل سنجعل الفضاء النصي الظاهر من خلال المعاني الإجمالية في الرواية، وحيث يظهر أنه من الواضح أن هناك ميلا نحو كتابة السير الافتراضية للشخصيات، وهو ما يعكس فلسفة خاصة للمؤلف تجاه ادوات السرد التي يوظفها في الرواية.[4]
5 ـ المفاهيم والمنهج:
أ ـ الهوية السردية Narrative Identity عبارة عن جزء من نظرية سردية واسعة تم تطوريرها على يد بول ريكور في عدد من مؤلفاته، وهي لا تتحقق إلا بالتأليف السردي وحده وما يهمنا هنا هو التركيز على وجهة النظر التي ترى أن كتابة تاريخ الآخرين ((تساعد الذات في فهم نفسها بطريقة أفضل)).[5]
ب ـ أما المفهوم الآخر الذي نستدعيه من فلسفة ريكور فهو الذاكرة السعيدة الذي يعتبر مكملا لمفهوم الهوية السردية، وينطلق من فلسفة خاصة للخير والشر، وهي أن الشر، وإن كان قد حير الفلاسفة واللاهوتيين وشكل تحديا مستمرا لهم، غير أن الإنسان ظل يمتلك استعداده الأصيل للخير. فالشر ليس بنية أصيلة في الإنسان، والمهمة الآن هي تحرير هذا الاستعداد الطيب لعمل الخير في داخل كل واحد منا، وهذه هي الحياة المنفتحة أمام مستقل البشرية .
ولما كان التلقي ينقسم إلى لحظات ثلاث متضامة فيما بينها هي:
– لحظة التلقي الذوقي، وفيها يستشعر القارئ جمالية النص منذ الوهلة الأولى.
– لحظة التأويل الاسترجاعي، وفيها يتم استجلاء المعنى انطلاقا من المبنى.
-لحظة الفهم أو القراءة التاريخية التي تعيد بناء أفق الاستشراف لدى القارئ، بحيث يصبح النص جوابا على سؤال في زمن إنشائه، كما يلاحظ ذلك ياوس.[6]
المبحث الثاني – شهرزاديون عناصر الكتابة والهوس :
وفقا لنظرية هايدجر في التأويل فإنه بوسعنا ونحن نبحث التأويل الموضوعي للنص الروائي الذي بين أيدنيا لرواية شهرزاديون أن نتجاوز النموذج الموضوعي التقليدي للموقف التأويلي القائم على ثنائية الذات والموضوع، وهو التجاوز الذي يمثل البناء الإيجابي لمفهوم وحدة الذات/الموضوع في رواية شهرزاديون، وينطبق على رواية شهرزاديون هنا المكمل للجانب الهدمي السالب المتمثل في نقد هايدجر للميتافيزيقا بشكل عام ومفهومها للذاتية التي عبرت عنها شخوص رواية شهرزاديون، ، حيث رأى أن النسق المفاهيمي للموضوعية الذي قامت الميتافيزيقا بتشييده طوال تاريخها إنما يقوم على اليقين الذاتي للذات العارفة، وما يترتب على ذلك هو أن الموضوعية كمفهوم إنما تقوم في واقع الأمر على أساس الذات بخلاف ما تدعيه. ويمكن من خلال تتبع ملامح الشخصيات في رواية شهرزاديون أن نلمح عناصر بشرية تختلط بملامح نفسية تقوم خارج قسمة (الذات/الموضوع) وسابقة عليها، موضوعية ترتكز في نقطة انطلاقها على وقائعية facticity الوجود البشري وتفسح المجال لهذا الوجود في الإعلان والكشف عن حقيقته كما يتضخ من خلال فصول رواية شهرزاديون.
ذلك أن المؤلف يعترف في كتابه ضمن عناصر السرد أن رمز الوردة أضحى رمزا مستهلكا؛ ((فتعدد دلالات الانثى كصورة رمزية جعلها فاقدة للمعنى، وهي كرمز مُستهلَك لا تمنح للمؤوّل إمكانيّة توظيفها في عمله التأويلي إلا حين يجد من القرائن الأخرى، والمبثوثة داخل النَّص الذي يعمل عليه فحسب، ما يجعلها تنحصر في دلالات محدّدة)) . لكننا مع ذلك نجد هذا الرمز ;المستهلك; في مواطن عدة وبالرغم أيضا من توظيف المؤلف لرموز أخرى للمرأة أقل استهلاكا أهمها ;القديسة;، وليليت; الأسطورية، وهو ما يبدو في رواية شهرزاديون
أما الذهنية الأخرى التي تمارس سلطتها من منطلق آخر، فهي التي جعلت ، الإنثي كما تظهر في رواية شهرزاديون رغم أنها ضحية الذهنية الذكورية من دون أن يكون لها ذنب فيما يمارس تجاهها إلا أنها لا تمثل النموذج الذي يلهم الكاتب؛ فهي خانعة قابلة للذل الذي تعيش فيه، إنها في حقيقة الأمر ;رمز مستهلك;، قانعة بـ ;حياة الدائرة.[7]
كل ما ترد به المرأة /الأنثى حين تمارس عليها هذه الانتهاكات هو الصمت ولا غير الصمت. هذا ما أبرزته الرواية بأشكال متعددة، ولكن في نفس الوقت يبدو أن العطش الملازم للكاتب، الذي عبر عنه النص بأشكال مختلفة، وأشكال الإغلال السردية التي تظهر من وقت لآخر لا يكاد يَثْبُت على خُلَّة؛ قال:
ولعل ما يحاول مؤلف رواية شهرزاديون أن يصل إليه هو أن يستحضر شخصية مبهمة تعلو في سماء السرد وتتسامي عن ملذاته الشخصية ليفكر في القضايا العظمى لبلاده وشعبه. حتى أنه كان يحاول حمايتهم من الشرور البعيدة عن جغرافيتهم، وفي غمرة انهماكه في دفع الشر عنهم كان يسائل نفسه عن معنى الخير ومعنى الشر. وما الشيء الذي يعد مقابلا للسلام؟
هذا التفكير الفلسفي هدى شخصية السارد في الرواية إلى اكتشاف سطوة التراث على الفرد في مجتمعه، ولاحظ أن هناك من يسعى إلى فرض وصاية على الذات لأن تبقى منغمسة في هذا التراث؛ لكي لا تتحول إلى غريبة عن محيطها وعالمها. فرأى أن يخلص الإنسان من هذه السطوة بأن يقحم شعبه في أتون حرب من نوع خاص.[8]
ومن خلال لقطات التنوير في الرواية نصل إلى أن لحظة التنوير التي يطلقها السارد (إيكو تحديدا) من الاندفاع في المقارنة بين العالم الممكن والعالم المرجعي، إلا أن العلامات التي يطل بها النص على واقعنا تمارس علينا نوعا من الإغراء يدفعنا إلى عقد مقارنات ومقابلات بين عالمنا وعالم الكاتب مع أننا لا ندعي الاطمئنان إليها تماما.
وحيث يسعى التحليل في قسمه الأول (لحظة التأويل) إلى بناء متن حكائي للنص فقسمه إلى ثلاثة فضاءات متمايزة للوصول إلى مرحلة أو لحظة الفهم، فالنص رغم تشابك فضاءاته الفرعية والأساسية يناقش أزمة واحدة هي أزمة الفرد في مجتمع الرواية، ويتخذ من قصة مريم باعتبارها أحد أفراد هذا المجتمع المأزوم مثالا يتعرض لأشكال مختلفة من ممارسات التهميش والتغييب.
اعتبرنا فيه أن الفضاء النصي الأساسي (عالم مريم) يحدد ملامح الأزمة وأبعادها ويضعها في إطارين عامين: بعد خارجي:
لكن الرسالة التي نستطيع أن نقرأها بوضوح هي: أن أي فرد منا يستطيع أن يكون أحد أولئك العظماء، هكذا يعلمنا السرد أن الفرد يستطيع أن يغادر دائرة الغياب إلى دائرة الحضور الأبدي، أي أن يكون ;مخلّصا; وعظيمًا. كل ما علينا فعله هو أن نطلق أصواتنا في الفضاء، ولا نستسلم لمن يريد أن يخرس ألسنتنا، ولنتذكر تلك النصيحة الواردة في النص[9]
الحالة النفسية
من خلال تتبع الحالة النفسية في النص تتضح الرموز والرؤية، حيث تجسد الحالة المتداعية في العراق، وانعكاسات الصراعات الأهلية والطائفية فيها، ويمتد ذلك ليعكس حال تأزّم العالم العربي ككل من خلال أحداث ميتافيزيقية، مثل انعدام القدرة على الإنجاب ما بين العراقي ساهر والسورية نسرين، حيث لا نجاة من الكوارث العربية التي لا تفضي إلا إلى الفناء، ولا يتبقى من أجل الحفاظ على الوجود الإنساني إلا محاولة الاحتفاظ بالقدرة على سرد الحكايا والموروثات الثقافية، حيث إن هدف الحكي الأصلي هنا هو «أن يدفع الموت بعيداً»، وكأن تخليد الواقع لن يتحقق إلا من خلال الخرافات، فيما تظهر بشكلٍ كبيرٍ قدرة سعداوي في خلق نفسيات قلقة تبغض الآخرين وتشكك في نواياهم حتى يصل بهم الأمر إلى الرغبة في إبادتهم، مثل قصة «عشبة الندم» التي إن لم يتندم متجرعها للمادة العشبية فينفجر بالبكاء، تعرض للموت، وكأن على الجميع التعرض لتأزّم وجودي جماعي، وهنا تظهر شخصية حنّون الساحر الذي يتبرّم حين ينتقده صديقه، ويجيبه بكل بساطة مدافعاً عن جرائمه: «أنا لم أقتلهم. هم قتلوا أنفسهم. لم يكونوا في أعماقهم يرغبون بالنّدم».
فعلينا أن نقتصر على اللحظتين الثانية والثالثة، على اعتبار أن المرحلة الأولى متضمنة في ما بعدها، ومن المعلوم أن هذا اللحظات متضامة فيما بينها وليس الفصل بينها إلا من قبيل الإيضاح المنهجي. وبناء على ذلك ستنقسم القراءة إلى لحظتين: لحظة تأويل: أي بهذا المعنى المحدد الذي يتعامل مع البنية الأسلوبية ويحاول تفكيكها، ولحظة الفهم: حيث لا مجال لفهم النص، إلا إذا ما أسند إلى بنية أسلوبية تسند إلى القارئ ليستجلي معناها من خلال التأويل.
ومن خلال نص الرواية التي تظهر بها ملامح لتهديد السارد هذا التهديد الذي يواجهه السارد ليس تهديدا شخصيا من عدو يترصد به، الشيء الذي تؤكده دوال الترقيم والروابط بين الجمل السابقة؛ إذ لا تعكس تلك الجمل حوارا ظاهرا بين الشخصيات بالمعنى المفهوم للحوار بقدر ما تبرز حوارا بين وعيين متنافرين: جمعي وفردي، وهو ما يتكرر من خلال صفحات رواية شهرزاديون.
المصادر
1- شلتاغ عبود شراد. مدخل إلى النقد الأدبي الحديث. دار الثقافة الحديثة. 2001 القاهرة.
2- محمد غنيمي هلال. النقد الأدبي الحديث، دار الشروق الدولية. 2001، القاهرة.
3- ، إبراهيم السعافين. مناهج النقد الأدبي الحديث، دار النيل للنشر . 2008 . القاهرة
4- انريك اندرسون امبرت.مناهج النقد الأدبي، دار المنهل للنشر والتوزيع. 2011 عمان.
5- محمد عبد المنعم خفاجي.مدارس النقد الأدبي الحديث، دار الاداب للنشر والتوزيع . 2008 القاهرة
6- محمد عبد المنعم خفاجي.النقد العربي الحديث ومذاهبه، دار المعارف للنشر والتوزيع. 2007 . القاهرة
7- أحمد كمال زكي.النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته، دار الصفوة الجديدة . عمان. 2008
8- محمد زغلول سلام النقد الأدبي الحديث، أصوله، واتجاهاته، ورواده، دار الثقافة العربية. 2008 . القاهرة
9 – إبراهيم خليل النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، الدار الجامعية للنشر . 2009 . القاهرة
10- مارك شوزر, أسس النقد الأدبي الحديث، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع. 2008 . القاهرة
[1] مارك شوزر, أسس النقد الأدبي الحديث، دار النهضة العربية للنشر والتوزيع. 2008 . القاهرة، ص 25
[2] محمد غنيمي هلال. النقد الأدبي الحديث، دار الشروق الدولية. 2001، القاهرة.ص 202
[3] – إبراهيم خليل النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، الدار الجامعية للنشر . 2009 . القاهرة ، ص 201
[4] شلتاغ عبود شراد. مدخل إلى النقد الأدبي الحديث. دار الثقافة الحديثة. 2001 القاهرة. ص 141
[5] – محمد زغلول سلام النقد الأدبي الحديث، أصوله، واتجاهاته، ورواده، دار الثقافة العربية. 2008 . القاهرة، ص 97
[6] أحمد كمال زكي.النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته، دار الصفوة الجديدة . عمان. 2008، ص 200
89
[7] محمد عبد المنعم خفاجي.مدارس النقد الأدبي الحديث، دار الاداب للنشر والتوزيع . 2008 القاهرة، ص 87
[8] انريك اندرسون امبرت.مناهج النقد الأدبي، دار المنهل للنشر والتوزيع. 2011 عمان. ص 47
[9] إبراهيم السعافين. مناهج النقد الأدبي الحديث، دار النيل للنشر . 2008 . القاهرة. ص 25