23 نوفمبر، 2024 4:16 ص
Search
Close this search box.

آدم ليس أول البشر – 12

آدم ليس أول البشر – 12

إبليس هذه الشخصية أو المفهوم الشهير الذي يعتبر العدو الرئيسي للبشرية منذ عصر آدم والى يوم الوقت المعلوم، وهو شأنه شأن الملائكة كيان معنوي ليس له مادة، وكما تعرفنا على نبذة تقريبية سابقاً عن الملائكة نحاول هنا أن نتعرف على شخصية إبليس، وكيف ومتى بدأت قصته ومتى تنتهي في المستقبل؟.
بداية يؤكد القرآن وكذلك الروايات أن تاريخ إبليس سابق على عصر الإنسان كما في قوله تعالى : ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ)). الحجر 26 ــ 27. باعتبار أن إبليس ينتمي إلى جنس الجن ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)). الكهف50.
ولكنه ليس سابقاً على عصر البشرية بالمعنى العام، فلفظ الإنسان والبشر ينطبق على عصر آدم فما بعده، أي عصر الإنسان الواعي كما أسلفنا، وسنجد لاحقاً أن نشأة الجان والبشر في فترة واحدة من حيث أصل الخلقة منذ وجود الحياة الأولى على الأرض. مع الإلتفات أن مصطلح (جن، جان) له مفاهيم متعددة منها كائن معنوي مثل إبليس، وآخر مادي وهو المخاطب في القرآن وعليه الحساب والعقاب شأنه شأن الإنسان، وهذا الصنف هو بشر إعتيادي وهو ما سيأتي تفصيله.
وكان لإبليس دور أساسي كقانون متوافق مع الحياة على الأرض ما قبل آدم، نقرأ أولاً بعض النصوص ثم نعاود محاولة فهمها قدر استطاعتنا.
ورد في القرآن ما يفهم منه مرة أن إبليس كان من الملائكة وأخرى أنه ليس منهم :
((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)). البقرة34. فالخطاب هنا متوجه إلى الملائكة بالتالي فإن إبليس أحدهم. وجاء في آية أخرى ما يفهم منه أنه ليس منها : ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)). الكهف50.
وجاءت بعض الروايات لتؤكد أن هناك اختلافاً أو تعارضاً حسب الظاهر، مع أنه لا يوجد تعارض كما سيأتي :
روى العلامة المجلسي : ((قصص الأنبياء : بالإسناد إلى الصدوق عن أبيه، عن سعد، عن ابن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج قال : سألت أبا عبد الله “عليه السلام” أكان إبليس من الملائكة أم من الجن؟، قال : كانت الملائكة ترى أنه منها، وكان الله يعلم أنه ليس منها، فلما أُمر بالسجود كان منه الذي كان)). ثم علَّق المجلسي على هذا الخبر قائلاً :
((إيضاح : اعلم إن العلماء اختلفوا في أنه هل كان إبليس من الملائكة أم لا، فذهب أكثر المتكلمين لا سيما المعتزلة وكثير من أصحابنا كالشيخ المفيد قدس سره إلى أنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن، قال : وقد جاءت الأخبار به متواترة عن أئمة الهدى “سلام الله عليهم” وهو مذهب الإمامية، وذهب جماعة من المتكلمين وكثير من فقهاء الجمهور إلى أنه منهم، واختاره شيخ الطائفة “رحمه الله” في التبيان قال : وهو المروي عن أبي عبد الله “عليه السلام” والظاهر في تفاسيرنا، ثم اختلفت الطائفة الأخيرة فقيل : إنه كان خازناً للجنان، وقيل : كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وقيل : كان يسوس ما بين السماء والأرض)). بحار الأنوار 11 : 144.
وروى أيضاً : ((تفسير العياشي : عن جميل بن دراج قال سألت أبا عبد الله “عليه السلام” عن إبليس أكان من الملائكة أو كان يلي شيئاً من أمر السماء؟، فقال : لم يكن من الملائكة، وكانت الملائكة ترى أنه منها، وكان الله يعلم أنه ليس منها، ولم يكن يلي شيئاً من أمر السماء ولا كرامة، فأتيت الطيار (أحد أصحاب الإمام الصادق) فأخبرته بما سمعتُ فأنكر، وقال : كيف لا يكون من الملائكة والله يقول للملائكة : “اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس”، فدخل عليه الطيار فسأله وأنا عنده فقال له : جعلت فداك قول الله عز وجل : “يا أيها الذين آمنوا” في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقون؟، فقال : نعم يدخلون في هذه المنافقون والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة.
بيان : حاصله أن الله تعالى إنما أدخله في لفظ الملائكة لأنه كان مخلوطاً بهم و كونه ظاهراً منهم، وإنما وجه الخطاب في الأمر بالسجود إلى هؤلاء الحاضرين وكان من بينهم فشمله الأمر، أو المراد أنه خاطبهم بـ(يا أيها الملائكة) مثلاً وكان إبليس أيضاً مأموراً لكونه ظاهراً منهم ومظهراً لصفاتهم، كما أن خطاب يا أيها الذين آمنوا يشمل المنافقين لكونهم ظاهراً من المؤمنين، وأما ظن الملائكة فيحتمل أن يكون المراد أنهم ظنوا أنه منهم في الطاعة وعدم العصيان، لأنه يبعد أن لا يعلم الملائكة أنه ليس منهم مع أنهم رفعوه إلى السماء وأهلكوا قومه، فيكون من قبيل قولهم عليهم السلام : “سلمان منا أهل البيت” على أنه يحتمل أن يكون الملائكة ظنوا أنه كان ملكاً جعله الله حاكماً على الجان، ويحتمل أن يكون هذا الظن من بعض الملائكة الذين لم يكونوا بين جماعة منهم قتلوا الجان ورفعوا إبليس)). المجلسي، بحار الأنوار 11 : 148.
وقال أمير المؤمنين “عليه السلام” : ((فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذا أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عَبَدَ الله ستة آلاف سنة لا يُدرى أَمِنْ سني الدنيا أم سني الآخرة عن كِبَرِ ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصية؟، كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها مَلَكاً، إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد)). شرح نهج البلاغة، محمد عبده 2 : 139.
نلاحظ في هذه الرواية أن أمير المؤمنين يجعل إبليس كأحد الملائكة وسنرى أنه منهم بصورة ما. كما أنه جعله من أهل السماء أي هو من الكائنات غير المادية، وأهل السماء تعبير عن القوى أو القوانين التي تدير عالمنا الأرضي، ولكن بشكل متفاوت من قوة إلى أخرى.
عرفنا فيما مضى من الحلقات ماهية الملائكة ودورها كقوى تدير الظواهر والقوانين على الأرض، فكيف يكون إبليس في يوم منهم وفي يوم آخر ليس كذلك؟.
نعرف أن للحرب قوانينها، وللسلم قوانينه، وللفوضى قوانينه، وللنظام والحضارة قوانينها، نُمَثِّل برجل من رجالات الحرب وفي عصر الفوضى، وهؤلاء يكونون ضرورة عند الاضطرابات والفساد، باعتبار أن لهم شخصيتهم التي تتناسب والتعامل مع الأحداث والمخربين، ولكن عندما ينتهي عصر الفوضى والحروب ويبدأ عصر البناء والنظام لا بد لهؤلاء من أحد أمرين، الانسجام مع التطور والعصر الجديدين بالتالي ينخرطون ضمن المنظومة السائدة والتي فرضها الواقع الجديد فيتولون مهام جديدة ضمنه، أو التمرد على هذا الواقع والعصر الجديدين بالتالي يصبحون مشكلة وخارجين على القانون، ولنا في عالمنا البشري الكثير من الأمثلة عن قيادات مهمة في الجيش أو السياسة فرض وجودهم واقع فاسد وكانوا خير من يتعامل مع هذا الواقع الفاسد، لأن القوة والفساد تتطلب أحياناً شخصيات ذات قلوب ميتة أو قاسية كما نعبِّر، ومن أمثلتنا ستالين الذي هو من أشهر طغاة القرن العشرين، ولكنه استطاع أن يقف بوجه طاغية وإعصار آخر هو هتلر، وبالفعل نجح ستالين في إيقاف زحف النازية وهزيمتهم بعد حصار ستالين غراد، ومن ثم بدأ العد التنازلي للقضاء على هتلر ونازيته، ولكن بعد إنقضاء الحرب العالمية الثانية توجه ستالين بكل ما يمتلكه من قوة قلب وقساوة ضد شعبه، وقتل في فترته مئات الآلاف وربما الملايين من الأبرياء لمجرد الاشتباه والتهمة من دون دليل، وقتل العديد من المقربين إليه تحت وطأة الريبة والشك وهاجس المؤامرة، هذا المثال التقريبي سنطبقه على إبليس.
فقد اتفقت الروايات على أن إبليس كان أحد رجالات (قوانين) الحرب أي أحد القوانين التي سادت في عصر ما قبل الوعي، وعندما اعتبرت الروايات أنه كان يعبد الله في السماء 2000 ـــ 7000 سنة أكثر أو أقل، فهي تعبِّر عن العبادة والسجود الذي سبق أن فصلناه عن عبادة الكائنات في العالم سواء كانت الملائكة أو الشمس أو القمر أو الأشجار وغيرها، وهي عبارة عن تأديتها وظيفتها في هذا العالم من دون تخلف أو عصيان، أي أنها تسير وفق السنة والقانون الطبيعي الذي يتلائم كل مع عصره، فالنار (مثلاً) تسبح ولكنها مرة تدمر وأخرى تنفع، وكل من الأمرين له قانون وسنة، ونعرف أن إبليس هو الكائن الشرير أي القوانين والنزوات والشهوات التي نعتبرها شريرة، ولكن متى اعتبرناها شريرة ومرفوضة؟. الآن نعتبرها كذلك أي بعد عصر الوعي، ولكننا لو عدنا بالزمن الى ما قبل آدم وشاهدنا الفوضى التي كانت على الأرض والتي عبَّر عنها القرآن بالفساد وسفك الدماء لم يكن القانون المناسب لتلك الكائنات ــ ومنها البشر ــ ما قبل الوعي غير القانون المدمر والدفع نحو المزيد من الفساد، فعندما تكون الصلات بين الكائنات صلات حيوانية ويكون القانون هو البقاء للأقوى فليس من نظام متناسب معه سوى قانون إبليس، إذ لم تكن الكائنات ومنها البشر مستحقة بعد للسلام، لأنها لم تكن تعي بعدُ معنى السلام لأنها لا زالت في عصر ما قبل نفخ الروح أي عصر الغاب، عندما نقول إن هناك (قانون الغاب) و (البقاء للأقوى) كما نشهده اليوم في مناطق من أفريقيا وغيرها، فإننا نعبر بصورة أخرى عن قانون يتزعمه إبليس، ولم يكن هذا القانون في تلك العصور قانوناً غريباً أو مستهجناً، وحتى اليوم فإننا لا نلقي باللوم على عالم الحيوان حينما يفترس أحدها الآخر، بل وحينما تأكل بعض الحيوانات أشبالها وفراخها، لأننا بكل وضوح نتفهم بمستوى من المستويات ما هي عليه، فهي قد خلقت بهذه الصورة ولا تمتلك من العقل كما نمتلكه، وعندما يقوم شخص بارتكاب جريمة مستهجنة فإنما نستهجنها بعقليتنا الحالية وليس بعقلية ما قبل الوعي، وقد وضع الفلاسفة والمتكلمون مبدأ (الحسن والقبح العقليين) أي أن هناك فعلاً تستقبحه النفوس البشرية، وهناك فعلاً تستحسنه النفوس البشرية، مثلا ً القتل قبيح من دون مبرر، ولكن متى أصبح هذا المبدأ صحيحاً؟، وهل هو صحيح بخصوص البشر أو كل الكائنات؟، وهل هو صحيح في كل العصور والأزمنة أم لزمن دون آخر؟. واقع الحال أنه صحيح في زمن دون آخر، ولمكان دون آخر، وإنما تميز البشر بأنهم أعلى الكائنات الأرضية عندما وضعوا القوانين، مهما كان مستوى هذه القوانين، أو زمنها، ولكن العالم ما قبل الوعي لم يكن يعرف القوانين والأنظمة والتشريعات، بالتالي فإن الحديث عن الحسن والقبح العقليين مثار للسخرية.
ولكن هذا ليس صحيحاً تماماً، فمن الواضح أن هناك أموراً نعدها الآن قبيحة ولكنها كانت حسنة وضرورية في عصر الفوضى، وهذا الأمر نشهده في عصورنا هذه فكيف بعصر ما قبل الوعي، حينما كان القوي يأكل الضعيف ويقتله حتى من دون الحاجة الى ذلك، وقد استمر هذا العصر طويلاً، وهذا العصر كان بطله إبليس الذي تكفل مهمة محاربة الكائنات الفوضوية عبر الاقتتال والأمراض ومختلف أشكال الإبادات، ولولا هذا القانون لما وصلت البشرية إلى عصر الوعي، إذ لولا القضاء على المخلوقات العابثة في الأرض لم يكن من الممكن للإنسان أن يأخذ مكانه بوجودها، ومن أهم تلك الكائنات إنسان ما قبل الوعي الذي أفسد في الأرض وسفك الدماء، وليس هو الوحيد الذي كان يقوم بذلك كما أصبح معلوماً من خلال الاكتشافات، وعندما بدأت ملامح تطور الإنسان وأصبحت الأرض مهيأة لاستقباله آن الأوان لإيقاف قانون الغاب والاقتتال لأنه لم يعد متناسباً مع الهدف من وجوده، فكان هذا الحوار التكويني بين الله وبين قوانينه (الملائكة ومنهم إبليس).
وأجد من المناسب أن أذكر ما سطره قلم العلامة الطباطبائي في هذا الموضع الذي جرت فيه تلك المحاورة التكوينية بين الله تعالى والملائكة وبينه وإبليس :
((الذي ذكرناه آنفا أن القصة بما تشتمل عليه بصورتها من الأمر والامتثال والتمرد والطرد وغير ذلك وإن كانت تتشبه بالقضايا الاجتماعية المألوفة فيما بيننا لكنها تحكي عن جريان تكويني في الروابط الحقيقية التي بين الإنسان والملائكة وإبليس، فهي في الحقيقة تبيِّن ما عليه خلق الملائكة وإبليس وهما مرتبطان بالإنسان، وما تقتضيه طبائع القبيلين بالنسبة إلى سعادة الإنسان وشقائه، وهذا غير كون الأمر تكوينياً. فالقصة قصة تكوينية مثلت بصورة نألفها من صور حياتنا الدنيوية الاجتماعية كملك من الملوك أقبل على واحد من عامة رعيته لما تفرس منه كمال الاستعداد وتمام القابلية فاستخلصه لنفسه وخصه بمزيد عنايته، وجعله خليفته في مملكته مقدماً له على خاصته ممن حوله فأمرهم بالخضوع لمقامه والعمل بين يديه، فلباه في دعوته وامتثال أمره جمع منهم، فرضي عنهم بذلك وأقرهم على مكانتهم، واستكبر بعضهم فخطَّأ الملك في أمره فلم يمتثله معتلاً بأنه أشرف منه جوهراً وأغزر عملاً، فغضب عليه وطرده عن نفسه وضرب عليه الذلة والصَغَار، لأن الملك إنما يطاع لأنه ملك بيده زمام الأمر وإليه إصدار الفرامين والدساتير، وليس يطاع لأن ما أمر به يطابق المصلحة الواقعية، فإنما ذلك شأن الناصح الهادي إلى الخير والرشد. وبالتأمل في هذا المثل ترى أن خاصة الملك ــ أعم من المطيع والعاصي ــ كانوا متفقين قبل صدور الأمر في منزلة القرب مستقرين في مستوى الخدمة وحظيرة الكرامة من غير أي تميز بينهم حتى أتاهم الأمر من ذي العرش فينشعب الطريق عند ذلك إلى طريقين ويتفرقون طائفتين : طائفة مطيعة مؤتمرة، وأخرى عاصية مستكبرة. وتظهر من الملك بذلك سجاياه الكامنة ووجوه قدرته وصور إرادته من رحمة وغضب وتقريب وتبعيد وعفو ومغفرة وأخذ وانتقام ووعد ووعيد وثواب وعقاب، والحوادث كالمحك يظهر باحتكاكه جوهر الفلز ما عنده من جودة أو رداءة. فقصة سجود الملائكة وإباء إبليس تشير إلى حقائق تشابه بوجه ما يتضمنه هذا المثل من الحقائق، والأمر بالسجدة فيها تشريفه تعالى آدم بقرب المنزلة ونعمة الخلافة وكرامة الولاية تشريفاً أَخضع له الملائكة وأَبعد منه إبليس لمضادته جوهر السعادة الإنسانية فصار يفسد الأمر عليه كلما مسه، ويغويه إذا اقترب منه، “كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله”. وقد عبَّر الله سبحانه عن إنفاذه أمر التكوين في مواضع من كلامه بلفظ الأمر أو ما يشبه ذلك كقوله : “فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين” السجدة 11، وقوله : “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها” الأحزاب 72، وأشمل من الجميع قوله : “إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون” يس 82)). الميزان في تفسير القرآن 8 : 27 ــ 28.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أي حديث أو حوار لم يجر بين الملائكة وآدم من ناحية، وبينها وبين إبليس من ناحية أخرى، وبين إبليس وآدم من ناحية ثالثة، لأن مثل هذا الحوار غير ممكن كما أسلفنا، ولكنه حوار ممكن وصالح بين تلك الكائنات أو القوى أو القوانين (ما شئت فعبِّر)، وبحكم معرفتنا بطبيعة عمل إبليس كقانون يدعو إلى الفساد بكل أشكاله نتفهم الآن بوضوح رفضه للسجود، ولكننا قبل ذلك لا بد أيضاً من أن نعرف أن هذه الأحداث والحوارات جرت من دون علم آدم، كما أن مثل هذا الصراع بين قوى الخير والشر نلمسه ونحسه ولكننا لا ندركه بحقيقته، لأن أحداث الطبيعة حتى لو عرفنا مقدماتها إلا أننا نجهل أثرها كما في العواصف أو الفايروسات، فربما تكون العاصفة عابرة وربما تكون مدمرة، كما أن الفايروس ربما يكون (نزلة برد عادية) وربما يكون قاتلاً.
وكما أن آثار القنبلة النووية تفسد في الأرض بحيث تصبح غير قابلة للحياة بكل أشكالها إلى وقت لسنا من يحدده وإنما قوى الطبيعة هي التي تتكفل بهذه المهمة، لأن قوى الفساد وقوى الصلاح تتعامل فيما بينها وفق قوانين تخصها ليس لنا أي يد فيها سوى ما خوَّلتنا به وأعطتنا أزمته، ولكننا في أحيان كثيرة نقف عاجزين حتى تحل الطبيعة مشاكلها بنفسها.
وسيتكشف الأمر بوضوح أكبر عندما نعرف خطيئة آدم وحواء، التي هي بالواقع ليست خطيئة بالمعنى الشرعي أو العرفي، وإنما هي حدث أملته طبيعة الغريزة في الإنسان، ولكن الغريزة هي الأخرى يترتب عليها آثار معينة نادراً ما تتخلف كما سنرى. بإذن الله تعالى.
وهكذا عَبَدَ إبليسُ ربَّه لدهور طويلة وكان قائد الملائكة في الأرض، أي سيد القوانين على الأرض في عصور الفوضى، وقام بدوره على أتم وجه، ولو ترك هذا القانون على طغيانه السابق لفنيت البشرية أو استمرت في سيرها الفوضوي، ولكن الكف من غلوائه وتقييد قوته جاء عن طريقين، الأول : هو الملائكة، أي القوانين التي تواجه القانون الشرير، ونعود مرة أخرى الى قانون الغاب، فعندما تتكاثر الحيوانات المفترسة في منطقة ما سيؤدي هذا التكاثر الى قلة الحيوانات الأخرى التي يحتاجها البشر ليعيش إما لهجرتها أو نقصان عددها بسبب الافتراس، وهنا يأتي دور القانون الآخر المضاد لقانون الغاب، فيتسلط على تلك الحيوانات المفترسة فيقضي عليها بأي شكل كان، وعندما يكون القانون السائد هو المادية الصرفة التي هي شكل من أشكال الحيوانية أو (الداروينية الاجتماعية) كما في الحضارات المادية السابقة والحالية، فإن هناك قانوناً آخر سيتسلط عليها، ويؤدي إلى فنائها، فكما عرفت البشرية فترات الشدة والظلم فإنها عرفت فترات الرخاء والعدل، وكل من هذه له قوانينه.
لذلك رفض إبليس أي قانون الغاب والشهوات غير المنضبطة أن ينصاع للعصر الجديد، لأنه هو الآخر ضرورة، ونلاحظ أن إبليس بعد أن رفض السجود والخضوع للقادم الجديد، فإنه أُعطي صلاحيات ولكنها محدودة جداً، وفي نفس الوقت مؤثرة جداً، فبدلاً من قدراته على التدمير الكلي، لإنه أصبح يمثل النزوات الجزئية التي نعايشها لحظة بلحظة، يرافقها مضاد آخر هو الجانب الواعي والخير الذي عبرت عنه آي القرآن بالروح التي نُفخت في الإنسان منذ أقل من عشرة آلاف عام مضت. فالإنسان قبل الوعي كان مجرد غريزة وشهوة وحب البقاء على حساب الغير، أما ما بعد الوعي فهناك العقل والجانب الإنساني الذي وازن الكفة، وأصبح لإبليس دور جزئي في حياة البشر، ولكنه دور مناصفة مع الجانب الإنساني “الملائكي”، بالتالي فإن إبليس هو إرث حملته البشرية منذ وجودها على الأرض، واستمر سيداً عليها حتى لحظة الوعي، وبما أن لإبليس قوة ليست بالهينة لم يكن الإنسان بقادر على المضي قدماً من دون مساعدة، فجاءت المساعدة من قوة أخرى هذه القوة التي نقلته من عصر الفوضى إلى عصر الحضارة الإنسانية.
وهكذا أصبحنا متفهمين (ولو بصورة تقريبية) لحقيقة إبليس ودوره، وقادرين على فهم النصوص الآتية :
روى الميزرا محمد المشهدي المتوفي سنة 1125 هـ :
((“إلا إبليس” : اختلفوا في أنه من الملائكة، أو من الجن، والحق هو الثاني. يدل عليه ما رواه علي بن إبراهيم قال : حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : سُئل عما نَدَبَ الله الخلق إليه، أدخل فيه الضُّلَّال؟، قال : نعم ، والكافرون دخلوا فيه، لأن الله تبارك وتعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم فدخل في أمره الملائكة وإبليس، فإن إبليس كان مع الملائكة في السماء يعبد الله، وكانت الملائكة تظن أنه منهم، ولم يكن منهم، فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أَخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلمت الملائكة عند ذلك أن إبليس لم يكن منهم، فقيل له “عليه السلام” : فكيف وقع الأمر على إبليس وإنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم؟، فقال : كان إبليس منهم بالولاء ولم يكن من جنس الملائكة، وذلك أن الله خلق خلقاً قبل آدم وكان إبليس فيهم حاكماً في الأرض، فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء، فكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم)). تفسير كنز الدقائق 1 : 232 ــ 233.
وأعتقد أننا أصبحنا نفهم معنى كون إبليس من الملائكة وليس منها في نفس الوقت، كما أصبحنا نفهم كيف كان يعبد الله ويسجد له، وأما معنى أن الملائكة أسروا إبليس فمعناه أنه كان قانوناً مطلقاً على الأرض في عصور فوضوية، وفي عصر ما أصبح من الضروري تقليل عنفه لكي لا يصل إلى مستوى إبادة الكائنات على الأرض، وقتل الإنسانية أي الميزات الخاصة بالإنسان وأصبح يتقدم في طريقة حياته ويفارق عالم البهائم، التي بدأت تتدرج في الظهور لتصل إلى مرحلة آدم بعد عدة آلاف من السنوات. وكان هذا التحجيم لدور إبليس أو تقنينه هو ما عبرت عنه الروايات بأسره، أي أنه انسجم مع الغايات العليا لتهيئة الأرض للبشر الواعي، فأصبح قانوناً متماشياً مع القوانين الأخرى، وتكفَّل كما تذكر بعض النصوص مهمة القضاء أو تقليل عدد الكائنات الأخرى التي ستقف حائلاً دون فسح الطريق أمام الإنسان الوعي، وكان من الممكن لهذا القانون لو خُلي دون مواجهة قوانين أخرى أن يقضي على البشر أو الأصح يقضي على بشريته وتمايزه عن باقي الكائنات.
روى الشيخ الصدوق :
((عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن حسان، عن (الحسين، الحسن) علي بن عطية قال : قلتُ لأبي عبد الله “عليه السلام” : حَدِّثني كيف قال الله لإبليس “فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم”؟، قال : لشيء كان تقدم شكره عليه، قلت : وما هو؟، قال : ركعتان ركعهما في السماء في ألفي سنة، أو في أربعة آلاف سنة)). علل الشرائع 2 : 225.  وتفسير القمي 1 : 42، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة.
وروى الصدوق بالإسناد أعلاه : ((قال أبو عبد الله “عليه السلام” : أن إبليس عَبَدَ الله في السماء سبعة آلاف سنة في ركعتين، فأعطاه الله ما أعطاه ثوابا له بعبادته)). علل الشرائع 2 : 226. والعياشي 2 : 241 ــ 242، وفيه ستة آلاف سنة.
ولكي تتضح الصورة أكثر نتعرف على مواصفات إبليس كما جاءت في النصوص الإسلامية :
وأول أمر نعرفه عن إبليس أن فيه شبه من الملائكة التي أُمرت بالسجود لآدم، فإذا سلمنا بالنتائج التي ذكرناها عن الملائكة فيما مضى ستكون حقيقة إبليس أنه قوى معينة لها صفات متفقة مع الملائكة إلا أنها في الجانب الآخر، أي كل ما من شأنه جلب الشر للإنسان سواء عبر غرائزه الحيوانية والتي تدفعه الى العمل بما يكسب فيه اللذة لنفسه على حساب الآخرين. ولكن الفارق بينه وبين الملائكة أنها إضافة الى كونها مؤثرة في النفس كعوامل أو خواطر فهي قوى لها سلطة التأثير والتسيير للظواهر الكونية، أما إبليس فليس له أي أثر على العالم المادي الخارجي، وليس له سلطة التأثير على بدن الإنسان وإنما غاية ما يملك هو الوسوسة والترغيب بالباطل والإغواء عن طريق جنده وأدواته. لذلك ذكرت الروايات أن الملائكة كانت تظن أنه منها ولكن اتضح أنه ليس كذلك.
قال تعالى : ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)). الكهف50. كيف يمكن للإنسان أن يتخذ إبليس وذريته أي ما يتفرع عنه من الشر أولياء من دون الله؟. يبدو أننا قطعنا أشواطاً في معرفة الجواب، وهو أن إبليس الذي يمثل الجانب الشرير في العالم يكون رمزاً لكل من يسلك في طريقه، واتخاذه ولياً باتخاذه مَثَلاً ورمزاً عبر تطبيق مفردات الجانب الشرير، ومنه كما أسلفنا تمكين الغرائز بشكلها الحيواني وهي في الإنسان أكثر تطوراً منها في الحيوان، فحب المال والجاه والسلطة والنساء بالباطل وإيذاء الآخرين كلها تمثل أدوات إبليس فيكون الانسياق وراءها بمثابة عبادة لإبليس، واتخاذه ولياً من دون الله بمعنى مسايرة القانون الفوضوي الشرير الذي يحاول إعادة الإنسان إلى عصور الفوضى، وهنا نفهم معنى عبادة الله وعبادة إبليس أي السير في طريق الفوضى أو النظام والإعمار المادي والمعنوي الذي هو الهدف الأساس. وفي الآية استغراب من اتخاذه ولياً بينما هو في الحقيقة عدو، فكل هذه المفردات والرغبات تكون نتيجتها وبالاً على صاحبها، لأن تدمير إنسانية الإنسان ستعود نتائجها الخطيرة على فاعلها آخر المطاف. ومن أهم الموارد المعايشة تطبيقات قوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }الروم41. فظهور الفساد ليس بالمعنى الأخلاقي فحسب وإنما هو تعبير عن التخريب الذي نشهده في الأرض نتيجة حرص الإنسان على مصالحه الذاتية على حساب باقي البشر، ومن أوضح الأمثلة إكتشاف الطاقة النووية الذي أصبح وبالاً بعد أن وُجد في الطبيعة لغرض تسخيره لخدمة الإنسانية، ولكن الإنسان استخدمه لأغراض فئوية ولغرض التدمير، ونتج عن ذلك ظهور الفساد في “البر” بقتل البشر وانتشار الإشعاع الذي يجعل من التربة غبر صالحة للإنتاج كما حصل في اليابان في الحرب العالمية الثانية، وكما حصل في اليابان بعد أن تدمر مفاعل (فوكوشيما) ونتج عنه إفساد البر والبحر، وهو ما لا يحتاج إلى إيضاح زائد. وقوله تعالى “بما كسبت أيدي الناس” أي أنهم استغلوا تسخير الطبيعة لصالحهم في خدمة قانون إبليس. فهم الذين أوردوا عليهم هذه المشاكل والفساد.
وجاء في النصوص مواصفات عديدة لإبليس ستعرِّفنا المزيد عن حقيقته :
((عن أبي بصير عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : سألته عن الخناس، قال : إن إبليس يلتقم القلب، فإذا ذُكر الله خَنَس فلذلك سُمي الخناس.)). الصدوق، علل الشرائع 2 : 526.
وكلا الأمرين سواء عندما يلتقم قلب الإنسان أو يخنس فهما ليسا على النحو المادي، ولكنهما في نفس الوقت حقيقيان، نتعايش معهما لو التفتنا الى أنفسنا وإلى التغير الذي يطرأ في حالاتنا، ومن الأمثلة التقريبية ما ذهب إليه عالم النفس “فرويد” من أن العامل الجنسي هو الدافع وراء كل عمل يقوم به الإنسان كما أنه المؤثر الأساسي في العواطف ومختلف المشاعر التي تكتنف حياة الإنسان، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما فسَّر كل الأحلام التي يراها الإنسان بنفس السبب والعامل، ومع اختلافنا معه، إلا أننا نتسائل : أين هو هذا العامل أو الدافع الجنسي ولماذا يختفي في حال ويظهر في حال أخرى، ولماذا يظهر في صور متعددة، مع أن أصله واحد؟. يمكن أن نشابه بين هذا العامل وإبليس كدافع للإنسان نحو بعض أفعاله، ومتى يظهر، ومتى يمكن السيطرة عليه ومنعه من الظهور؟. ومن المهم أن نلاحظ أن الدافع الجنسي ليس هو الغريزة الجنسية، فالدافع خفي يدفعنا إلى تصرفات عديدة مختلفة، والغريزة الجنسية محددة تأتي في وقت معين دون آخر، وينتهي تأثيرها بعد تلبية الرغبة الجنسية، أما الدافع الجنسي فهو مستمر في العمل (وهذا طبعاً وفقأً لفرويد وليس فهمنا الخاص).
قال تعالى : ((قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ*قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ*قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ*وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ*قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ*إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ*قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ*قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ*إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)). الحجر 32 ــ 42.
وقال : ((قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ*ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)). الأعراف 16 ــ 17.
هذا هو إبليس، قانون الغواية والانحراف، ولكنه ليس أداة الإنحراف وليس له حرية التصرف فيها متى ما يشاء، إذ (ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) أي وجود الاستعداد، فأداة الإنحراف مثلاً : حب المال، وهنا يأتي دور الغواية عبر هذه الأداة التي يذكيها الجانب الشيطاني في النفس الإنسانية، فالشيطان ليس كياناً خارج إطار النفس الإنسانية وإنما سنجد أنه الجانب الآخر من الإنسان، (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها)، بل سنجد في بعض النصوص أن الشيطان هو النفس بذاتها وليس غير ذلك، بمعنى أن الإنسان له رغبات وشهوات وهو بالخيار أو حسب قابلياته كيف ينفذ هذه الرغبات بالطريق المشروع والصالح الداخل ضمن إطار القبول الاجتماعي العقلائي، والجانب الآخر هو الجهة الصالحة ونعبر عنها في بعض المستويات بـ (الأخلاق أو الضمير).
وقد كتب أحد أدباء الإنكليز “روبرت ستيفنسون 1850 ــ 1894” روايته الشهيرة “دكتور جايكل ومستر هايد”، وخلاصتها أن الطبيب جايكل يمارس مهمته الإنسانية الطب ويساعد الآخرين، ولكنه في بعض الأحيان ينزلق وراء شهواته الليلية والبحث عن المتع الشائنة، ولكنه عندما يستيقظ في الصباح يشعر بندم شديد، فقرر اختراع عقار معين يفصل بين الشخصيتين، وبالفعل نجح في اكتشاف هذا العقار، فيقضي النهار يمارس مهنته كطبيب أي شخصيته المعتادة “جايكل”، وفي المساء يتناول العقار فيتحول إلى “هايد” الشخصية الشهوانية بشعة المظهر ويمارس نزواته بحرية مطلقة كما أنه نزق غير مؤدب لا يبالي بما يقع للآخرين حتى أنه سحق طفلة في إحدى المرات، وبعد زوال مفعول العقار تعود شخصية الطبيب الطيبة.
إن فكرة ستيفنسون عبقرية من جهة الفصل بين الجانبين المركوزين في النفس، ولكن محاولة إلقاء اللوم كاملاً على الجانب الشرير من دون تحمل الجانب الآخر المسئولية ومن غير تأنيب الضمير للطبيب لم تتحقق، وهو ما حصل آخر المطاف إذ دفع الطبيب ثمن نزوات جانبه الشرير، والفكرة متفقة عموماً مع المفاهيم الإسلامية، مع أن ستيفنسون لم يوضح لنا العامل أو الدافع أو العلة النفسية الفلسفية لعمل كلا الجانبين، وكذلك في التوراة والإنجيل ليس هناك مفاهيم موسعة وتفصيلية حول عمل الإنسان الصالح والطالح، فإبليس ليس له وجود تماماً في التوراة مع أنه ورد هناك بعناوين أخرى “الشيطان” بصفة رئيس الملائكة المتمردين، والكلمة من أصل عبري “هاشاطان” ومعناها العدو والخصم. وأول ذكر للشيطان جاء في سفر أيوب، وجعل منه صاحب سفر الحكمة سبب سقوط البشرية ودمارها، كما أنه اتخذ صورة الحية وأغرى حواء في قصة الشجرة والخطيئة المعروفة وسُمِّي بالحية القديمة. ولكن سيأتي تفصيل هذه القصة وأن الحية التي أغوت آدم وحواء هي الشيطان وليس إبليس مباشرة، أما كلمة إبليس فيقولون أنها من أصل يوناني “ديابولس، ديابولوس” ومعناها “المشتكي زوراً” أو “الثالب”. للتفصيل أنظر قاموس الكتاب المقدس 15. وهنري سعيد عبودي، معجم الحضارات السامية 544.
ومحاولة إرجاع لفظ “إبليس” إلى الأصل اليوناني تعني أن العرب استخدموا أو حوروا الكلمة اليونانية ومع مرور الزمن استقرت على هذا النحو فأصبحت جزءاً من لغتهم، ومن ثم استخدمها القرآن كاسم علم لهذا الكيان، وهذا أولا ً لا يتم لأن المفترض أن أقرب اللغات والنصوص إلى العرب والقرآن هي العبرانية والسريانية والتوراة والإنجيل، أو الثقافة الدينية اليهودية والمسيحية، والتوراة لم ترد فيها اللفظتين سواء اليونانية أو العربية، ولكن ورد اسم “بليعال” و “شمائيل” وهو رئيس الملائكة المتمردين وكان يحاول أن يبلبل علاقات الله مع شعبه فيدفع الناس الى الخطيئة ثم يشكوهم الى الله. كما جاء باسم “بعل زبوب” أي سيد الذباب تحقيراً له. أما في العهد الجديد يسمى الشيطان “ستاناس” وهي مشابهة للفظة العربية “شيطان” والعبرية “”هاشاطان”، ووردت عدة أسماء أو هي صفات للشيطان أو إبليس مثل “سيد هذا العالم، المتهم، الشرير، العدو،” كما أن مهامه متفقة مع مهام إبليس في النصوص الإسلامية، وأيضاً فهو سيُهزم أمام المسيح ومملكته. أنظر الخوري بولس الفغالي، المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم 737 ــ 738.
 وهذا أيضاً متفق مع النص الإسلامي الذي أكَّد القرآن أن نهايته ستكون “يوم الوقت المعلوم” الحجر 38، ص 81، وهو ليس يوم القيامة كما سيأتي.
وأما تسميته “إبليس” فإن لها معان في اللغة العربية كما جاء في النصوص :
((عن أبي الحسن الرضا “عليه السلام” أنه ذكر : أن اسم إبليس “الحارث” وإنما قول الله عز وجل : “يا إبليس” يا عاصي، و سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله عز وجل)). الصدوق، معاني الأخبار 138. وأبلس من رحمة الله أي يئس منها.
((وسُئل الإمام الباقر: فلم سمي إبليسُ إبليسَ؟، قال : لأنه أبلس من رحمة الله عز وجل فلا يرجوها)). الاحتجاج 2 : 65.
((قال ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب وقتادة وابن جريح والزجاج وابن الأنباري : كان إبليس من الملائكة من طائفة يقال لهم : الجن وكان اسمه بالعبرانية عزازيل، وبالعربية الحارث، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة سماء الدنيا وسلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، وكان يسوس ما بين السماء والأرض)). المجلسي، بحار الأنوار 60 : 207 ــ 208. عن حياة الحيوان للدميري.
قال الجوهري : ((أبلس من رحمة الله، أي يئس. ومنه سمى إبليس، وكان اسمه عزازيل. والإبلاس أيضاً : الانكسار والحزن. يقال : أبلس فلان، إذا سكت غماً. قال الراجز : يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا * قال نعم أعرفه وأبلسا)). الصحاح 3 : 909.
وقال ابن منظور : ((بلس : أبلس الرجل : قُطع به، عن ثعلب. وأبلس : سكت. وأبلس من رحمة الله أي يئس وندم، ومنه سمي إبليس وكان اسمه عزازيل. وفي التنزيل العزيز : يومئذ يبلس المجرمون)). لسان العرب 6 : 29.
وخلاصة هذه النصوص أن له أسماء عديدة والأصح (صفات عديدة) منها الحارث الذي يمكن تعريفه أنه الذي يحرث عمل الإنسان أي يعدمه، أو هي الكلمة العبرية “حارث، حارت” بمعنى “وعر”. وهو يمكن أن ينطبق على إبليس باعتبار أن طريقه وعاقبته غير سليمة.
 ومعنى عزازيل وإبليس واحد وذلك : أن إبليس أتت بمعنى يئس، وقُطع أي عُزل، أي عن حظيرة الله ورحمته، أما عزازيل فهو ((اسم عبري معناه “عُزل”، وهي كلمة مطلقة على العزل للخطيئة أو الفصل)). قاموس الكتاب المقدس 620. فهو نفس معنى إبليس بكل وضوح.
ومن هنا فلا معنى لنسبة أصل الاسم الى اليونانية، وفي كل الأحوال فالتسمية ليست مهمة فأي كلمة تدخل الى لغة أخرى وتصبح جزءً منها بالتداول لا ضير أو ضرر باستخدامها سواء في القرآن أو غيره، فالمهم : ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)). إبراهيم4.
والمهم في البلاغ هو البيان وهو لا يتم إلا بلسان القوم الذي تأتيهم الرسالة وليس المهم أصل الكلمة.
ومهما يكن فمن الصعب إيجاد فارق مهم بين إبليس والشيطان في المصادر غير القرآن الذي أعطانا فروقاً واضحة وأساسية، كما أن كلاً من التوراة والإنجيل لا تذكر لنا عن تاريخ إبليس إلا إشارات ونتف، ولم تتعرضا لقضية الحوار التكويني الذي أمر فيه الله تعالى الملائكة وإبليس بالسجود لآدم.
ولكي تزداد رؤيتنا وضوحاً عن إبليس ودوره والفارق بينه وبين الشيطان نستعرض المزيد من الروايات :
((عن زرارة عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : ان الله تبارك وتعالى جعل لآدم ثلاث خصال في ذريته، جعل لهم أن من هَمَّ منهم بحسنة ولم يعملها كتب له حسنة ومن هَمَّ بحسنة فعملها كتب له بها عشر حسنات، ومن هَمَّ بسيئة ولم يعملها لا يكتب عليه، ومن عملها كتبت عليه سيئة واحدة وجعل لهم التوبة حتى يبلغ (الروح) حنجرة الرجل، فقال إبليس : يا رب جعلت لآدم ثلاث خصال فاجعل لي مثل ما جعلت له، فقال : قد جعلت لك لا يولد له مولود الا ولد لك مثله، وجعلت لك أن تجري منهم مجرى الدم في العروق، وجعلت لك صدورهم أوطاناً ومساكن لك، فقال إبليس : يا رب حسبي)). العياشي 1 : 387.
وكما قلنا فإن هذه الحوارات التي تشير الرواية إلى إحداها حوارات تكوينية لغرض توضيح المفاهيم، فهنا لإبليس ثلاث خصال، أنه يولد له مولود مع كل إنسان، ومولود إبليس هو الشيطان أو الجانب المغوي الذي سيرافق الإنسان حتى موته، وأنه يجري من الإنسان مجرى الدم، أي هو مطلع على كل خبايا نفس الإنسان، ونلاحظ أنه لم يقل في الرواية أن إبليس سيجري في العروق مجرى الدم، وإنما جاء ذلك كمثال لشدة إلتصاقه بالإنسان ومعرفته بنواياه الخفية، وأما كونه مستقراً في صدر الإنسان كون الصدر في النصوص كناية عن محل التفكير والرغبة، بالتالي ستكون له مشاركة في كل ما يفكر به الإنسان، إلا أن تأثيره يختلف بين شخص وآخر.
وتتلخص مهمة إبليس الأساسية بالغواية، وهو الدافع نحو العمل الفاسد بأي شكل كان، وكما مثلنا أعلاه “بالتقريب” مع الدافع الجنسي عند فرويد، إلا أن عمل الجنس باتجاه واحد وغريزة واحدة، أما المفهوم الإسلامي أو الديني عموماً في الأديان السماوية أن هذا الدافع الذي هو إبليس أو الشيطان، يمثل دافعاً نحو كل رذيلة مهما خفيت وكانت دقيقة، كما في حديث النفس، وأهم فارق بين مذهب فرويد ومذهبنا أن الغريزة الجنسية ذاتية ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها لعموم البشر لأن أداته مخلوقة في بدن الإنسان الحالي، أما الدافع الشيطاني مركوز في النفس وليس في الجسد، ويمكن التخلص منه عبر تربية النفس، وهو ما ستصل إليه البشرية في المستقبل القادم عندما يصل الإنسان إلى مرحلة ما، كما سنعرف عند الحديث عن نهاية إبليس وبداية الرحلة من دون وجوده.
وأهم الفوارق بين إبليس والشيطان، أن إبليس يمثل الشرور الجماعية العامة، والقانون العام للشر، وهو ما عبرت عنه بعض النصوص أن الدولة اليوم هي دولة إبليس، ونعني بالدولة الهيمنة العالمية، أما الشيطان فهو الجانب الشرير من النفس، أي أن النفس بذاتها يمكن أن تكون شيطاناً أو نصف شيطان أو نفس ملائكية، فإذا ما تحولت النفس مثلاً إلى نفس ملائكية فهذا لا يعني أن تأثيرات إبليس ستنتهي، فهو لا زال يمارس سلطاته على عموم البشرية بالتالي ستصل تأثيراته إلى تلك النفوس الملائكية عبر أدواته الخارجية لغرض فتنتهم وإسقاطهم.
وهذا ما تشير إليه الآية : ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)). الأنعام112. فهؤلاء الشياطين أدوات إبليس وأولاده، وهذا تأكيد آخر على أن إبليس قانون الغواية وأن بنوة هؤلاء له وأبوته لهم معنوية، وهم الذين ذكر القرآن أعلاه أنهم “ذرية إبليس”. وهم يوحون بعضهم إلى بعض زخرف القول أي القول والفعل الباطل أو الماكر الذي يؤذون به الإنسان، والوحي هنا أن يستفيد أحدهم من فعل الآخر مع بصمات جديدة.
وتعتبر الروايات أن الشيطان مركوز في النفس لا ينفصل عنها :
((الحسين بن محمد، عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : إن للقلب أذنين، فإذا هم العبد بذنب قال له روح الايمان : لا تفعل، وقال له الشيطان : إفعل)). الكليني، الكافي 2 : 267.
وفي تعليق للشيخ علي أكبر غفاري على هذه الرواية، قال :
((للنفس طريق إلى الخير وطريق إلى الشر، وللخير مشقة حاضرة زائلة ولذة غائبة دائمة، وللشر لذة حاضرة فانية ومشقة غائبة باقية، والنفس يطلب اللذة ويهرب عن المشقة، فهو دائماً متردد بين الخير والشر، فروح الإيمان يأمره، بالخير وينهاه عن الشر، والشيطان بالعكس)).
وفي نفس السياق :
((عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : ما من قلب إلا وله أذنان، على إحداهما ملك مرشد وعلى الأخرى شيطان مفتن، هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها)). المصدر السابق 2 : 266 ــ 267.
و ((عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال : ما من مؤمن إلا ولقلبه أذنان في جوفه : أذن ينفث فيها الوسواس الخناس، وأذن ينفث فيها الملك، فيؤيد الله المؤمن بالملك، فذلك قوله : “وأيدهم بروح منه”)). المصدر السابق 2 : 267.
قال العلامة الطباطبائي : ((وأما الزاجرات فقيل : إنها الملائكة تزجر العباد عن المعاصي فيوصله الله إلى قلوب الناس في صورة الخطرات كما يوصل وساوس الشياطين)). الميزان في تفسير القرآن 17 : 120.
وللرازي تفصيل غاية في الأهمية :
((المسألة الأولى : اعلم إن أمر الشيطان ووسوسته عبارة عن هذه الخواطر التي نجدها من أنفسنا، وقد اختلفت الناس في هذه الخواطر من وجوه أحدها : اختلفوا في ماهياتها فقال بعضهم إنها حروف وأصوات خفية، وقال الفلاسفة : إنها تصورات الحروف والأصوات وتخيلاتها على مثال الصور المنطبعة في المرايا، فإن تلك الصور تشبه تلك الأشياء من بعض الوجوه، وإن لم تكن مشابهة لها في كل الوجوه…. ومما يدل على إثبات إلهام الملائكة بالخير قوله تعالى : (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا). الأنفال : 12، أي ألهموهم الثبات وشجعوهم على أعدائهم، ويدل عليه من الأخبار قوله “عليه الصلاة والسلام” : “إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة”. وفي الحديث أيضاً : “إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطاناً وقرن الله به ملكاً، فالشيطان جاثم على أذن قلبه الأيسر، والملك جاثم على أذن قلبه الأيمن فهما يدعوانه”. ومن الصوفية والفلاسفة من فسر الملك الداعي إلى الخير بالقوة العقلية، وفسر الشيطان الداعي إلى الشر بالقوة والشهوانية والغضبية. المسألة الثانية : دلَّت الآية على أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح لأنه تعالى ذكره بكلمة (إنما) وهي للحصر، وقال بعض العارفين : إن الشيطان قد يدعو إلى الخير لكن لغرض أن يجره منه إلى الشر وذلك يدل على أنواع : إما أن يجره من الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يخرجه من الفاضل إلى الشر، وإما أن يجره من الفاضل الأسهل إلى الأفضل الأشق ليصير ازدياد المشقة سبباً لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية)). تفسير الرازي 5 : 4 ــ 6.
ومن المهم أن نلتفت إلى الرواية التي ذكرها الرازي جاء فيها : (إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطاناً وقرن الله به ملكاً). وهي تؤكد ما توصلنا إليه من كون إبليس لا يباشر الغواية للبشر وإنما يعتمد على أدوات، وأنه قوة تتحكم بقانون، يتقابل ويتعارض معه قوى أخرى لها قوانينها وهي الملائكة. وتقوية جانب دون آخر ترجع إلى نفس الإنسان عبر تنمية وتهذيب الملكات الإيجابية وإضعاف السلبية.
أما النزاع حول ماهية الشيطان فأعتقد أنه أصبح من الواضح الآن أنه جزءٌ من نفس الإنسان وليس شيئاً خارجاً عنها، أما إبليس فلا يمكن التحكم به لأنه خارج النفس. روي عن أمير المؤمنين “عليه السلام” : ((شيطان كل إنسان نفسه)). المعتزلي، شرح نهج البلاغة، 20 : 292.
قال تعالى : ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى*فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى*إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى*فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى)). طه 116 ـــ 120. نلاحظ أن التحذير لآدم من إبليس لكي لا يخرجه وزوجه من الجنة، ولكنه ليس من قام بالوسوسة، وإنما الشيطان هو الذي الذي أغواهما، والشيطان كما قلنا هو أداة ومظهر لقوى وقانون إبليس، وسنعرف في حينه أن الأداة التي أغوت آدم لم يكن من الممكن أن يتجاوزها. وهي واحدة من أهم أدوات إبليس ومظهر من أهم مظاهر الشيطان.
((روى العياشي عن زرارة عن أبي عبد الله “عليه السلام” في قول الله “وتلك الأيام نداولها بين الناس” قال : ما زال مُذ خَلق الله آدم دولة لله ودولة لإبليس، فأين دولة الله؟، أما هو الا قائم واحد)). تفسير العياشي 1 : 199.
والتعبير بالدولة أي الهيمنة على البشرية من خلال أتباعه الذين يعيثون في الأرض فساداً منذ فجر البشرية حتى الساعة، أما ساعة الخلاص وكيفيتها فسيأتي معناها.
وقال تعالى : ((يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ)). الأعراف27. وهذه الآية أدخلت الفقهاء والمفسرين في نقاش عقيم، لأنهم سحبوا هذه الآية إلى الجان وإبليس في نفس الوقت، وبها استدل على كون الجان كائنات خفية مع أنها لا تتحدث عن هذا المورد، بل هي صريحة بما توصلنا إليه من حقيقة إبليس والشياطين، ومن هنا نشأ الوهم عند الشافعي الذي أفتى قائلاً : ((من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلنا شهادته لقوله تعالى “إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم” إلا أن يكون الزاعم نبياً)). ابن حجر، فتح الباري 6 : 244. وحسن بن علي السقاف، صحيح شرح العقيدة الطحاوية 449.
بينما الآية تتحدث عن الشيطان الداخلي كمفهوم كلي أو عامل متواجد في كل نفس، سواء من بني آدم أو غيرهم.
روى الشيخ الصدوق : ((قال رسول الله “صلى الله عليه وآله” : إن لإبليس كحلاً ولعوقاً وسعوطاً فكحله النعاس، ولعوقه الكذب، وسعوطه الكبر)). معاني الأخبار 138 ــ 139.
وبنفس المعنى روى العلامة المجلسي عن : ((“المحاسن : عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال : قال علي بن أبي طالب “عليه السلام” : إن لإبليس كحلاً وسفوفاً ولعوقاً، فأما كحله فالنوم وأما سفوفه فالغضب وأما لعوقه فالكذب”.
بيان : مناسبة الكحل للنوم ظاهر، وأما السفوف للغضب فلأن أكثر السفوفات من المسهلات التي توجب خروج الأمور الردية، والغضب أيضاً يوجب صدور ما لا ينبغي من الإنسان وبروز الأخلاق الذميمة به ويكثر منه، وفي القاموس : سففت الدواء بالكسر سفاً واستففته : قمحته أو أخذته غير ملتوت، وهو سفوف كصبور. انتهى. وأما اللعوق فلأنه غالباً مما يتلذذ به ويكثر منه، والكذب كذلك، وفي النهاية : فيه إن للشيطان لعوقاً ودسوماً، اللعوق بالفتح : اسم لما يلعق به أي يؤكل بالملعقة، والدسام بالكسر : ما يسد به الأُذن فلا تعي ذكراً ولا موعظة)). بحار الأنوار  60 : 217.
وذكر الشريف الرضي : ((ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : “إن للشيطان نشوقاً ولعوقاً ودساماً”، وهذه الكلمات الثلاث محمولة على المجاز، لأن النشوق ما استنشقه الإنسان بأنفه، واللعوق ما لعقه بلسانه، والدسام هاهنا الشيء الذي يجعله سداداً لأُذنه، يقال منه : دسمت الشئ أدسمه دسماً : إذا سددته. والمراد بهذه الكلمات قريب من المراد بالحديث الذي تقدم كلامنا عليه في هذا الكتاب، وهو استعاذته “عليه الصلاة والسلام” من همزات الشيطان ونفثه ونفخه. فكأنه “عليه الصلاة والسلام” شَبَّه ما يسوِّله الشيطان للإنسان من العُجب بنفسه، والإزراء على غيره حتى يشمخ بأنفه، وينأى بعطفه، بالنشوق الذي ينشقه إياه، فيحدث له هذا الخلق الذميم، والطبع اللئيم، وقوَّى ذلك بذكر اللعوق، فكأن الشيطان يلعقه بهذا التسويل لعوقاً إذا وصل إلى جوفه أحدث له خيلاء الكبر، ومَدَّ له في غلواء العجب. وشَبَّه “عليه الصلاة والسلام” صرف الشيطان للإنسان عن مراشده، وإصمامه عن سماع قول مرشده بالدسام، وهو الصمام الذي تسد به الأُذن، فتحجب عن سماع الأصوات، وزواجر العظات)). المجازات النبوية 296 ــ 297.
وكما ذكرنا سابقاً أن كل ملك من الملائكة موكل بمهمة فإن الشياطين من جنود إبليس لهم مهام وأسماء، وكما هو المعتاد فإن هذه الأسماء مجرد صفات معنوية لدوافع معنوية هي الأخرى وليس هناك كيان محدد قائم بنفسه، فإذا ما استطاع الإنسان أن يهذب الجانب الضعيف من نفسه والذي يستغله الدافع الشرير في النفس فإن الدافع أو الشيطان يصبح لاغياً، بمعنى أن وجود هذا الشيطان وجود رمزي يدل عليه وجود الجانب الضعيف في النفس، كما هو الحال في الدافع الجنسي عند فرويد، فإن هذا الدافع يصبح لاغياً بمجرد زوال الرغبة الجنسية، وربما يكون معدوماً من الأساس عند أفراد معينين، وبأمثلة أخرى : هناك أشخاص محيطون بنا ضعاف أمام السرقة، فنقول إن هؤلاء تملَّكهم الشيطان، وهناك أشخاص من المستحيل أن يسرقوا فأين هذا الشيطان؟، ولكن نفس هؤلاء الأشخاص الممتنعين عن رذيلة السرقة يكونون ضعافاً أمام النساء وقد يسقطون في الرغبة المحرمة، فهؤلاء سيطر عليهم شيطان يتناسب مع هذه الرغبة، بينما الشيطان الموكل من قبل إبليس على رذيلة السرقة لاغياً من الأساس، فالحاصل نحن نتحدث عن خواطر ورغبات ونوازع “ما شئت فعبِّر” ولكي تتم عملية التعامل مع كل رغبة على حدة نجد أن النصوص الإسلامية تجعل لكل نزعة اسماً، وأعتقد أن هذا جانب علمي مرتبط بعلم النفس وعلم النفس الإجتماعي، وأن هذه التصنيفات سابقة للنص الإسلامي غير معروفة أو مذكورة في أي نص آخر في العالم، ونستطيع بشيء من الجهد أن نوفق بين مصطلحات علم النفس أو أمراض علم النفس وبين هذه الأسماء التي اصطلح عليها النص الإسلامي تسمية (شيطان)، فمن الأمراض الشائعة سرقة الملاعق أو الحاجيات المنزلية الصغيرة لأشخاص أغنياء، ومنها الوسواس القهري أو الشك في النظافة أو تأدية العمل بصورة صحيحة مما يستنزف الوقت بمحاولة إعادته بشكل صحيح، وهذا الأخير نجده عند الملتزمين دينياً أكثر من غيرهم، ومنها الغيرة الزائدة، ومنها التطرف في السلوك، وهذا الأخير لا يفرق وجوده بين الجهات الدينية أو القومية كالنازية وغيرها، وهذان الأخيران يخصان علم النفس الإجتماعي، فالنماذج الأولى مسبَّبَة عن نفس الشخص لأسباب ذاتية وتعاَلج عبر تدريبات معينة أو علاج نفسي أو عقار معين، أما التطرف فهو مشكلة إجتماعية ناتجة عن توجيهات خاطئة من قيادات أو واعظين أو خطباء فهموا قضاياهم الدينية أو القومية أو الوطنية فهماً محدداً، ولكن حتى هذه الأخيرة ناتجة عن مشكلة نفسية لنفس الشخص سواء الموجِّه أو الموجَّه، ولكنها تتغير مع الزمن عند أفراد وتصبح كارثية عند آخرين مثل الإنتحاريين وبعض القوميين الغربيين الذين ارتكبوا جرائم خطيرة. كل هذه المصاديق التي ذكرناها تعود لعوامل نفسية كانت الأدوات اللفظية في تلك الأوقات تعطيها تسمية (شيطان) ومن ثمَّ تعطي لكل شيطان (صفة، أو اسماً)، ومنها على سبيل المثال ما يلي :
ذكر العلامة المجلسي : ((وذكر مجاهد أن من ذرية إبليس “لاقيس” و “ولها” وهو صاحب الطهارة والصلاة، و”الهفاف” وهو صاحب الصحارى، و”مُرَّة” به يكنَّى، و”زلنبور” وهو صاحب الأسواق ويزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلعة، و”بثر” وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب، والأبيض وهو الذي يوسوس للأنبياء، و”الأعور” وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة، و”داسم” وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله تعالى دخل معه ووسوس له فألقى الشر بينه وبين أهله، فان أكل ولم يذكر اسم الله تعالى أكل معه، فإذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر الله ورأي شيئاً يكره فليقل : “داسم داسم أعوذ بالله منه” و”مطرش” وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ولا يكن لها أصل ولا حقيقة. و”الأقبض” وأمهم “طرطبة”، وقال النقَّاش : بل هي حاضنتهم)). البحار 60 : 306 ــ 319. عن الدميري، حياة الحيوان.
وروى الكليني : ((عن أبي جعفر (الباقر) “عليه السلام” قال : إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض، فإن رجز الشيطان ليذهب عنه عند ذلك)). الكافي 2 : 304.
نلاحظ في هذه الرواية أن الغضب وهو حالة نفسية قد لا يكون لها مبررها، أو تختلف من شخص لآخر مع أن السبب قد يكون واحداً، وُصف هنا بأنه جمرة من الشيطان، والجمرة كناية عن الحرارة العالية الطارئة، وبتعبير أصح، هو حالة عصبية تفقد الإنسان رشده، لذلك نلاحظ أن العلاج الذي يصفه الإمام الباقر علاج نفسي، إذ يحتاج الإنسان حينها إلى الهدوء ليفكر بصورة صحيحة ولا يصدر منه رد فعل فوري خاطئ، ومثل هذا العلاج يتعامل معه أخصائيو علم النفس.
ذكر العلامة المجلسي : ((عن أبي عبد الله “عليه السلام” أنه قال : ليس من عبد إلا ويوقظ في كل ليلة مرة أو مرتين أو مراراً، فإن قام كان ذلك، وإلا فَحَجَ الشيطان فبال في أذنه، أَوَ لا يرى أحدكم أنه إذا قام ولم يكن ذلك منه قام وهو متخثر ثقيل كسلان؟.
توضيح : كأن بول الشيطان كناية عن قوة استيلائه وغلبته عليه، وإن احتمل الحقيقة أيضا، قال في النهاية : فيه “أنه بال قائماً فَفَحَجَ رجليه” أي فرَّقهما وباعد ما بينهما، والفحج : تباعد ما بين الفخذين، وقال : فيه “من نام حتى أصبح فقد بال الشيطان في أُذنه” قيل : معناه سخر منه وظهر عليه حتى نام عن طاعة الله، كقول الشاعر : بال سهيل في الفضيخ ففسد. أي لما كان الفضيخ يفسد بطلوع سهيل كان ظهوره عليه مفسداً له (والفضيخ : عصير العنب، وهو أيضاً شراب يُتَّخذ من البسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار… قال الراجز : بال سهيل في الفضيخ ففسد، يقول : لما طلع سهيل “النجم” ذهب زمن البسر وأرطب فكأنه بال فيه، لسان العرب 3 : 45)، وفي حديث آخر عن الحسن مرسلاً أن النبي “صلى الله عليه وآله” قال : فإذا نام شغر الشيطان برجله فبال في أُذنه. وحديث ابن مسعود : “كفى بالرجل شراً أن يبول الشيطان في أُذنه” وكل هذا على سبيل المجاز والتمثيل)). بحار الأنوار 60 : 262 ــ 263.
((عن أمير المؤمنين “عليه السلام” قال : قيل لرسول الله “صلى الله عليه وآله” : يا رسول الله ما الذي يباعد الشيطان منا؟، قال : الصوم لله يسود وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله تعالى والمواظبة على العمل الصالح يقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه)). المصدر السابق 60 : 264.
نهاية إبليس : تذكر بعض الروايات نهاية إبليس، وهي تفسر قوله تعالى : ((قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ*إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)). الحجر 36 ــ 38. و ص 79 ــ 81. فعندما طلب إبليس بقاء نفوذه إلى يوم يبعثون أي إلى يوم القيامة كان الجواب بالرفض، وأنه سيمهل إلى يوم الوقت المعلوم وهو ليس يوم القيامة كما في هذه الروايات :
روى الشيخ الصدوق : ((حدثنا محمد بن أحمد الشيباني “رضي الله عنه”، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي. قال : حدثنا سهل بن زياد، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، قال : سمعت أبا الحسن علي بن محمد العسكري “عليهم السلام” يقول : معنى الرجيم أنه مرجوم باللعن، مطرود من مواضع الخير، لا يذكره مؤمن إلا لعنه، وأن في علم الله السابق أنه إذا خرج القائم “عليه السلام” لا يبقى مؤمن في زمانه إلاَّ رجمه بالحجارة كما كان قبل ذلك مرجوماً باللعن)). معاني الأخبار 139.
هذه الرواية تتحدث عن وقت سينحسر فيه وجود إبليس، أي أن البشرية ستسير في طريق الاستقامة ذات يوم، وهو يعني انحسار سلطة الفساد، ومعنى قوله إن إبليس سيرجم بالحجارة ذات يوم، أي أنه قبل ذلك كان الطالبون للحق والعدل يلعنون ويذمون الجور وأهله وسلطته، والمتمثل بإبليس كرمز للفساد والظلم، ولكنهم في يوم عندما تبدأ سلطة إبليس بالانحسار سيكون عملهم في تحقيق العدل الرد العملي على قانون إبليس وأتباعه، فيكون بمثابة رجم بالحجارة أي يتحول الرفض لإبليس من اللفظ والمعنى إلى العمل الخارجي المثمر.
وروى الصدوق أيضاً : ((حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني “رضي الله عنه” قال : حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن الحسين بن خالد قال : قال علي بن موسى الرضا “عليهما السلام” : لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، إن أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية. فقيل له : يا ابن رسول الله إلى متى؟، قال : إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت)). الصدوق، كمال الدين 371.
وروى العياشي : ((عن وهب بن جميع مولى إسحاق بن عمار قال : سألت أبا عبد الله “عليه السلام” عن قول إبليس : (رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) قال له وهب : جعلت فداك أي يوم هو؟، قال : يا وهب أتحسب أنه يوم يبعث الله فيه الناس؟، إن الله أنظره إلى يوم يُبعث فيه قائمنا، فإذا بُعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة، وجاء إبليس حتى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول : يا ويله من هذا اليوم، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم)). العياشي 2 : 242.
وروى السيد علي بن طاووس المتوفي سنة 664 هـ : ((“قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون” قال لا ولكنك “من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم”، فإنه يوم قضيت وحتمت ان أطهر الأرض ذلك اليوم من الكفر والشرك والمعاصي، وانتخب لذلك الوقت عباداً إلي امتحنت قلوبهم للإيمان)). سعد السعود 34. نلاحظ ارتباط نهاية إبليس بتطهير الأرض.
وروى السيد علي بن إبراهيم القمي : ((أخبرنا أحمد بن إدريس، قال حدثنا احمد ابن محمد، عن محمد بن يونس، عن رجل، عن أبي عبد الله “عليه السلام” في قول الله تبارك وتعالى “فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم” قال : يوم الوقت المعلوم يوم يذبحه رسول الله “صلى الله عليه وآله” على الصخرة التي في بيت المقدس)). تفسير القمي 2 : 245. هنا توجد مسألتين، الأولى : أن الذبح المشار إليه هو الذبح المعنوي وليس المادي دون أدنى شك. الثانية : أن الذي سيقوم بالتخلص من إبليس هو رسول الله وفي الرواية أعلاه أنه القائم من ولده، والنتيجة واحدة باعتبار أن وجود رسول الله المعنوي سيتمثل بانتصار دينه الحق، وهذه الرواية واضحة المعالم في كون إبليس ووجوده وذبحه على النحو المعنوي، أما الصخرة التي في بيت المقدس حسب الرواية ففي الرواية التالية تفسير لهذا الموضع وأنه الكوفة، وهذا بحث لا يمكن استيفاءه الآن وسينشر في حينه، بإذن الله تعالى.
وروى الطبراني : ((قال النبي : إذا طلعت الشمس من مغربها يخر إبليس ساجداً ينادي : إلهي مرني أن أسجد لمن شئت، فتجتمع إليه زبانيته فيقولون : يا سيدهم، ما هذا التضرع؟. فيقول : إنما سألت ربي أن ينظرني إلى الوقت المعلوم، وهذا الوقت المعلوم.)). الطبراني، المعجم الأوسط ج 1 ص36.
وهذه الرواية متوافقة مع سابقاتها، ومعنى ظهور الشمس من مغربها أي ظهور الحق والعدل بعد طول غياب. ولا بد من الالتفات أن ما جاء من كون إبليس مستعداً للسجود في هذا الوقت أي أن هذا القانون سيخضع أخيراً ويزول كما ذكرتُ أعلاه.
من خلال هذه الروايات صرنا نعرف بوضوح أن الذبح المعني هو الذبح المعنوي، وليس بأن يتم القضاء على إبليس ككيان معنوي بصورة مباشرة، ولكن بالقضاء على سلطته المعنوية وقانونه على الأرض، وبدء عصر جديد ليس للظلم على الأرض فيه موطأ قدم.
أرجو أن أكون قد قدمت صورة تقريبية راجحة عن هذه المفاهيم، فإذا تَمَّ ذلك ستتضح لنا الصورة بشأن جنة آدم والخطيئة والصراع بين آدم وبنيه وبين وإبليس وبنيه. وألتقيكم في لقاء قريب بإذن الله تعالى.

أحدث المقالات

أحدث المقالات