تخترع النظم الاستبدادية الكراهية والعداوة، فالعدو في نظر تلك النظم الشمولية التسلطية، حقيقياً كان أو متوهماً، هو إكسير الحياة لها، تحرص على استمراره وديمومته تمام حرصها على البقاء في السلطة والتشبث بالحكم. أسباب عديدة تدفع الديكتاتوريات إلى التضخيم من أعدائها، وصناعتهم وربما توهمهم إن لم يكن لهم في أرض الواقع وجود، ومغانم كثيرة تجنيها قوى الاستبداد الحاكمة من تسليط الاضواء على خطر خارجي او داخلي يهدد كيان الدولة وامن الشعب ومقدراته وثرواته. فبفضل ذلك العدو، واستناداً للخطر الذي يهدد البلاد، والذي تعمل الآلة الاعلامية للنظم الديكتاتورية على تضخميه، تتمكن السلطات الحاكمة من الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية، وحشد الشعب في مواجهته وصرف النظر عن الأزمات والمشكلات الحقيقية، فضلاً عن تأجيل أي حديث أو مطالبات باحترام حقوق الإنسان أو تطبيق آليات الديمقراطية وتداول السلطة، أو المناداة بالعدالة والحرية والمساواة، وتحقيق نمو اقتصادي ومكافحة الفساد، فجميع تلك الملفات مؤجلة من أجل حسم المعركة مع العدو وهي معركة لا تحسم أبداً.
صناعة العدو في النظم الاستبدادية لا تتم عفوياً، وإنما تستند إلى أسس ونظريات علمية، هدفها ترسيخ الخوف وافقاد الجماهير الإحساس بالأمان، وفق تخطيط استراتيجي، تعمل عليه الأجهزة الأمنية والمخابراتية والآلة الاعلامية. فصناعة العدو هي صناعة خوف يمنع تطلع الشعوب إلى التغيير، ويدفعها إلى قبول قرارات وسياسات وممارسات النظام الاستبدادي مهما كانت ظالمة او مجحفة، خشية ذلك الخطر الداهم والتهديد المجهول. “فالعدو وحده ومؤامراته الدنيئة هي المسئولة عن الفشل والأزمات التي تواجه الشعوب التي ترزخ تحت نير الاستبداد، فيما تواجه النظم الحاكمة هؤلاء الأعداء وتحبط مؤامراتهم فتحافظ على مؤسسات الدولة وأمن الشعب”. تلك الرسالة التي دائماً يحاول ان يروجها الإعلام الشمولي تجد صداها لدى الجماهير الجائعة والخائفة، التي بدورها لا تستطيع مواجهة آلة البطش والقمع الجبارة فتلجأ وربما لا شعورياً ووفق ما يسمى سيكولوجياً بالحيل الدفاعية، إلى تحميل معاناتها لهؤلاء الاعداء. ففي حقبة الستينيات من القرن الماضي، حملت النظم العربية وفي مقدمتها النظام الناصري في مصر، كافة اخفاقاتها للعدو الإسرائيلي والقوى الاستعمارية في الخارج والقوى الرجعية في الداخل.
ووفق هرم الاحتياجات الانسانية المتدرج الذي وضعه العالم الامريكي الشهير ابراهام ماسلو، فان الاحتياجات التي تحرك دوافع السلوك الإنساني تنتظم بشكل تصاعدي قاعدته الاحتياجات الفزيولوجية التي تشمل المأكل والمشرب والجنس لضمان بقاء الحياة واستمرار النوع. فاذا أشبعها تطلع نحو حاجته إلى الامن والسلامة، ليأتي بعدها بحثه عن حاجاته للعلاقات الاجتماعية ثم تقدير واحترام الذات وصولاً إلى تحقيق الذات. ووفقاً لهذا النموذج، فإن النظم الاستبدادية حريصة دائماً على أن تبقى شعوبها في أسفل هرم الاحتياجات الإنسانية، فلا تنشد سوى تحقيق ما يضمن بقاءها وأمنها، ولا تتطلع نحو الاحتياجات الأكثر رقياً والتي يمكن تفسيرها سياسياً ومجتمعياً بأنها تشمل احترام حقوق الإنسان وضمان الكرامة وصيانة مناخ الحريات والابداع. “مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق”… عبارة تسمعها كثيراً في مصر سواء في شوارعها أو عبر فضائياتها أو على شبكات التواصل الاجتماعي، وتتردد على ألسنة البسطاء، لتحمل في طياتها مطالبة للجماهير بأن تتحمل كافة الأزمات وتتقبل مختلف أوجه المعاناة مخافة أن تصل الى مصير سوريا والعراق، وأن تقنع بنظام الحكم الذي حمى الشعب من الأعداء الذين يهددون امنه، فعلى الشعب أن يختار أن يعيش فقيراً في بلده او لاجئاً في بلد غريب، وفق ما نشرته إحدى صفحات فيسبوك الموالية للنظام.
رفع شعارات المواجهة مع العدو تلهب حماس الجماهير وتستثير مشاعرهم وتجمعهم نحو هدف واحد، وتصرفهم عن بحث ومناقشة قضاياهم وازماتهم ومشاكلهم الحقيقة، وتسمى عملية الاستثارة تلك سيكولوجياً بتحويل الهدف. في مصر مثلاً، يواجه من يعارض أو ينتقد ممارسات وسياسات نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي بأنه منتمٍ إلى جماعة الإخوان المسلمين.
وفق آليات عمل الدعاية، فهناك 3 أنماط من أساليب الإقناع، تشمل أساليب عقلية وعاطفية وأساليب التخويف، فالأول يعتمد على الحقائق والأدلة المنطقية والشواهد والإحصائيات مثل مستوى الدخل ومعدلات النمو وجودة الخدمات، أما الثاني فيخاطب المشاعر عبر رفع الشعارات الرنانة التي تكون في غالبها خالية من المضمون، أما الثالث فيعتمد على إشاعة الخوف وتهديد الأمن والسلامة.
لا تستطيع أنظمتنا أن تحيا بلا عدو تبتكره، تؤجل بحجته أي مطالبة باحترام الحقوق أو تحقيق نمو اقتصادي أو مكافحة الفساد
صناعة العدو وإشاعة الخوف في قلوب الحماهير: سر استمرارية أنظمتنا العربية…
فتحشد وسائل الاعلام، في النظم الاستبدادية قواها من أجل التضخيم من الأخطار والتهديدات وحجم المؤامرات التي يحيكها الأعداء سواء كانت حقيقية أو مزيفة، من أجل إشاعة الخوف والهلع في قلوب الجماهير.
مصطلح يشير إلى عدد من الوسائل غير العسكرية، التي تشمل “نشر الشائعات وافتعال الأزمات وإثارة الرعب” والتي تستخدمها الدول ضد اعدائها، من أجل كسب ميدان المعركة. لكن الأمر يختلف في حال الانظمة الشمولية التسلطية التي تستخدم أدوات تلك الحرب النفسية ضد شعوبها، فتعمل عبر التضخيم من الأعداء الوهميين على إثارة الرعب في صفوف الجماهير، وتنشط آلتها الدعائية في نشر الشائعات وافتعال الأزمات وإلصاقها بالأعداء، لترسيخ قبضتها القمعية. ونجحت الثورات المضادة وانظمة الحكم العتيدة في بلدان الربيع العربي في استخدام آليات الحرب النفسية فغيبت الأمن وأشاعت أجواء الرعب والخوف والفوضى متعمدة وأثارت الكثير من القلاقل، ونشرت الشائعات وافتعلت الأزمات لإجهاض ثورات الشعوب وتطلعها للديمقراطية والحرية. ولم يكن غياب الأمن والاستقرار عن بلدان الربيع العربي خلال التجربة الديمقراطية القصيرة التي عاشتها، سوى رسالة موجهة للشعوب مفادها إمّا اختيار العيش في أمان تحت ظل الديكتاتورية أو معاناة الفوضى وغيبة الأمن في ظل الديمقراطية، فلم يكن بوسع الشعوب إلا أن تنحاز للاختيار الاول. ولم ينجح نظام 3 يوليو في مصر في الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين فقط من الحكم، بل في تصويرهم كعدو للشعب يريد أن يهدم الدولة ومؤسساتها ويدخل البلاد في دوامة العنف، وكانت فزاعة الإخوان مبرراً ساقه الإعلام الموالي للسلطة لتبرير انتهاكات حقوق الانسان وممارسات الأجهزة الأمنية والفشل الحكومي في مواجهات الأزمات المتفاقمة التي يعاني منها المصريون.
المفارقة في هذا الصدد تبلغ منتهاها، في أن الكثير من العلاقات العدائية المعلنة للكثير من النظم الاستبدادية، ليست في حقيقتها سوى خداع للشعوب، لكنها تعكس تحالفاً حقيقياً خفياً أرادت به تلك السلطات الشمولية تملق جماهيرها والتلاعب بعواطفها وايهامها بأن الدولة في حرب حقيقة وعداء محكم مع أطراف أخرى هي في الواقع أكبر داعمي النظم الديكتاتورية. وبينما تتاجر غالبية النظم العربية بالعداء مع إسرائيل ولا تعترف بها من الأساس، تجمع بينهما علاقات سرية قوية تصل إلى حد التحالف العسكري والمخابراتي واستيراد السلاح. وبينما كانت تعلن إيران الخميني أن امريكا هي الشيطان الاكبر وترفع شعارات الموت لليهود، تؤكد معلومات موثقة أن طهران استعانت بالأسلحة الإسرائيلية في حرب الثماني سنوات مع العراق خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي. وفي نهاية الستينات، فإن النظام الناصري، وبعد أن تلقى هزيمة يونيو 67، أعلن أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فيما تظل الحقيقة التاريخية ان عبد الناصر وافق على ما يعرف بمبادرة روجرز التي طرحتها الخارجية الأمريكية عام 1970 لوقف إطلاق النار والدخول في مفاوضات بين الطرفين لتطبيق قرار مجلس الامن 242.
صناعة العدو استراتيجية لا تقتصر على النظم الاستبدادية، فحسب، بل لهم نصيب وافر في النظم الغربية الديمقراطية، التي لا تستطيع هي الأخرى أن تحيا دون أن يكون لها عدو. فالغرب في نظر كثير من الفلاسفة والمفكرين، لا يستطيع أن يستغني عن وجود عدو، فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الخطر الشيوعي الأحمر، ظهر العدو الأصفر والعدو الاخضر، وذلك في إشارة إلى الصين ومنطقة جنوب شرق آسيا كخطر أصفر يهدد اقتصاديات ومصالح الغرب، فيما يمثل الإسلام الخطر الأخضر الذي يستهدف هدم الحضارة الغربية وتغيير هويتها. لكن أهداف صناعة العدو ووظائفها في الغرب تختلف تماماً عن نظرائهم في النظم الشمولية، فلن يكن العدو في النظم الديمقراطية يوماً سيفاً مسلطاً على حقوق وحريات الشعوب الغربية، التي مارست كامل حقوقها السياسية، في أحلك ظروف الحرب، فالبريطانيون اختاروا تشرشل رئيساً للوزراء في وقت كان النازي سيد أوروبا بلا منازع وطائراته وغواصاته تهدد قلب لندن.