18 نوفمبر، 2024 5:27 ص
Search
Close this search box.

التقاعد ، معاناة حقيقية

التقاعد ، معاناة حقيقية

معظمهم ، من صنف نادر ،بل منعدم هذه الأيام ، من المتحلين بالشرف والمبدأ والنزاهة ، معظمهم  ممن يمشي على ثلاث ، أو محدودب الظهر ، وقد ارتسمت على محياه ملامح الذل ، عيون ، أطفأت بريقها مرارة الزمن وخيبات الأمل ، البعض ممن لا يزال ممسكا بشيء مما تبقى من كبرياء وكأنه قابض على جمرة من نار ، كبرياء نحتتها الايام ، ونزق السياسيين وبخلهم وأهمالهم ، كل ذلك لأجل رزمة نقدية لا تكفي لأكثر من نصف الشهرفي أحسن الأحوال ، ويبقى الشهر ونصف الشهر ، يقتات فيه من دمه ولحمه وصحته وكرامته ، في دولة لا ترمي له الا الفتات ، من شباك السلطان .
ساسلة طويلة من الوعود الكاذبة بتحسين الرواتب التقاعدية المضحكة والمبكية في ﺁن ، كلما علا صوت الفقراء في الشوارع ، ثم تتلاشى تلك الوعود مع الزمن ، وبأنتظار موجة غضب جديدة ، وعد كاذب أخر!.
رجل عجوز ، بسحنة يعلوها الذل يمشي متعثرا ، يبدو جيدا انه كان عزيز قوم ، يتكلف شيئا من ابتسامة نسيها منذ زمن بعيد ، يتجه الى شبّاك الفرج ، يبرز بطاقته (الغبية) ، تقاطعة الموظفة بنبرة استخفاف واضح : (حجي ، اليوم ماكو تقاعد) ، يشعر بالخجل من رواد المصرف من الميسورين ، فتقاعده لا يساوي (خردة) في جيوبهم ، تتغير ملامحة الى حيرة وخيبة أمل ، ويعود الى مشيته ، وقد زادت تعثرا وأضطرابا.
يعود لليوم الثاني ، والثالث ، فالرابع ، وقلبه الضعيف ، لكنه الكبير ،يستجمع قواه ليخفق ، كيف لا وهذا التقاعد مورده الوحيد ، لا لشيء سوى انه قطع مع نفسه سلوك طريق الشرف والكسب الحلال الصعب والشاق في هذا البلد ، يبرز بطاقته مرة أخرى ، تطلب الموظفة وضع اصبعه على موضع البصمة ، يمد يده المرتعشة والمتعبة ، تتمتم الموظفة بعبارات نزقة وهي تمسك بأصبعه لتضعه على الجهاز ، ينتظر الفرج ، تتأفف الموظفة : (حجي ، ماكو بصمة ، روح أغسل ايدك) ،تزداد حيرته وتتحول الى يأس ، يعيد وضع اصبعه مرارا ، والجهاز يأبى ان يتعرف على بصمته  وسط تبرم وانزعاج الموظفة ، ورغم ذلك لم ينس حس الفكاهة فيقول : (بنتي ، اريد كم فلس ، مو أدخل مغارة الأربعين حرامي)!.
تتكرر هذه الحالة عدة مرات مع كبار السن ، وكأن الزمن يريد سلبهم كل شيء ، حتى عمق بصماتهم  ، لكنه يعمّق تجاعيد وجوههم ، يعيشون مع حيرتهم وكأن الدولة نبذتهم ، وشعور يحرق اعماقهم بمرارة لاذعة ، لقد بذلوا زهرة شبابهم في خدمة البلد ، وها هي تجازيهم بكل سلبية ، وعلى جميع الصّعُد ، اما ببخلها براتب تافه ، أو تأخر موعد الصرف ، والوجوه المتجهمة ، وكأنها تدفع له من جيبها .

أحدث المقالات