18 ديسمبر، 2024 7:55 م

ازدواجية المجون والتدين ومثالها الشاعر ابن الحجاج

ازدواجية المجون والتدين ومثالها الشاعر ابن الحجاج

قبل نحو عشرة أيام كانت زيارة الأربعين لمناسة مرور أربعين يوماً على استشهاد الحسين في واقعة كربلاء، وكلتا المناسبتين يستقبلهما المسلمون والشيعة منهم على وجه التحديد بكثير كمن الحزن والإجلال، ويُستقبَل الزائرون الذين يقطعون مسافات طويلة قد تبلغ أسبوعاً أواسبوعين سيراً على الأقدام وقد تستغرق شهراً أو أكثر للقادمين من إيران ودول الخليج للوصول الى مدينة كربلاء حيث تمارس الطقوس من ردّات وترانيم حزينة يصحبها لطم على الصدور أو ضرب بالسلاسل الحديدية على الأكتاف والظهور وأبشعها منهما ما يعرف بالتطبيرحيث تشج الرؤس بالسكاكين والسيوف لتسيل الدماء مدرارا..الخ ..

ولست بصدد ذكر الممارسات الأخرى الضارة من قبيل التسرب من الأعمال والهدر في المال المبذول لإكرام الزوار وحتى توفير المبيت، ولست بصدد أن أذكر كيف تستغلهذه المناسبات ليظهر لنا الساسة الفاسدون متلفعين برداء التقوى مجللين بالسواد وبأقمشة خضراء للسادة الأشراف لخدمة زوار الحسين وتقديم المأكولات والمشروبات وهم متحزمين واقد اطلقوا لحاهم تعبيراً عن الحزن.. وحيث الانتخابات على الأبواب فإن المناسبات هذه والعتبات المقدسة ستكون جدُّ ملائمة للدعاية والظهور أمام الناس وعبر القنوات الفضائية أمام العالم بمظهر المعظِّمين لشعائر الله التي هي من تقوى القلوب!.. ذلك لأن هذه الأمواج البشرية التي قد تصل بضعة ملايين زائر وزائرةيعتقدون أن ممارسة طقوس الزيارة هي من قبيل تعظيم شعائر الله وهي تغفر الذنوب،بشفاعة الحسين؛ أما المبادىء التي ثار من أجلها الحسين فلا تذكر إلا من قبل الأقل من الخطباء، بيد أنه من الناحية الأخرى ظلت هذه المناسبات تعبر عن السخط على الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة!

وعلى العموم فالحسين يكاد ينسى ما أن تنتهي الزيارة فالماجنون يرجعون الى مجونهم والحكام الفاسدون يرجعون الى فسادهم بعد أن أدوأ ما يلزم والناس البسطاء اعقدوا بضمائر مرتاحة أن ذنوبهم غفرها الله بشفاعة الحسين وجد الحسين!

ولم تكن الإزدواجية بين المجون والتقوى هذه حديثة بل تمتد جذورها الى العصر البويهي حيث سمح البويهيون وهم من الشيعة الزيدية برفع الحظر عن هذه الطقوس والزيارات والمجالس لتصبح علنية..ووفق العصور المختلفة قد تخفت جذوتها قليلا لكنها تحضر بقوة كلما حاول هذا الحاكم أوذاك أن يمنعها.. بيد أن هذه الممارسات تعززت في نفوس العراقيين وظهرت لدى الفرد العراقي أزدواجية الدنيا والدين!

وشاعرنا هو ابن الحجاج، الحسين أبو عبد الله بن أحمد. ولد في بغداد 333ه ، وهو أشهر الشعراء طُرّاً في مُجونه وفحش القول الملازم لكلامه، يجري على لسانه دون تكلف مجرى الماء، هو سهل الأسلوب لا تجد في شعره فخامة لغوية بل سلاسة وجمال لفظ وحسن سبك وجزالة وخفة ظل وسرعة بديهة، فقد بزّ المتقدمين والمتأخرين من الشعراء الماجنين..ولا أحسبه سفيها بل ذكياً لاذعا زد على ذلك فهو خفيف ظل لا تملك أحياناً إلا أن تضحك وأنت تقرأ شعره المكثف اللّماح، وأن كان في فحشه مقذعاً، ففي شعره وصف لما تحت الحزام في السكون وفي الصولات والجولات.. وهو شديد الهجاء فقد ظل المتنبي هدفا لهجائه وسخريته والرجل العظيم لم يجبه ولم يلتفت إليه بل ترفع متحملاً كل البذاءات..وأهونها:

أي فضل لشاعر يطلب الفض – ل من الناس بكرة وعشيّا

عاش حيناً يبيع في الكوفةِ الما – ء وحيناً يبيع ماء المُحيّا

وله أيضاً:

كفّوا عن المتنبي فإنّهُ قد تنبّهْ

يا شاعراً ما يساوي – طرطورُه  نصفَ حَبّهْ

وهجا ثعلب النحوي المشهور ساخراً من النحو والعروض، وسبب الهجاء أن ثعلباً عاب على ابن الحجاجِ شعرَه:

إن عاب ثعلبُ شعري أو عاب خفة روحي

خريتُ في باب أفعل ت من كتاب الفصيحِ

و”الفصيح” هو كتاب ثعلب.

وراح شاعرنا يمتدح شعره كمن يأكل ويقول لنفسه بالهنا والشفا:

فإن شعري ظريفٌ من بابة الظرفاءِ

ألذُّ معنىً وأشهى من استماع الغناءِ

وأحسب ان الشاعر رغم سلاطة لسانه فهو طيب القلب فقد هجا الحسن بن محمد المهلبي الوزير المُحنّك والشاعر المتمكن حيث قال فيه:

قيل أن الوزير قد قال شعراً يجمع الجهلُ شِملَهُ ويضمّهْ

ثم أخفاه فهو كالهرّ يخرا في زوايا البيوت ثم يَطُمُّهْ

( أعفّ ذكر البيت الثالث لأنه مقذع للغاية)

كنت طالما أتوق الى معرفة اللهجة البغدادية وشيء من مفرداتها.. ويبدو أن قاموس الخلاعة والبذاءة غني لدى الشاعر الذي سئل كيف تهيأ له هذا التمكن من لغة السوَقة والعوام، فيقول أن لهم عرصات بنيت الى خانات فكان يشغلها الحرفيون من حلاقين وحجامين ومُنظفين نهاراً وتصبح غرفها في الليل منامات للفئات المسحوقة من الشحاذين وأرباب الفسق والمجون فكان يجالسهم ويغرف من شوارد مفرداتهم السوقية البذيئة، تماماً بمثل ما اغتنت لغة المتنبي بفصاحتها وجزالتها وشواردها من بادية السماوة، فشتان شتان!

لكن حين بلغه موت الوزير المُهلّبي يرثيه بقصيدة تدل على حزنه الحقيقي وتوجعهأذكر منها:

يا معشرَ الشعراء دعوةَ موجَع لا يُرتَجى فرّحُ السلوِّ لدْيهِ

عَزّوا القوافي بالوزير فإنها تبكي دماً بعد الدموع عليهِ

مات الذي أمسى الثناءُ وراءَهُ وجميلُ عفةِ الله بين يديه

فيعلمنّ بنو بويه أنما فُجعت به أيام آل بويهِ

وبودي أن أذكر بعضاً من مجونه الشعري بعد ان حذفت الخليع منه:

ولقد عهدتُك تشتهي – قُربي وتستدعي حضوري/ وأرى الجفا بعد الوفا مثل الفسا بعد البخورِ/ يا .رية العدس الصحي ح النيء والخبز الفطيرِ/ يا .رطة الشيخِ المبج – لِ بين حُسّادٍ حضورِ/ يانتنَ رائحة الطبي – خِ إذا تغير في القدورِ / ياقعدة في دجلة والريح تلعب بالجسورِ/ يا ملتقى سعف الأيو رِ على على عراجين البظورِ.

وقد دُعي ابن الحجاج الى دعوة وتأخر عنه الطعام وراح صاحب الدار يتشاغل جيئة وذهاباً، والشاعر قد عضه الجوع بنابه فقال:

يا ذاهباً في داره جائياً  بغير معنى وبلا فائدهْ

قد جُنّ أضيافُك في جوعهم فاقرأ عليهم سورة المائدهْ

ماهي منزلة ابن الحجاج الشعرية؟ فقد وصفه ياقوت في معجم الأدباء: ” أنه شاعر مفلق، وقالوا إنه في درجة امرىء القيس.. وقد أجمع أهل الأدب على أنه مخترع طريقته بالمجون والخلاعة ولم يسبقه اليها أحد ولم يلحق شأوه فيها لاحقٌ قدير على مايريده من المعاني الغاية في المجون مع عذوبة الألفاظ وسلاستها” معجم الادباء ج3ص371 تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1993. وقد أكد ذلك ابن خلكان في وفياته واعجب بشعره البعيد عن التكلف وذكر أن مقرب من الأمراء والوزراء ومن علية القوم.. بل تولى حِسْبة بغداد وهو منصب رفيع يحتاج الى المتابعة والصرامة والجدية في العمل والنزاهة، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 144 تحقيق يوسف علي طويل ومريم قاسم طويل منشورات بيضون بيروت 1998.

أما الوجه الآخر لابن الحجاج هو كونه شيعياً ملتزما له قصائد ذات سمت عال في مدح آل البيت وذكر مظلوميتهم وهو يجاهر بشيعيته ويزور أضرحة الأئمة ولعل من أشهر قصائدة قصيدة له وهو يزور مقام الإمام علي:

يا صاحب القبة البيضاء في النجف – من زار قبرك واستشفى لديك شُفي
زوروا أبا الحسن الهادي لعلكمُ – تحظون بالأجر والإقبال والزلف
زوروا لمن تسمع النجوى لديه فمن – يزره بالقبر ملهوفا لديه كفي
إذا وصلت فأحرم قبل تدخله – ملبيا واسع سعيا حوله وطُف
حتى إذا طفت سبعا حول قبته – تأمل الباب تلقى وجهه فقف
وقل: سلام من الله السلام على- أهل السلام وأهل العلم والشرف
إني أتيتك يا مولاي من بلدي- مستمسكا من حبال الحق بالطرف
راج بأنك يا مولاي تشفع لي- وتسقني من رحيق شافي اللهف
لأنك العروة الوثقى فمن علقت – بها يداه فلن يشقى ولم يخف

والقصيدة طويلة. وترى أن مبدأ الشفاعة حاضر، مما عزز تحويل الدين الى طقوس عبر عشرة قرون على الاقل. ومازالت الشفاعة تفعل فعلها في إزالة الذنوب من الماجنين والفاسدين والسارقين ومقترفي الجرائم فلأجل هذا هي الطريق الأسهل، مشيٌ على الأقدام وندبٌ ولطم وضرب زناجيل وتطبير!!

من يقرأ القصيدة سيفاجأ بتغير اللغة من الرقة والعذوبة الى الفخامة والهيبة وجمال السبك حتى يتبادر الى الذهن رائعة الفرزدق في وصف ومدح الإمام زين العابدين.للشاعر ابن الحجاج فصل في موسوعة الغدير للأميني، وفي أعيان الشيعة للعلامة محسن الأمين وفي شعراء الطف للسيد جواد شبر، وفي الذريعة في تصانيف الشيعة لأغا بزرك طهراني..

توفي الشاعر ابن الحجاج يوم الثلاثاء السابع والعشرين جمادي الآخرة سنة 391هحسب ابن خلكان في وفياته،  والسابع عشرجمادي الآخرة حسب ياقوت في معجمه وأحسب أن في موضوع الوفيات يُعوَّل على ابن خلكان أكثر من غيره،  ودفن في مقبرة قريش عند مشهد الأمام موسى الكاظم، وكان قد أوصى أن يدفن عند رجليه ويكتب على قبره ” وكلبُهم باسطٌ ذِراعيْه بالوَصِيد” (الكهف 18)ومن الأدلة على منزلته السامقة هو تولي الشريف الرضي جمع مختارات وافية من ديوانه بعشرة أجزاء بعد أن ازال عنه الإسفاف ونظّفه وسماه ” الحسن من شعر الحسين” وقد وصفه بأنه احتوى على“النظيف من السخيف”. وقد رثاه الشريف الرضي بقصيدة  ارتجلها حال أتاه نعيه:

نعوه على ضنِّ قلبي به فلله ماذا نعى الناعيانِ

رضيعُ صفاءٍ له شعبةٌ من القلب مثل رضيع اللبانِ

بكيتُك للشُّرّد السائراتِ تعبث ألفاظها بالمعاني

مواسمُ ينهلُ منها الحيا بأشهرَ من مطلع الزبرقانِ (القمر في تمامه)

والقصيدة طويلة

السادس من ت1 / اكتوبر 2021

ملاحظة. هذه خلاصة من موضوع طويل عن ابن الحجاج.