لقد أضاعت الأنظمة الاستبدادية فرصة للتنوير على يد أبنائها بسبب النظرة المتخلفة في معالجة المشاكل التي تعصف بالشعوب والتي تنضوي تحتها المشاكل السياسية والدينية وما ينجم عنها من توجهات سياسية غير هادفة وسلوكيات اجتماعية متطرفة وقناعات اقتصادية خاطئة.
وقد انشغلت السلطات الحكومية في ملاحقة الافكار السياسية والدينية التي تعتبرها مناوئة لمسارها حتى جعلت منها عقبة كأداء في تقدم برامجها الحكومية بعد أن أنفقت على تجهيزاتها الامنية وبرامجها من الاموال والوقت والجهد للحيلولة دون طغيان تلك التيارات ولكنها في نهاية المطاف قد أخفقت بعد أن وجدت نفسها عاجزة عن تنفيذ خطواتها وتحقيق أهدافها بعد حالة من التفاقم والاستعصاء.
وماكان قد حصل طوال تلك العقود المنصرمة في حياة الدولة العراقية هو ان استعمال القوة المفرطة في القضاء على الحركات المنحرفة والتنظيمات السياسية المناوئة لم ينهي وجودها الفعلي بسبب امتداد جذورها فضلا عن تعاطف المجتمع معها ليس اتفاقا مع أفكارهم إنما تأثرا بمظلوميتهم الانسانية وردود فعل تجاه قسوة السلطات الحاكمة معهم مما جعل جذوة نارها لم تخمد ولم تنقطع أوصال حركاتهم وأفكارهم.
وكل ذلك هو نتيجة لفشل السلطات في طريقة معالجة تلك الازمات التي كان عليها ان تعتبرها واقع حال يتطلب البدء في دراسة تلك الظواهر والتفكير السليم في طريقة احتواء ونسف تلك الظواهر الفكرية والدينية بعد الولوج الى دواخلها والتعرف على حقائقها وعرضها على المجتمع كما هي وبكل صدق مع المحاججة العقلانية للمتحمسين لها.
وكان بالامكان ان يتم ذلك من خلال إطلاق حملة توعية ثقافية عامة في كافة المجالات الدينية والعلمية والسياسية وان تكون الاولوية الى طرح مفاهيم أساسية في الفلسفة وجوانبها التنويرية حيث ان هنالك سراً غامضا لم يكتشفه الكثيرون وهو ان العدو الاوحد للاديان جميعها هو التوغل في أعماق الفلسفة فهي تمثل العمق الغائر للعلم الحقيقي وهي الكفيلة وحدها في البحث عن حقيقة الاديان وأسباب تكوينها وطريقة ابتكارها وتحليل شخصيات القائمون عليها ولهذا فان الاديان عموما تحذر من الاطلاع على الفلسفة والخوض فيها وتعتبرها طريقا شائكا ومحفوفا بالمخاطر كما ان الضالعين في ركاب الدين قد وقفوا موقفا شرساً من علماء الاستشراق الذين دأبوا على البحث الجاد من أجل تفكيك طلاسم التأريخ وأحداثه والوقوف على حقيقته بعد إخراجه من الأوهام مما دفع رجال الدين الى محاولاتهم المسعورة في تشويه صورة المستشرقين وفي هذه الحالة فان رجال الدين يحاولون قطع الطريق أمام المجتمع ومنعهم من معرفة الحقائق بعد التدليس فيها أو إخفاءها وطمسها.
علينا أن نعرف أن شخصا واحدا يكفي لتقويض أركان ومقومات دين او فكر او حزب او تنظيم من خلال الاستقراء الموضوعي والاستدلال المنطقي الهاديء وقد يزداد تأثير ذلك الشخص على الايقاع بتلك المنظومات اذا كان من نفس عناصرها ومن محيطها لانه يكون أقدر على فهم دقائقها وتفاصيلها واقتحام محيطها بعد ان ترعرع بين أحضان كواليسها وفي ظلام دهاليزها وتعرف على خفايا أسرارها فيكون دوره حينئذ فاعلا وقد يحمل بين طياته بذرة إنهاء وجود تلك الحركات والاديان والتظيمات والاحزاب وهذا مافعله ويفعله عزيز السيد جاسم وعلي الوردي وعلي شريعتي وأحمد القبنچي وهاشم العقابي وغيث التميمي وكثير على شاكلتهم مع التفاوت في أدوارهم والاختلاف في مواضيعهم ولكنهم جميعا يساهمون في عطاء عظيم للمجتمع ولربما يأخذون على يديهم إنقاذ مستقبل أجياله.
ماهر سامر