يتشكل العقل الجمعي بفعل التأثير المزمن لمنظومة من العوامل التربوية والثقافية والاجتماعية, من عادات وتقاليد وأيمان ديني وغير ديني, وتأثير مفاهيم العدالة الاجتماعية في حقب تاريخية مختلفة, ويشمل أيضا العوامل الخاصة من أيمان بمختلف الأعراف والعادات والتفسيرات لمختلف الظواهر المحيطة الطبيعية والاجتماعية التي تنشأ عليها مجموعة اجتماعية, سواء من أيمان بسحر وشعوذة, وتأثير أمراض كارثية تحل بمجموعات اجتماعية, وعوامل الفقر والفاقة الاقتصادية والاجتماعية, ومن التفسيرات الجماعية للخوف من الموت والكوارث الطبيعية والمصائب الكبرى, ومن التراكم التربوي والنفسي لأثار التربية الجماعية داخل البيت وخارجه, ومن تأثير لما تفهمه المجموعة عن حركة الكواكب والابراح على سلوكياتها اليومية, وكذلك تصور الجماعة الاجتماعية للإله وطبيعته وقدرته في التحكم في مصائر الإنسان ورسم مستقبله, بل وحتى تصورات الجماعة عن الأطعمة والأغذية وعادات تناولها وطريقة التعاطي مع محتوياتها وغيرها, وتشكل بالتالي كل هذه المفاهيم أطرا مرجعية للجماعة وملاذ آمنا لتفسير مختلف الظواهر !!!.
ويؤكد عالم الاجتماع الفرنسي أميل دوركايم ( 1858 ـ 1917 ) مؤسس نظرية العقل الجمعي على ضرورة التميز بين ما يسميه بالتصورات الفردية التي ترتبط بالأفراد والمجموعات في بيئات وثقافات معينة ولا تصلح للتعميم زمانيا أو مكانيا, والتصورات الجمعية المشتركة بين الشعوب وبين الأجيال التي تؤثر في سلوكهم دون وعي مباشر بها, وتمثل تلك التصورات الروح أو المادة التي يقوم عليها المجتمع. ويؤكد دوركايم على أن الحياة العقلية تتكون من تيارات من التصورات المستقرة في أذهان الناس بعضها فردي وبعضها جمعي .
لا يعني قول دوركايم بأن الحياة ثابتة أو مستقرة على ما ورثته من تراكم فردي وجمعي, بل أن العقل الجمعي والفردي مفهومان مرنان ومتأثران بالعوامل التاريخية التي أنتجته, وبالتالي فهما ليست مفهومان مطلقان أبدا, فأوربا القرون الوسطى التي شكلت عقليا جمعيا دينيا متطرفا في مسحته العامة هي ليست أوربا اليوم التي تنظر إلى العالم الطبيعي والاجتماعي نظرة علمية وبكونه سلسلة من المقدمات والنتائج قابلة للضبط والقياس والتحكم بدون انقطاع وبالتالي تحسين ظروف العيش على مستوى البيئيتين الطبيعية والاجتماعية, وقد شغل إسعاد الإنسان في الفكر الأوربي لاحقا جوهر فلسفاته واتجاهاته الفكرية بعيدا عن التضاد والتوافق بين الإرادة الإلهية كما ارتأته الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى ونظيره في عهد الخلافة الإسلامية, وبالتالي تم الفصل بين ما هو فرديا وخاص برضى الخالق عن من يؤمن به, وبين الرضى الاجتماعي الذي يستدعي النهوض بمكانة الإنسان وبناء مستقبله, وقد تم ذلك في أوربا عبر إذكاء الروح الفردية في البحث والتنقيب والبحث عن الحلول لمختلف المشكلات الفكرية والاجتماعية دون الانصياع الأعمى للعقل الجمعي الذي يحجب العقل الإنساني في البحث عن المشكلات, وكانت ثمرات ذلك واضحة للعيان في التقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتية وبناء صرح عالم يؤمن بالعلم كمفهوم للبقاء, وقد ساهم ذلك في إيجاد حالة من الموازنة وإعادة الخلق بين ما هو جمعي وفردي لمصلحة الإنسان وتقدمه !!!.
يحدثنا غوستاف لوبون الطبيب والمؤرخ الفرنسي ( 1841 ـ 1931 ) في كتابه الشهير ” سيكولوجيا الجماهير ” وهو مؤسس ” علم نفس الجماهير ” أن العقل الفردي يختلف عن العقل الجمعي في التفكير, فالأول قد يصل إلى قرارات منطقية, ولكنه إذا انجرف مع العقل الجمعي فقد يتصرف بصورة سلبية, ” ويمكن أن توجد هوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري, ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الإيمانية فان الاختلاف معدوم غالبا, أو قل انه ضعيف جدا. وألا بماذا نفسر خروج أساتذة جامعيين ورجال فكر في مقدمة تظاهرات مليونية للولاء إلى رمز ديني أو مناسبة دينية أشار بها القائد الديني أو السياسي بسبابة أصبعه فهرعوا لمناصرته دون معرفة حقيقية للدوافع والأسباب ؟؟؟؟.
أن عملية الانصياع الأعمى وراء العقل الجمعي بتفرعاته الدينية والطائفية والقومية والسياسية هي عملية تغيبيه وغسل دماغ وتجهيل, وهي عملية يمكن توضيحها بعملية الارتداد على الذات, فالضحية بالأمس تعيد إنتاج قيم الاستبداد ومعاييره, كاحتقار المواطنين وامتهان كرامتهم وقدراتهم وكذلك إنسانيتهم وعزلهم عن مصادر ثقافتهم وتراثهم وتعويدهم على الرضوخ للأوامر القسرية والإذعان لها. ومثل هذه الأساليب والوسائل القمعية هي في الحقيقة إلغاء لإنسانية الإنسان واجتماعيته معا وتمييع شخصيته وقدراته وإذلاله وجعله كيانا فارغا ومسلوب الإرادة, بحيث يشعر وكأنه منسلخ من مجتمعه وطبيعته الإنسانية, ويصبح عاجزا نكوصي ومرتدا ومعتاد على قهر نفسه وإذلالها والدوس على كرامته حتى يذعن لها. وهكذا يشعر المرء بالاغتراب, وتغلق بوجهه كل السبل, فيحيط به الخوف والقلق حتى يصل إلى حالة من العجز التام والاستلاب !!!.
أن العقل الجمعي سيكولوجيا هو أسوء نماذج العقول حيث ينساق المرء فيه وراء غرائزه البدائية من خلال الإحساس بالآمن الشكلي ضمن المجموع, فيلجا إلى الحلول ذات الصبغة الأرضائية الساذجة للمجموع دون إدراك لمخاطرها المستقبلية في بناء الاستقرار الفعلي على مستوى الفرد والمجتمع, وتحول الكيان الفردي المفكر والمبدع, والذي بفعل فرديته المميزة يضفي جمالا على مختلف الظواهر السياسية والاجتماعية, من شخصية واعية إلى شخصية متلاشية تضمر فيه إنسانيته ولا يرى الأشياء إلا بلونين أما الأسود أو الأبيض, ومن هنا تبدأ المشاعر المكبوتة في الظهور في وسط “الحشد ” حيث يشعر الفرد بالأمان الشكلي لأنه جزء من كيان ضخم يصعب عقابه أو مسائلته عند ارتكاب مختلف الجرائم والسلوكيات, حيث يضعف القانون أمام هذه ” الحشود “, ويتمركز الشخص حول هذا الكيان الضخم أكثر من تمركزه حول ذاته, ويضعف التزامه الحقيقي بالقيود السياسية والأخلاقية والاجتماعية, ويتوحد مع الجموع الهائجة في حركة اقرب إلى حركة ” القطيع ” كما يدركها المفكر الفرنسي ” غوستاف لوبون “, وتصبح العواطف الملتهبة سيدة الموقف فتحرك الجموع بمشاعر الحرمان أو الرغبة أو الظلم أو القمع أو الإحباط أو الغضب, وهي حالات من الهستيريا تبدأ بقلة ثم تنتشر كالنار في الهشيم خلافا لمنطق التجمعات الاجتماعية المستقرة نسبيا, وتتجاوز هذه الحشود قدرة المحركين لها وعدم التبوء بنتائجها النهائية!!!!.
وفي العالم العربي اليوم بكل تنوعاته الدينية والاثنية والقومية حيث تجري على ارض الواقع مجمل تغيرات جذرية, كان هدفها الخلاص من الدكتاتوريات القمعية يصاحبها محاولات ليست بمستوى الطموح لبناء نظم ديمقراطية تعددية لإقامة دولة المؤسسات الديمقراطية وعلى أساس التبادل السلمي للسلطة, متخذة من نموذج الديمقراطيات الغربية كمؤشرات للعمل والاستفادة من الدول المرجعية بهذا الخصوص, إلا إن ذلك يصطدم وبشكل كبير في العقل الجمعي المتخلف والمعوق في حيثياته لبناء الديمقراطية, وهو عقل يحمل في طياته العداء للديمقراطية باعتبارها نموذج غربي ويخالف السنة الإلهية بل ويتعارض مع رضى الخالق, ومن هنا تأتي أفعال الحشود القطيعية الدينية ـ السياسية بشكل مباشر أو غير مباشر كمعرقل للديمقراطية من خلال ما تسلكه من أفعال انكفائية وعزلة عن المجتمع الأكبر, أو من خلال سلوكيات استفزاز للمكونات الطائفية والعرقية لبعضها البعض, أو من خلال سلوكيات عبثية في حرق الأخضر باليابس وخلط الأوراق, أما بالنسبة لسلوكيات الأقليات الاثنية والقومية الأخرى فتجسده حالة الثأر المترسخ في العقل الجمعي بسبب الاضطهاد التاريخي الذي تعرضت له, ولكن بالمقابل بقاء العقدة وتداعياتها يلقي بظلاله على سياسات المستقبل ويعرقل أي مشروع للاستقرار الوطني الشامل !!!.
ويجب التأكيد هنا ان النزعة الغريزية البدائية هي التي تهيمن على العقل الجمعي, فيحصل تماما في دائرة الصراع الانحياز اللاعقلاني لأبناء الملة أو القومية أو الطائفة. فالشيعي يستنجد بشيعته عندما يرتكب جرما ما ويذهب الى مرجعيته في تحليل الحرام وتحريم الحلال, والسني كذلك يحتمي بطائفته عندما يرتكب جريمة ما ويلجأ الى مفتيه لطلب المغفرة. بل ان الامر أكثر من ذلك عندما يكون الأمر معرقلا لبناء دولة الوطن والمواطنة, فالشيعي بمناطق سكناه يسعى لتنفذ المذهب الجعفري أو الشيعي بصورة عامة بكل مفاصل حياته ولا علاقة له بدولة المواطنة, والسني ينشأ محاكم تكفير في مناطق تواجده بعيدا عن الدولة ليقاضي مخالفيه ومن لا يروق لهم, أما ألاثني والقومي فينفرد على مناطق تواجده ليصبح هو الناهي والحاكم المطلق !!!!.
ومن خلال هذا فأن دولة المواطنة لا تبنى على أساس العقل الجمعي المتأثر بأحداث الماضي وتراكماته, رغم دعوات البعض للتعايش معه وبناء ديمقراطية في ظله, بل وأخذه بنظر الاعتبار بكل صغيرة وكبيرة باعتباره أرثا ولا يجوز القطيعة مع الإرث !!!. الديمقراطية نموذج متقدم لم تشهده منطقتنا من قبل وبالتالي حصرها في إطار العقل الجمعي هو موت للتجربة الديمقراطية. أن النظام المحاصصاتي في العراق هو نموذج يستند إلى العقل الجمعي والمصالحة معه وإعادة إحياءه, وكذلك في تونس وليبيا ومحاولات الإسلاميين في مصر, ولا نستغرب إذن من مأزق التجربة في هذه البلدان !!!.
التفكير البدائي يلقي بأوجاعه على أوضاعنا في المنطقة بأسرها ولا نستغرب أبدا أن جيلا واحدا فقط يترك للإهمال والقمع والتخريب والفوضى يكفي وحده لان يرجع بالأمة كلها أجيالا إلى الوراء, ولو كانت قد بلغت ذروة المجد. فالحضارة على حد تعبير ديكارت” خلق متواصل ” لأنها تتطلب جهدا لا يكل ولا يمل. ويجب التأكيد هنا أن بإمكان النظام الديمقراطي ألتعددي المعاصر في حال الإجماع عليه وقبوله أن يخلق عقلا جمعيا جديد يستند إلى عوامل التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري والفلسفي, كما حصل ذلك للعالم المعاصر المتمدن, ولا يعني بكل الأحوال إلغاء للعقل الجمعي القديم, بل أن درجة تمثيله ومساحته تختلف تماما في رسم المستقبل, فالقديم لا يمكن إزاحته بسهولة, ولكن يمكن حصره في نطاق أضيق.
ومن نافلة القول أيضا إن النظم الدكتاتورية في منطقتنا وفي العالم اجمع استطاعت بفعل آلتها الإعلامية الضخمة في تشويه المنظومة القيمية والأخلاقية أن تشكل عقل جمعيا يناصرها في عمليات بقائها وتسوقه كالقطيع, والتجربة مع النظام العراقي السابق هي من احد التجارب المؤذية في ذلك التي لازالت آثارها ماثلة وستبقى إلى حين احد أسباب عرقلة إعادة بناء المجتمع العراقي إلى جانب الأسباب الأخرى التي تم ذكرها …. وحذار من القادم !!!.