هذه القصة مقاربة احداثها لاحد الحالات التي عاشت في مدينة الموصل اثناء الحرب..
كان اهالي المدينة يعيشون في فوضى عارمة يسيطر عليهم الرعب والخوف من المجهول ينتظرون ساعة وصول الجيش إلى مدينتهم لإنقاذهم من الوضع المأساوي الذين يعيشونه .فالجوع والعطش وشبح الموت وصوت الانفجارات أصبحت ملازمةً لهم ويخيم القتل في شوارعهم فبين ساعة وساعة يأتي خبر مقتل شخص في هذه الشوارع التي أصبحت كئيبة يسودها الظلام الدامس في ظل انقطاع تام للكهرباء وانعدام كل وسائل الإضاءة .كان ليلهم طويل وهم يسمعون سقوط القنابل والصواريخ على مدينتهم ولم يكن نهارهم افضل من ليلهم فشبح الموت موجود في كل مكان وكل لحظة يتمنى الأب أن يموت قبل أولاده حتى لا يرى مقتل أحدهم وتتمنى الأم هي الأخرى نفس الأمنية.
كانت أغلب العوائل مجتمعة بعضها مع البعض بسبب تعرض بعض مناطقهم الى القصف الشديد وافتقار بعض هذه العوائل الى المؤن الغذائية .واهالي مدينة الموصل مشهورين بخزن المواد الغذائية في غرفة خاصة تسمى ((العلية )) وهي عبارة عن مخزن صغير داخل دورهم يجمعون بها المؤن لفصل الشتاء حيث تقوم أغلب العوائل الموصلية عند موسم الحصاد بخزن مادة الحنطة وتصنيع قسم منها كمواد غذائية إضافة لمادة الطحين .كانت ايام صعبة جدا …
كانت هناك عائلة تعيش في أحد الاحياء وسط المدينة تدعى عائلة الاستاذ توفيق وأغلب العوائل في ذلك الحي تركت منازلها بسبب بعدها عن طرف المدينة كون عمليات التحرير بدأت من أطراف المدينة الجنوبية .وكانت عائلة الاستاذ توفيق مكونة من زوجته الست نادية وأطفاله التوأم طارق وتيسير وكان الاستاذ توفيق وزوجته يعملان معلمين للدراسة الابتدائية في إحدى مدارس المدينة ويعيشان حياة هادئة ومستقرة لولا لعنة الحروب في هذه البلاد.
لم يمض أربعة سنين على شراءهم هذه الدار التي يسكنونها كعائلة مستقلة حيث كانوا يسكنون منطقة ثانية في المدينة القديمة قريبة من منزل أهل الاستاذ توفيق في منزل قديم يدفعون بدل الايجار الشهري لصاحبه الحاج يونس الذي يملك عدة منازل هناك تبلغ مساحة الدار الواحدة خمسين متر مربع .وتعاني تلك المناطق من زخم سكاني وشوارع ضيقة بنيت على شكل أزقة وقناطر متصلة بعضها بالآخر وقد بنيت اغلب بيوت المدينة القديمة منذ نهاية القرن التاسع عشر. واستمرت الى يومنا هذا ولكن القصف الشديد في هذه الحروب والمعارك التي دارت هناك اسقطت اغلب هذه المنازل وأصبحت مدينة أشباح خالية من السكان.
عادت ذكريات الاستاذ توفيق الى الماضي القريب وكيف كان يدرس في منطقة تسمى الميدان وكان يمر يوميا ً من جانب محل عمو خضر البقال .الذي يبيع الحلويات للأطفال والعاب بإشكالها المختلفة وتكون عادةً مصنوعة من مادة البلاستك وكان في منطقته ورش ومحلات للنجارين الذين يصنعون الأسرة والحاجات المنزلية الأخرى .تذكر وهو يواصل الدراسة في المرحلة المتوسطة في منطقة النبي جرجيس وكيف يقطع كل هذه المسافة بين الأزقة القديمة وكيف كان يتعامل المعلمين معهم وهم يعلمونهم المناهج العلمية كافة تذكر الاستاذ كامل النعيمي مدرس اللغة العربية والذي كان يكتب الشعر العربي الحديث والاستاذ عبدالغني مدرس الفيزياء والاستاذ احمد الديري مدرس اللغة الانجليزية وغيرهم من الأساتذة الكفوئين..
عادته الذكريات الى زمن معهد اعداد المعلمين وهو يكمل مشواره المتوسطي بخمسة سنوات دراسية ليحصل بعدها على شهادة الدبلوم في مجال التعليم .
وكيف تم تعيينه بوظيفته كمعلم ابتدائي ليلتحق في حينها بأحدي مدارس القرى والأرياف في جنوب الموصل وكان نصيبه في التعيين مدرسة اصفية الاولى والتي تبعد عن مدينة الموصل حوالي أربعين كيلومتر وتبعد عن الشارع العام الرابط بين المدينة ونواحي وقرى جنوب الموصل حوالي كيلومتر واحد وكيف قضى أيامه هناك مع طيبة اهل القرية والاحترام المتبادل بين الطالب والمعلم. وكيف كان أهل القرية يجمعون أموال تبرعات لمساعدة المعلمين والمعلمات عندما كانت رواتبهم لا تكفي أجرة نقل لهم .وكيف تعارف على زوجته الست نادية أم طارق عندما كانت معلمة في مدرسة البنات في نفس القرية واحبها وتم مفاتحة أهلها فتزوجها في إحدى العطل الصيفية ولكن الله لم يتمم فرحته في حينها حيث لم يرزقهم الله بالذرية الا بعد مرور أكثر عشرين سنه وبعد التطور العلمي الذي حصل في مجال الطب. بعدها ارزقه الله بتوأم من الاولاد هم طارق وتيسير. وهم الآن مسرته في هذه الحياة فالبنون زينة الحياة الدنيا طارق اكبر من تيسير بربع ساعة تقريباً وهم ثمرة نجاح هذه الأسرة بعد ما حاول الأهل بنصيحة السيد توفيق بالزواج من امرأة ثانية كون الست نادية غير قادرة على الإنجاب ولكن مشيئة الله كانت هي الأقوى فبعد ما يقارب خمسة وعشرين سنة ارزقهم الله بالذرية ..
بالمقابل كانت الست نادية تعود بها الذكريات القديمة إلى طفولتها وأيام الدراسة الابتدائية في أحد المدارس للبنات وسط الموصل في منطقة النبي شيت ذكريات الماضي الجميل ومدن الالعاب في مناسبات الأعياد في ساحات منطقة باب جديد القريبة من محلتهم التي كانت تعتبر مدينة الألعاب الوحيدة في ذلك الزمان .كان العيد له طعم خاص ومرجوحات العم متي الجار الوفي لهم وهو من الإخوة المسيحيين ولكنه هو وعائلته المكونة من زوجته أم بطرس وبناته فاتن وعفاف يشاركون في كل مناسبات المسلمين في مدينة الموصل. ومن ضمن الالعاب أيضاً كانت عربة محمود الحمال التي تنقل الاطفال من شارع الدواسة التجاري إلى منطقة باب الجديد ..وتجمعات الاطفال التي تضم الأهل والأصدقاء والجيران ابناء تلك المناطق السكنية…وهم يفرحون بمناسبة الأعياد الدينية .
وبعدها عندما انتقلت لدراستها المتوسطة ثم معهد اعداد المعلمات ومدة الدراسة كانت فيه خمسة سنوات تخرجت بعدها معلمة في مادة الرياضيات وكانت هي الأولى على دفعتها وتم تعينها ايضا بنفس القرية التي تم تعيين الأستاذ توفيق وهناك تم التعارف وتقدم لخطبتها وأصبحت زوجته وشريكة لحياته ….وبعد ان انتهت لحظة الذكريات فكر الاستاذ توفيق والست نادية بنجاة عائلتهما كون الدمار والقصف سوف يطولهم وعليه لابد أن يجد طريقة ينقذ بها عائلته فاستشار زوجته ام طارق بالموضوع وكيفية الهروب من المدينة. وفجأة ًعرضت عليه فكرة الذهاب الى منزل إحدى صديقاتها في أطراف المدينة وهي معلمة معها في نفس المدرسة ولكنها لم تراها منذ أكثر من سنتين بسبب الأوضاع الأمنية في المدينة .اقتنع السيد توفيق وقرر أن يذهبان في اليوم التالي الى دار السيدة رمزية صديقة زوجته ام طارق بحجة زيارتهم والاطمئنان عليهم ولم يعرفوا أن السيدة رمزية وعائلتها غادرو المدينة منذ ستة أشهر وهم الان يعيشون في إحدى محافظات اقليم كردستان القريبة من مدينة الموصل والتي تبعد حوالي ثمانون كيلومتر شرق المدينة.