منذ انهيار جدار برلين ساد الاعتقاد بنهاية عصر الأيديولوجيات، باعتبار الزمن قد تجاوز معركة الصراع بين الرأسماليين والشيوعيين. لكن الصدام والصراع أصبح أكثر شراسة ودموية، ولكنه ليس صدام الحضارات، ولا حتى صدام بين الأديان الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية)، بل هو الصراع الذي لن ينتهي ولن يتوقف بين الأصوليين والعقلانيين أي بين الثيوقراطيين والديمقراطيين. ورغم ازدهار الأصولية بكل اتجاهاتها الثلاثة عالميا في السنين الأخيرة إلا أن الأصوليين أنفسهم يكره بعضهم بعضا. بلا شك هناك من يروج إلى إشكالية الأصولية الإسلامية على أنها الأخطر في العالم معتبرا كلا من الأصوليات اليهودية والمسيحية بكونهما ظاهرتين هامشيتين، لكن في الحقيقة لولا الدعاية الكاذبة والإعلام النشط للأصوليتين المسيحية واليهودية لما برزت الأصولية الإسلامية بهذا الشكل الإجرامي. لكن في المحصلة تعتبر حرية التعبير هي السكين التي تضع على رقبة الأصوليات الثلاثة، لأن حرية التعبير والفكر والإبداع في رأي الأصوليين تحاول النيل من العقيدة أو التعدي على المقدس.
عندما أصدر صامويل هنتينغون كتابه (صراع الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي)، أكد فيه على أن الصراع القادم لن يكون أيديولوجيا أو اقتصاديا بل سيكون المصدر الغالب للصراع ثقافيا وتحديدا صراع الدم والعقيدة. وقد اعتبر المؤلف أن المجتمعات ذات التراث المسيحي الغربي تتقدم نحو الاقتصاد والسياسة الديمقراطية. أما أفق النجاح في الجمهوريات الإسلامية فهي (كئيبة) على حد تعبيره لأن الثقافة الإسلامية لا تعترف بالديمقراطية وبحسب رأيه. لكن هنتينغون أغفل الحروب الدينية الطاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت، وقد تكون تلك الحروب المدمرة حدثا عابرا لا يرتقي إلى ذكره.
وبرد متواضع ومختصر:
1. ألا يعلم صامويل هنتينغون أن كل الأصوليات المسيحية واليهودية تخفي مصادر العنف من خلال العلاقة الأزلية بين الدين والعنف؟
2. وهل يغفل الكاتب الكبير هنتينغون أن العنف يقوم ويستقر في قلب المقدس، والأصولية اليهودية والمسيحية تأسست اجتماعيا على أساس الدين والمقدس؟
3. وماذا عن التيارات البنتيكوتية الجديدة التي ولدت على آثار الحركة الخمسينية في القرن التاسع عشر، والبنتيكوتية هو الاسم الذي يطلق على بعض الحركات البروتستانتية، وتؤكد هذه الحركات على أن هبات وعطاءات الروح القدس مازالت تعمل إلى اليوم، كما كانت في الكنيسة الأولى يوم نزل الروح القدس على الرسل بعد خمسين يوما من موت المسيح.
في السياق ذاته لم ولن يكون هنتينغون إلا معبرا عن السياسة الأمريكية في تشويه صورة الإسلاميين بمعزل عن الحركات والتنظيمات الإرهابية المسيحية، حيث يذكر الكاتب مارك يورغن ميير في كتابه (باسم الله يُقتلون) ص12، في أثناء فترة حكم الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وضعت وزارة الخارجية الأمريكية حينها عدة تنظيمات إسلامية دينية على قائمة الإرهاب، ومع ذلك لم تأخذ هذه القوائم بالحساب مطلقا الميليشيات المسيحية الأمريكية، حيث اعتبر (وارن كريستوفر) وزير الخارجية الأمريكي خلال فترة ولاية كلينتون الأولى، أن الإرهاب الديني الإسلامي يشكل أكثر المسائل الأمنية أهمية بعد الحرب الباردة.
أما أساطير الأصوليون اليهود فهي تتمحور حول العراق، إذ تعتقد الأصولية اليهودية أن ما حدث من احتلال العراق في عام 2003 وما يحدث الآن هو عقاب مؤجل، بل التحقيق العلمي للنبوءات التوراتية بشأن حضارة بابل وآشور في العراق القديم. في السياق ذاته يصف الكاتب صامويل فريدمان في كتابه (يهودي ضد يهودي)، على الرغم من علمانية الدولة بشكل رسمي لكن لا يستطيع أي مواطن إسرائيلي أن ينجي من العنف إذا لم يحترم اليهودية كما يفهمها الأصوليون. ص104
بلا شك أن جميع هذه الأصوليات الثلاثة تسعى وراء أهداف سياسية أو مصالح تحت عباءة المقدس، ومن هذا المنطلق فإن العنف والإرهاب لا يقتصر على الأصوليين الإسلاميين بل يشمل أيضا الأصوليين اليهود والمسيحيين، ونتيجة لخلفيتهم المتعصبة والمتطرفة قد يلجئون إلى ممارسة العنف. وبهذا الصدد يقول المفكر الفرنسيّ روجيه جارودي في كتابه (أصول الأصوليات والتعصبات السلفية) ” إن المتعصبين لمعتقداتهم وأفكارهم اليوم، سواء كانوا التكنوقراطين، أو الستالينين، أو المسيحيين، أو اليهود أو المسلمين، يشكلون جميعاً أكبر المخاطر على المستقبل، وهذا هو التعصب السلفيّ، وهي عقيدة دينية أو سياسيّة أو غير ذلك في الشكل والإطار الثقافيّ أو الذاتيّ “ص9
في الجانب الآخر من المقال، وبعد الحديث عن الفلسفة الأصولية بكافة اتجاهاتها، وما صاحبها من تغيرات وتبدلات في المفاهيم والمنطلقات، كان أبرزها تدخل حكومات الدول الكبرى فيها في الإعلام بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبأساليب خفية أو ظاهرة، وذلك من أجل تجنيد الرأي العام الغربي بالتحديد ضد الإسلام، تصاعدت الظاهرة وأصبحت الأصولية ظاهرة كونية، وهذا ما حصل فعلا في التعامل مع أحداث 11 سبتمبر 2001م إذ اتبعت وسائل الإعلام الأمريكيّة أسلوباً تكتيكيًّا مع الأحداث الإرهابيّة على برجي التجارة الدوليّة في نيويورك، والهجوم على أفغانستان بتاريخ 7/10/ 2001م، فخلال تلك الفترة ذكرت الشبكات التلفزيونية الأمريكيّة اسم أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة أكثر مما رددت اسم الرئيس الأمريكيّ بوش. وخلال الأسابيع العشرة التي أعقبت عملية نيويورك نشرت مجلة (التايم الأمريكيّة) صورة بن لادن على غلافها ثلاث مرات وصورة بوش مرتين فقط. وفي الفترة نفسها نشرت (مجلة نيوزويك) الأمريكيّة صورة بن لادن عدة مرات على غلافها. نتيجةً لذلك استطاعت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكيّة أن تجعل أسامة بن لادن واحداً من أبرز صانعي الأصولية في العالم. في الوقت نفسه يرى الكاتب نعوم تشومسكي في كتابه (الحادي عشر من أيلول الإرهاب والإرهاب المضاد) هناك اتجاه ثان له رؤية أخرى بالنسبة لأحداث 11 سبتمبر، ففي 21 سبتمبر من العام نفسه نشرت جريدة النيويورك تايمز افتتاحية بقلم المفكر الأمريكيّ (مايكل والترز) دعا في مقالته إلى حملة إيديولوجية لدراسة الجماعات الإرهابيّة، والأسباب والحجج والتبريرات لقيامهم بالأعمال الإرهابيّة بعيدا عن أحداث 11 سبتمبر إذ أكد والترز أيضاً في نفسه مقاله على دعمه وبشكل ضمنيّ لحملة الاغتيالات السياسيّة التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكيّة وإسرائيل وتحديداً ضد الفلسطينيّين الذين تدعي الإدارة الأمريكيّة أنهم يمارسون الإرهاب دون تقديم أي دليل ماديّ. ص106
وعليه فقد كان على مدار التاريخ الصراع بين الديمقراطيين والثيوقراطيين، نتيجة لما أسست أليه الأصوليات الثلاث من خلال ربط الدين بالمقدس تأسيساً اجتماعيًّا. لاسيما أن الأصوليين استطاعوا تأويل إشكالية الدين والمقدس وربطها بالعنف، أو بالمعنى الدقيق عبادة الأشخاص وتقديسهم قد أنتج العقلية الأصولية وبإملاءات قادمة من التاريخ. ولهذا فإن حالة الصدام بين الديمقراطية والثيوقراطية داخل المجتمعات المتعدد الأعراق والمذاهب، نشأت نتيجة فرضَ الأصوليون إرادتهم على مؤسسات المجتمع والدولة بمختلف الوسائل، وذلك بسبب رفض الأصولية حرية التعبير والاختلاف في الرأي وغيرها من مقومات المدنية والحضارة والتنوير وكما ذكرنا آنفا، مما أدى إلى عدم الانصهار المجتمعيّ بين الأفراد، وبالتالي فقد نتج عنه سياسة الإقصاء والتهميش ضد الآخر. لقد أدى التعصب والتشدد لدى الأصوليين في رفض الاعتراف بالهويات الأخرى، بمعنى عدم الاعتراف بتعدد الهويات. حيث يعتقد الأصوليون أن دينهم أيا كان مسلم مسيحي أو يهودي يمثل العدالة والمشروعية، وبقدر ما يلتزم غيرهم في المجتمع بأحكام الدين وفروعه بقدر ما سيكون المجتمع كله مؤمن وصالح.