5 نوفمبر، 2024 5:56 م
Search
Close this search box.

لا حيف إذا فسد الزواني

لا حيف إذا فسد الزواني

يعالجنا الطبيب إذا مرضنا
فكيف بنا إذا مرض الطبيب؟
ما تقدم هو بيت للشاعر العراقي الريفي الجنوبي علي الغراوي، الذي لم يمهله العمر من العقود إلا أربعا، وكان دأبه يتغزل في العراق، ويتألم للعراق، ويبكي على العراق، ويأمل ويرجو للعراق والعراقيين حياة حرة كريمة، وفارق العراق والعراقيين في النصف الأول من القرن المنصرم، ولم يتحقق شيء من أمله ورجاه، لا في حياته ولا بعد مماته حتى ساعة إعداد هذا المقال.
وأراني أتذكر أبياته -رغم قلتها- ونحن نعيش أياما قد تكون منعطفا هاما في حياتنا، حيث ثار الشعب بعد أن طفح به الكيل قبل شهور، ولم يوقفه “كرونا”. وانتفض على الفساد الذي توغل أيما توغل في مفاصل الدولة، بأشكال وأصناف وأنواع لم نكن نعيها او ندركها، فعلى حد علمنا أن السارق على سبيل المثال لاينفذ سرقاته إلا ليلا، حتى قال في هذا صاحب المثل؛ “الليل ستر الحرامية”..! كما علمنا أن جل ما يخشاه الـ “حرامي” هو الـ “چرخچي” وهو حارس الليل، مع أنه -الچرخچي- لايحمل غير صفارته وعصاه، إذ لم يكن مسموحا له بالتسلح بأبسط الأسلحة النارية، ومع هذا نراه مُهابا يتجنبه اللصوص.
لصوص اليوم -لسوء حظ المواطن العراقي- غير لصوص الأمس، وهم لايهابون الرقيب، إذ أنهم “دهن ودبس” مع “الچرخچي”. فنراهم يصولون ويجولون ليل نهار، ولا يردعهم رادع ولا يردهم راد، بل أن سرقاتهم تتم تحت جنح الليل بأريحة، كما أنها تنجز في وضح النهار بأريحية أكثر، ولا خوف عليهم ولا هم يهربون.
وإذا علمنا أن الطامات الكبرى في العراق كثيرة، فإن كبريات الطامات هي أن اللصوص هم أنفسهم الذين يتربعون على عرش السلطات، ويتقلدون المناصب العليا في البلاد، ويمتلكون حصانات رسمية فضلا عن القوة والنفوذ اللذين يتمتعون بهما، وبذا فهم يجسدون المثل القائل: “حاميها حراميها”.
وحين أسمع عبارة: “من اين لك هذا؟” يحضرني البيت الثاني لشاعرنا الغراوي إذ يقول:
ولا حيف إذا فسد الزواني
وكل الحيف لو فسد النجيب
ولا أبالغ في شيء إن قلت أن السنوات الثماني عشرة الأخيرة التي مرت على العراقيين، حملت صورا وقصصا للفساد، يشيب لها الوليد من هول التفاصيل التي تحويها، وما زاد الطين بلة هو الرؤوس والـ (صماخات) التي شكلت عصابات بأذرع أخطبوطية، توسعت وتمددت في مؤسسات البلد ومرتكزاته بأعلى المستويات، حتى بات الفساد السمة الواضحة في أية مؤسسة حكومية، بدءًا من “العارضة” وباب النظام مرورا بالاستعلامات ثم الواردة فالسجلات فالمتابعة… صعودا الى المدير والمدير العام والوكيل… وانتهاءً بالوزير، وإن رمت استثناء أحد من هؤلاء، فإن أصابع الاتهام تشير إلي بالتواطؤ والتستر على الفساد، وعدم نشره صحفيا وإعلاميا، وأكون إذاك خائنا لمهنتي. ومع تصاعد السرقات في البلد، تتصاعد القروض الداخلية والخارجية، حيث الأخيرة تغطي الأولى، وتبيض وجه السارقين.
ومع هذا النكوص في مكافحة الفساد، نسمع عبارات معسولة، تفتح أبواب الأمل مشرعة على مصاريعها، عادة ماينطقها أعضاء لجنة النزاهة، وقبلهم رئيس الحكومة، مؤكدين ملاحقة رموز الفساد وكشف أوراقهم ليتسنى القضاء عليهم، وتتكرر هذه التطمينات لتحسين سمعة كانت قد تشوهت. وحين يشعر المسؤولون أن الأكذوبة لم تعد تنطلي على المواطن العراقي، يتدرعون بجلد الحرباء ويتقمصون دور الشرفاء، فيما تهب الأحزاب على قدم وساق، لطلاء أوجهها الكالحة، بألوان براقة وببهرج فتان، لتظهر بوجه البراءة من كل فعل دنيء لا وطني.
وعلى هذا المنوال، يستمر الضحك على الذقون، ويبقى المواطن المغلوب على أمره، بين مطرقة الفاسدين وسندان الصبر والتحمل، وتستمر اللعبة إلى أجل غير مسمى.
[email protected]

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات