ربما، هناك شيئاً حسناً في السياسة البريطانية، وهذا ليس بصحيح قدر تعلق الامر بموضوع هذه المقالة في الاقل، فالحسن هنا قد نجده في غير السياسة، في اي حقل او مجال، الا في السياسة، ولقد نشير الى بعض حسنات لا تنكر وجودها او اثرها او فائدتها في الاستشراق البريطاني مقابل اطنان من السيئات في السياسة البريطانية نحو العرب، وفي بعض هذه الحسنات تذكرة امانة لتجنب اتهامنا بالعنصرية او التعصب بقرار مسبق، فقد افرز في العقل البريطاني مستشرقون (مستغربون) منصفون قدموا اثاراً مهمة في دراسة تاريخ العرب وادابهم وتراثهم على نحو عام ك: ادوارد بالمر، جورج سيل، ارثر اربري، ثوماس ارنولد.. الخ مع ذلك فان التحول الى السياسة البريطانية لا يعني نقل الحصانة العلمية الى الرأس السياسي بل زرع المصالح في الذراع السياسية والعين السياسية البريطانية حتى لو ان التاريخ والعقل يقولان كلا هذا خطأ.
ولقد يصير الفصل بين السياسة البريطانية وما عداها مسألة ملحة عند دراسة اية قضية تكون بريطانيا طرفا فيها، حتى اذا دخلت السياسة في متنها، ولو هامشيا افسدته في المدى القريب او البعيد، عملياً وتلقائياً وتبعاً لتعددية المصالح وليس ازداوجيتها حسب.
من هنا فان دراسة ما يفكر به الفكر السياسي البريطاني على كرسي المسؤولية يعني الكشف عن اغوار طرائق التعامل مع الآخرين عبر المصالح الذاتية حصرا، واذا اتممنا ذلك بدراسة الوثائق السرية التي تنشرها الخارجية البريطانية في كل ربع قرن او ما يقرب من ذلك وجدنا حقيقة القرب والبعد من المصداقية العلمية والتاريخية بازاء العرب قبل غيرهم وبازاء المسلمين بعد غيرهم. وتشاء المقادير ان ينكشف بعض هذه الوثائق قبل اوانها الرسمي فتقتنصها اياد الباحثين العراقيين وتنشرها مترجمة وبحدود الوضوح الذي تسير لها.
جون ميجر رئيس الوزراء المحافظ قبل توني بلير يتورط تاريخيا واخلاقيا في موقف مع المسلمين في العالم كله، موقف في حيثياته نيات غير حسنة بالتعبير الاكثر رقة وخفة، وفي افاقه ظلم وتحيز غير خاف، بالتعبير الاكثر دقة وصنعة، ثم في تحليل محتواه يظهر العقل البريطاني الستراتيجي المصلحي القائم ابدا على تقديم الانا على كل ما عداه في البر والبحر والجو، على هذا الكوكب الصغير، انه يرغب في ان لا يرى جزيرة اسلامية في بحر اوربي ممزق المسيحية في الواقع، حتى لو كانت هذه الجزيرة الاسلامية تتعامل بكل خصائص المجتمع الاوربي وخصاله العامة الظاهرة.
وبريطانيا ليست معنية على نحو مباشر او سياسي بما يجري في البلقان وقتئذ على سبيل المثال، الا انها لا تفكر بمصلحة هامشية ازاء السياسة الامريكية التي جعلت في هذه المنطقة خطوط تماس عرقية ودينية تهدد مستقبل اوربا والعالم، ومن ثم يتعين التعامل معها باسلوب جديد (تجزئة الجزء) في الغاية النهائية ونصرة الجزء على الجزء ضمن الكل الواحد في التكتيك المرحلي حتى ولو يضرب المدن والمستشفيات بالقنابل والطائرات، وهكذا يكون للسياسة في بريطانية (غاطس مستتر) و (ظاهر معلن) ليست بينهما صلة عضوية او تكامل موضوعي، انما التناقض في كل شيء، الامر الذي يجعل السياسة البريطانية تعمل بأكثر من مكيالين في وقت واحد، ولكن تلقاء موضوعات متعددة، واسوأ ما في هذه السياسة البريطانية انها تمثل رسالة ينقلها الخلف عن السلف بدقة وامانة.
هكذا تابع توني بلير العمالي الذي تربع على عرش عشيرة داوننغ ستريت يستمر في اداء هذه الرسالة داخل انكلترا وبريطانيا (الجزيرة الكبيرة)، ثم في اوربا واسيا الاسلامية والوطن العربي وافريقيا المستقلة عنها سابقا، والمطلوب عودتها الى الاحضان من جديد.
كوسوفو في البلقان لن تصير دولة كما يريد لها زعماء فيها وزعماء انصار لهم في خارجها، والبوسنة والهرسك لن تبقى دولة مسلمة بالمعنى الحرفي والجوهري للكلمة، بل ان كل شي سيتغير، المظهر والجوهر معا، المظهر الهيكلي للدولة والجوهر الحقيقي للعقيدة، ان سيدة واحدة ارتدت الحجاب في البرلمان التركي خلال احدى دوراته في عقد التسعينات قلبت الموازيين السياسية في قمة الدولة وقاعدتها، هذه الدولة التي ضربت يوغسلافيا وقتها تأييداً لكوسوفو التي تريد الاستقلال.. او الحكم الذاتي القوي ولكن تحت اي تدين او تفقه؟ انها معضلة العلمانية الاسلامية او الاسلامية العلمانية التي يريدها الامريكان والانكليز على نمط حياتهم اليومي من غير تردد او تحفظ فهل يحصل هذا فعلا؟ او هل يجوز ان يحصل هذا في شريعة الذين ناصروا وقتها ضرب يوغسلافيا حتى النخاع؟
اننا نرى ان شيئاً كثيرا من الرماد الناعم قد انتشر امام العيون لجعلها في موضع العمى ونرى اشياء كثيرة من الذرائع المصطفة وقد اصطفت في دهاليز العقول لتجعل منها مغلقة الا على نافذة واحدة وضيقة بل باتجاه مظلم لا نستبين منه شيئا واضح المعالم او السمات.
ان نشر مثل هكذا وثائق يعد ناقوسا لخطر اكبر، وانذارا بنكسات قد تكون مقبلة وفي غير البلقان فضلا على ما في فلسطين، فلا تتردد في الدعوة الى استباق الزمن وتفحص الاوراق السرية والعلنية في السياسة البريطانية لمعرفة الخطوات المقبلة لها في ظل الحماية الامريكية او فوق مظلتها.
[email protected]