من أهم معالم أي قيادي سياسي ناجح ، أن يجيد فن التعامل مع شعبه ومع المؤيدين له والخصوم ، وأؤلئك الذين يقفون هم على الحياد منه، بطريقة تبعده عن إثارة المتاعب معهم ، دون أن يخسرهم جميعا ، ويكون العمل على كسب رضا الجميع هدفا له، حتى وإن كان كسب رضا الجميع ، صعب المنال.
وفي بلد مثل العراق، تتعدد فيه الطوائف والمذاهب والأعراق ، فهو قد تعود على حاكم قوي يحترمه الآخرون ، ويضع في إعتباره مصلحة شعبه ومواطنيه وارتباطاتهم الإقليمية وامتداداتهم القومية والمذهبية ، وتكون عملية (التوازن) هو الحل الأمثل للتعاون معهم، لأن تفضيل جهة ما من شعبه ، وتهميش أو معاداة جهات أخرى لايعود على الحاكم بالفائدة المرجوة ، إن لم يكن يخسر قطاعات كبيرة من شعبه، ربما كان لها ميل إيجابي نحو هذا الحاكم ، ووجدت فيه بعض ما يخدم مصالحها، ولهذا فإن تهميش أي طرف أو تشكيلة إجتماعية او دينية او قومية ، لن يقدم له الا المزيد من خسارة رقعة المؤيدين له، وضياع مستقبل حكمه، وقد يدخله مثل هكذا مزايدات في متاعب هو في غنى عنها.
وعادت نبرة السياسيين ضمن حواراتهم في الفضائيات هذه الأيام تحشد مرة أخرى للأغلبية الطائفية، وهم ينظرون بإستعلائية ودكتاتورية للطوائف الأخرى التي تشاركهم العيش، ولم تكن تلك التوجهات حاضرة لدى أي زعيم سياسي في عهود العراق لقرون مضت، إلا في عهد الديمقراطية الجديدة التي جلبها لنا الأمريكان وتركونا نغوص في أوحالها، دون أن يكون بمقدورنا الخروج من آثارها ومترتباتها الكارثية على شعب العراق، وتجد ساسة بل ورجال دين يرتدون العمائم ، ممن يدعون الأغلبية ، وهم يتنابزون بالألقاب ويثيرون الدنيا ولا يقعدونها، إن حاول أحد ما مس ” منصب رئاسة الوزراء” أو أسند الى طائفة أو قومية أخرى في يوم ما ، وكان منصب رئاسة الوزراء هو ” قدر آلهي” خاص بهم، بإدعائهم في حواراتهم ، ليل نهار أنهم من ” آل البيت” ، وأهل البيت الحقيقيين براء من كثيرين منهم، وهناك من يدعي منهم ان طائفة ما ” إغتصبت” السلطة منهم قبل 1400 عام ، وتلك الأباطيل والخزعبلات الغريبة التي لم يعرف لها التاريخ العراقي مثيلا عبر كل حقبه ، لاتقود العراق إلا الى الجحيم أو الهاوية، وهو المصير الذي آل اليه حال العراق الآن!!
مايريده العراقيون من أي حاكم يكون أو قيادي يتولى أمر المسؤولية العليا في البلد ، هو أن يحترم خياراتهم وطموحاتهم وأمانيهم المشروعة، ويغرس روح الاصالة والشجاعة في نفوسهم ، لا أن يظهر بينهم وهو خائف يرتجف، يغير يمينا وشمالا، أي أن لايكون مع مهب الريح، فهذه سمة بعض السياسيين وليس الحكام، ممن يبيع البعض ضمائرهم، لمجرد الحصول على امتياز أو مغنم في السلطة ، ما إن يجد نفسه على وشك حافة ، حتى يقلب هدفه صوب اليمين وصوب الشمال ليختبر أكثر الكفتين رجحانا لمكاسبه ، وليس لديه اية مصلحة وطنية ، حتى أن جمهوره لايحترمه، ولا يعطيه وزنا، إن لم يقف صلبا اذا تطلب الموقف وقفة الرجال مع الحق طبعا، أما إذا زايد على الباطل فهو خسران في كل الأحوال، لأن أمد الباطل قصير ولن يدوم، أما المواقف الرجولية التي تحترم الشعب ولا تفرق ، ويكون همه الوطن والانتماء ، فذلك من تحترمه الجماهير، أو على الأقل يكسب ودها ، ولا تطرح على مسلكه نقيصة كما يجري مع بعض سياسيينا اليوم، الذين تراهم يتقلبون ليل نهار، وتتمنى لو أنهم اصطفوا الى مركب ما ، حتى يعرف العراقيون الى من يميلون ، لا أن يبقوا معلقي الأهواء لاتدري الى أين كيان ينتمون ، أو الى أية جهة يميلون ، ولهذا لن يحترمهم شعبهم، ويكونوا في النتيجة أول الخاسرين، حتى وإن ربحوا لبعض الوقت، إذ إن أمد بقائهم ليس طويلا.
صحيح أن القيادة لاتحتاج الى تنظير، كونها مواهب شخصية ، في الأغلب ، ولكن الإستئناس بآراء ممن لديهم خبرة ودراية أمر في غاية الأهمية ، كونهم يضعون امام أي قيادي مستلزمات ينبغي إيلاؤها الأهمية، وهي من مصلحة الحاكم ، وتؤشر جانبا من الحرص على أن تسود علاقة إيجابية وفعالة بين القيادي وجمهوره وعامة شعبه ، بل ومن الفائدة الكبرى ، لأي قيادي ، أن يقرأ أي قيادي كتاب ( الأمير ) لمكيافيلي، كونه أول من وضع اللبنات الأولى لمستلزمات علاقة الحاكم مع شعبه، وكيف يتعامل مع من معه في السلطة، لكن الملاحظة الوحيدة التي ينبغي إيلاؤها مزيدا من الاهتمام، هو أن ميكيافيلي بالغ في ( أنانية الحاكم ) وأسلوب تعامله مع من يشاركونه السلطة وزرع حالات من الخوف والتوجس فيما بينهم، رغم ان فيها من علامات الصحة الشيء الكبير، لكنها ليست تنفع في كل الأوقات والأزمان، لأن في زمن الديمقراطية ، لاينبغي أن يذهب الحاكم بعيدا، عن علاقته مع من يحكم معه، أو ممن لديهم مقاليد سلطة الحكم، إذ غرس ميكيافيلي بحارا من الشك وعلامات الريبة في هذه العلاقة، وترك الحاكم في حيرة من أمره، لايعرف كيف يتصرف، لكن ملاحظاته تبقى له من الأهمية بمكان ، لايمكن لأي حاكم او قيادي أن يتغافلها أو يعزف عن قرائتها، كونها تشكل دليل عمل، كان أغلب الحكام يضع كتاب ( الأمير ) تحت وسادته، لكي يقرأه كل يوم!!
ومن الامور التي ينبغي ملاحظتها هي مخلفات ما يتركه ( الحاشية ) و ( المقربين ) من تاثيرات سلبية أحيانا على علاقة الحاكم والقيادي مع شعبه ، ومع من هم معه في السلطة ، إذ بمقدورهم تخريب هذه العلاقة أو إنجاحها، بمقدار ما يطلعون عليه كبيرهم من امور تخص الرعية ، وما يريد الشعب إيصاله للحاكم أو الأمير ، وعلى الحاكم أن لا يترك الأمور تقررها الحاشية ، فهم بمقدورهم ان يضللوا الحاكم أو يحجبوا عنه الكثير، مرة يتخذون منها جانب الحرص على عدم إزعاجه، ومرة أخرى بدوافع نفسية خاصة بهم ، وعدم رغبتهم بأن يطلع الحاكم على امور يريدون منع الحاكم أو ثنيه عن اتخاذ قرار بشأنها، ربما بسبب (عوامل انانية وأخرى طائفية أو مذهبية) كلها عوامل نفسية تدخل في إعتبارات الحاشية، عند عرض الأمور على رئيسهم، أو من هو في دفة السلطة العليا، وهم يلعبون ادوارا مهمة في إنجاح سلطة الحاكم أو إفشالها، إن لم يضع حدا لطغيانهم وميلهم للإجتهاد الشخصي أو المصلحي، الذي يضع حواجز بين الحاكم وشعبه، وهم الذي يسهمون في إسقاطه أحيانا، لهذا على الحاكم أن يحذر من حاشيته ومن مقربيه الشيء الكثير.
وقوة الحاكم وهيبته، تزداد بمقدار ما يعزز أواصر العلاقة بينه وبين عموم شعبه، وأن لاينحاز لطرف ضد آخر ، أو يشجع الفتن ومن يفرق الصف، وأن تكون خطاباته حيادية ، لاتمس مشاعر جماعة أو فئة بعينها ، وأن لايكون توجهه طائفيا ، فواحدة من المسببات لقتل تطلعات البشر إن يروا حاكمهم وهو لايتخذ من العدالة طريقا للتعامل معهم، ويعتمد التحريض الطائفي لبعض القطاعات ضد أخرى ، وهو لايشكل مكسبا بل خسارة في الأغلب، أما من يريد أن يكسب العراقيين فعليه أن يعاملهم بنفس النظرة، على أنهم مواطنون يستحقون كل إهتمام ، لافرق بين هذا المواطن العراقي أو غيره ، الا بمستوى عطائه وعلمه ووطنيته الصادقة ، وليست تلك المدفوعة بعوامل الشحن الطائفي والمذهبي والقومي ، وإن لم يعامل شعبه كأسنان المشط، فلن بمقدوره ان ينجح في كسب الولاءات، ويخسر كثيرا ، إن تجاهل مطالبهم، أو أهملها ، ولم يدخل في إعتباره مطالب كبار القوم من الوجوه الاجتماعية ومن المثقفين والعقول الراجحة منهم ، التي لاينبغي تحاشي مطالبهم، وعادة ما تكون تلك المطالب مشروعة ، وتشكل مدخلا لكسبهم ، بدل ان يبقوا على خلاف معه، أو أن يبقي موقفهم على الحياد، في أدنى الإحتمالات.
وهناك نقطة مهمة ينبغي إيلاؤها بعض الإهتمام وهي أن المباديء والأفكار والرؤى الفلسفية التي لها شعبية في الطروحات لايمكن إجتثاثها أو إلغاؤها ، قد تكون هناك محاولات لتعطيلها، لكن وأدها وإجتثاثها يكون بعيد المنال، وقد تنقلب الأحوال على صاحب فكرة الوأد والإجتثاث بآثار سلبية، وهي منافية لحقوق الانسان ولعصر الديمقراطية، خاصة تلك الافكار ذات الطبيعة الليبرالية المتحضرة، التي تعنى برقي المجتمع ونهوضه نحو الأمام، ولا تكرس التخلف والنمط البوهيمي ، وتتوائم مع تفكير المجتمع أو لا تتعارض معه، وعلى الحاكم أن يكسب ولاءات تلك الجماعات التي تعتنق أفكارها، لا محاربتها، إذان مواجهتها ستعود عليه بأضرار لايمكن التنبؤ بمخاطرها على المدى البعيد، بل ان الافكار المحظورة لها القدرة على الانتشار أكثر مما لو لم يتم حظرها، وهذا ما ينبغي على الحاكم ان يأخذه على محمل الجد عند تعامله مع الفكر الانساني، حتى وان إختلف معه في الرؤى والتوجهات.
هذه ملاحظات بسيطة يمكن أخذها في الإعتبار، ينبغي لأي حاكم أو قيادي أن يضعها في الحسبان، إن أريد لمهمته النجاح، أو يريد أن يحظى بقبول إجتماعي واسع، ويرسم له طريق تعامله مع الرعية ومن هم معه في كراسي السلطة، وهي تشكل دليل عمل أولي يمكن ان يغني مسيرة العمل السياسي في عصرنا الراهن ، بما يمكن ان يشكل نبراسا يضيء للحاكم دروب الظلمة ويخلصه من الكثير مما يواجهه من مصاعب وعقبات.