شهرزاد : ألا ترى أننا نجهل في كثير من الأحيان ما يفكر به الآخرون ، فكيف لنا أن نغيّر تصوراتنا عنهم ونحن غير واعين لأفكارهم ؟ .
شهريار : إنْ كانت الإبتسامة العفوية والكلمة الطيبة كفيلة بمد جسور أولية للثقة مع الآخرين فالأمر لا يحتاج الى وقت طويل حتى ندرك الطريقة التي يفكرون بها ، ومن ثم نكون قادرين على تحسينها بالفعل والقول، أو الإحساس بالرضا ، نحن نتعلم في كل يوم شئنا أم أبينا ، فالحوار والسلوك بكل تفاصيله يكشف لنا خفايا الآخرين وخفايا أنفسنا ، ومن هنا يبدا العمل لتغيير القناعات .
يقول ديل كارنجي : (إن أهم درس تعلمته هو أهمية ما نفكر به ، فإن عرفتُ ماتفكر به فقد أعرف من تكون ، لأن أفكارنا تجعلنا ما نحن عليه ) .
ولا أنكر يا شهرزاد أننا بحاجة الى حافز لأفكار التغيير، لاسيما وأننا نخوض حربا مع الأفكار السلبية في ذواتنا ، فالنفس البشرية عامة توّاقة لبناء صورة سلبية عن الآخرين، وإن للقناعات الشريرة التي أُقْحِمت في ذواتنا قديما دورا فاعلا في هذه النزعة ، وقلما نجد من يقول بعد اللقاء الأول او الثاني : “يبدو فلان طيب المعشر ،وأظنه سيكون صديقا مميزا لي” .
إن (الأنا ) المتعالية بكل غرورها ترفض أن تقبل التميز في الآخرين، من الوهلة الأولى ، لهذا نجدها تمنعنا من الإقتراب قدر ما تستطيع ، وتصور لنا ذلك التميز والثقة البناءة غرورا واعتزازا أحمق بالنفس ، وتكاد تنسينا إنها تدافع عن حماقتها وغرورها ليس إلا .
نحن ياشهرزاد في معركة دائما مع أحوالنا النفسية ، فـ(الأنا ) بكل أشكالها الدنيوية ، والنفس ورغباتها الشهوانية ، والقناعات القديمة وآثارها السلبية ، رماح تطعن منابع الخير فينا مرة بعد مرة ، والحمد لله الذي جعل الخير منابع كلما طُعِنَتْ إتسعت مكامنها وزادت محبة وعطاءً.
والتحفيز نحو الأفكار النورانية لا يحتاج إلا للحظات مصارحة مع الذات ، فكل واحد منا يدرك ، في قرارة نفسه، هذه الحقائق لكنه يرفض المواجهة ، ويَركن الى الإستسلام ، طبيعيٌّ أن نحب الانا المتعجرفة لأنها لا تكلفنا مزيدا من الجهد والعطاء ، وننسى أو نتناسى أنها لن تصل بنا الى بر الآمان أبدا .
شهرزاد : أجده حديثا صعبا ذلك الذي نخوضه مع ذاتنا لنعيد لها بريق الأمل والحياة السعيدة ؟
– لا أختلف معك كثيرا ، الأمر بحاجة الى شجاعة وإقرارٍ بالأخطاء، واعترافٍ بالذنوب ، ومكاشفة على أعلى المستويات ، لكن بالنتيجة هو حديث لا يعلمه إلا الله فلما نخافه؟! ، نحن نركن الى مااعتدنا عليه ، أوفرضته علينا الأزمان لنضمن سلامة وهمية تتصدع أركانها مع أول صدمة على الطريق،وأجد الشجاعة التي نحتاجها لحديث صريح مع الذات أقل صعوبة من التي نبحث عنها لمواجهة مواقف عصيبة وضعنا أنفسنا فيها حينما تهاونّا بالمصارحة ، ولا يخفى على عاقل أن أحدنا في حديث دائم مع الذات، فكل فكرة تجول في خواطرنا هي حديث من ذلك النوع ، فإن خرجت تلك الفكرة الى العيان صارت حديثا مع الآخرين ، والعجيب أننا نترجم في لحظات فكرة شريرة نتداولها مع الذات الى عبارة منمقة ذات مغزىً تهكمي ، أو استفزازي، أو دفاعي عن (الأنا المجروحة)،لا ليشئ فقط لانها ( الانا ) ، فيكشف ذلك مايدور في أذهاننا للمتلقي من خلال رد فعلنا المنطوق.
يقول دونالد ميخومبوم ” الكلام مع الذات يوجه العواطف والسلوك ويحددها “.
إذا نحن أمام خيارين لا ثالث لهما : أن نحدث النفس بالطيب فتفوح عطرا ينعش أحوالنا ويغدق العطاء على من حولنا ، أو أن نحدثها بالخبيث فلا يصدر عنها إلا شرار يحرق الأخضر واليابس .
يقول الهادي البشير (ص) (إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً ) .
وقد يكون ظاهر الأمر أنه ليس كل حديث سيء مع النفس يصيب الآخرين بالضرر
، لكن سر التعاسة المنتشرة في أيامنا هذه أنّ الغالبية العظمى من الناس يفكرون بما يقلل من شأن ذواتهم ،ويقلل من توقيرهم لأنفسهم ، الأمر لا يتعلق بأحوال معيشية أو إخفاقات آنية ،إنما بما أشرنا اليه سابقا من ركون الى ما اعتدنا عليه ، ومافرضته علينا مراحل الطفولة وأحوال التربية السيئة، مفردات كـ(لاأستطيع ، سأفشل في المهمة ، أنا قليل الذكاء كما كان يقول ابي او معلمي ) تهيمن على حديث السواد الأعظم من الناس مع ذواتهم ،فتنعكس على سلوكياتهم وأفعالهم ، وتتسبب بإخفاقات أخرى للذات ، وتعلو (الأنا المتعجرفة ) من جديد لتسيء الى الناس ، وإنْ كنّا لا نفكر بالإساءة اليهم ، لا من قريب ولا من بعيد ، في وقت الحديث المحبط مع ذاتنا .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]