قارن صموئيل هنتنغتون في اطروحته ذائعة الصيت (صراع الحضارات) بين لفظة (الحضارة) ومفردة (الدين) حتى ليمكننا احلال تعبير (حوار الحضارات) بدلا من (حوار الاديان) لو لم تكن غايتنا غير ذلك، اذ ان الدعوة الى حوار الاديان شيء اخر، شيء انطلق منه سياسيون كبار في العالم الغربي والولايات المتحدة على نحو خاص، وفي الوقت نفسه نادى به مفكرون كبار في العالم الشرقي، والوطن العربي على نحو خاص، الا ان الجانب الغائي في الحالتين ليس واحدا ولا متوافقا او متطابقا، فلماذا اذن او كيف حصل مثل هذا التناغم؟
اذا كانت النتائج بمقدمتها فلسفيا، كانت الغايات باسبابها سياسيا وان الاساليب بمشروعيتها الاخلاقية المعيارية انسانيا، وهذا الترابط المثلث يجعل من الحدث التاريخي عادلا ومنصفا في حيثياته العامة، ويوجد الاهداف المتماثلة لتصير اقل عددا حتى وان تعذر جعلها واحدا، ومن ثم تصبح السياسات بمعنى البرامج متاحة في التطبيق وبأقل كلفة ممكنة. الا ان هذا التصوير يحادي المثالية من جانبها التجريدي ويجانب الواقعية الموضوعية من جانبها الادائي التطبيقي على قدر متكافئ، والسبب في ذلك معالم هي الخلل في الكيانات التي تتعامل ضمن هذا التوجه واول معالم النشاط العلني والسري هذا، هو الذي تمارسه الصهيونية العنصرية باستغلالها الديانة اليهودية (مسمار جحا) في توجهها الكوني، فضلا عن التوجه الاقليمي المعادي على نحو دائم وثابت للعرب بداياناتهم الاسلامية والمسيحية معا، اي ان معاداة الصهيونية للعرب ليست قائمة على اساس ديني حسب، بل لها مكملات في الاقتصاد والتاريخ والجغرافية، وان اي محاورة فكرية تبدو في ظاهرها دينية صرف، وعلى اساس التوحيد مثلا تنقلب الى جدل في السيادة على الارض وحق بين الامم ثم حق فرض انظمة حياتية جديدة ولكنها غامضة، وحديثة ولكنها متشابكة، فلا تفصح عن غاياتها الدينية التقليدية الموثقة بدساتير معظم دول العالم تقريبا على نظام المساواة بين بني البشر في المعتقد والدين و … الخ، الامر الذي يجعل من فكرة حوار الاديان قضية سياسة معاصرة لها جذور تاريخية قديمة، بل قديمة جدا، ولا يجعل منها ظاهرة تاريخية تتكرر في الزمان والمكان فتكتسب صفتها الظاهرية هذه، اي انها قد تخفت او تنشط في زمكان متغير وهو امر طبيعي في هذه الحال.
مع ذلك، فان هذا لم يحصل في السابق فكيف يحصل في الحاضر او المستقبل؟ نحن لا نقول بذلك على سبيل التعجيز او التحدي المجردين، اذ لنا ان نتوسل بهما ان شئنا، ولكن قولنا هذا يستند الى معطيات برامج العمل الاسرائيلية الرسمية، من بعد الحركة الصهيونية نفسها، فهي تبتلع حقوقا ليس لها، وتستولي على ارض ليست من عائديتها، وتهيمن على اقتصاد ليس من صنعها، وتستحوذ على صفة الاعلى والارقى من دون جدارة او استحقاق، ولترسم اهدافا كبرى من غير تحويل… كل ذلك داخل الكنيست وخارجه، واكاد اقول داخل العقل اليهودي لا خارجه، اي ان الاخرين لا يطلعون على هذه التفاصيل المستقبلية المرعبة الا بالقدر المضلل والذي تسمح به ارادة اللوبي الصهيوني مع الرأسمال الامريكي في وول ستريت بنيويورك في الولايات المتحدة اجمالا!
اما تحاور الاديان على اساس الجغرافية الدينية (العالم الاسلامي والعالم المسيحي)، فانه شبه بندوة متخصصة (سيميوزيوم) يمكن وضعها موضع التنفيذ طبقا لجدول اعمال مسبق الاعداد، وهذا الجدول موضع نزاع السلطة الدينية بازاء السلطة الدنيوية، اي الدين x السياسة فأذا اتجهت ممثليات الاديان (الازهر الشريف والفاتيكان..الخ) الى وضع هذا الجدول، تحرك الكارتل السياسي العلماني ليطالب بحصته في البيت الابيض وعشرة دوانغ ستريت، وفي غيرها في القصور والمقرات، اذ تبقة نتائج الحوار تفتقد التنفيذ من غير موافقة هذه القصور والمقرات، ثم تبقى قرارات هذه القصور والمقرات موضع تحفظ وريبة ومحاصرة من ممثليات الاديان ان لم يؤخذ موقعها منها بنظر الاعتبار، حتى اذا توصلنا الى وجوب التكافل الديني والسياسي عبر قرارات ومقترحات مشتركة، فيها ميل الى العمل والتطبيق بعيداً عن التجريد، فان العامل المحدد لنجاحها يصير مصلحة الحركات السرية واولها المأسونية والصهيونية. فاذا رغبت هذه الحركات او وجدت في كل ما تمخص عن المؤتمر المنتظر فائدة متحققة باركته وسارعت الى الترويج له واسهمت في اعماله حسب منظور الحاسة السياسية السادسة، اما اذا توسمت النقيض من ذلك فعلى المتحاورين المتدينين ان ينتظروا معركة اعلامية ونفسية لا هوادة فيها.
اريد القول ان الحوار لا يكتسب الشمول بين جميع اتباع الاديان السماوية، فاذا اقتربت هذه المصداقية من الاسلام والمسيحية فانها تبتعد عن اليهودية- الصهيونية – بكل المقادير- ولا ينفع الاستشهاد بالتعايش السطحي الهش تحت علمين وفي ظل دولتين على ارض فلسطين الواحدة، لانه يخفي تحت سطحه كل التناقضات التاريخية والسياسية والاخلاقية من دون التعرض لروح الدين السماوي الذي نزل على النبي موسى (ع) او على النبي عيسى (ع) او على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، امتثالا لقوله تعالى في سورة المائدة: “لكل جعلنا منكم شرعه ومنهاجا”.
[email protected]