يجري الحديث باستمرار في الآونة الاخيرة؛ ان الولايات المتحدة في طريقها الى التفكك او في احسن الاحوال في الطريق الى الصراع الداخلي حسب التحليل السياسي لخبراء هذا المجال من الروس، وغيرهم من مختلف بقاع كوكب الارض، وبالذات الكاتب والمحلل السياسي المرموق الكسندر ناز وروف. من جانب اما من الجانب الثاني والذي هو في علاقة ترابطية مع الجانب الاول؛ الا وهو تخلي الولايات المتحدة عن المنطقة العربية او هي في طريق التخلي عن مهامها ومصالحها فيها؛ للتفرغ لصراعها مع التنين الصيني والدب الروسي، ولتعالج مشاكلها الداخلية. قبل الخوض في هذا الموضوع؛ علينا التوقف لفحص ظروف العالم التي تغيرت بدرجة كبيرة، ولو ان هذا التغيير، غير ظاهر للعيان في النظرة السريعة، اي عدم الغوص عميقا في اسباب هذه التغييرات المتسارعة بطريقة مذهلة؛ الاعلام الرقمي، وتكنولوجيا المعلومات، ويقظة الشعوب،
وتعدد مراكز القوى المؤثرة في العالم، وزيادة مساحة الوعي الانساني لشعوب القوى الدولية المُستغِلة، والفشل الذريع للاستراتيجية الامريكية التي اسدل الستار عليها مؤخرا من قبل امريكا ذاتها، والهزات البنيوية في الداخل الامريكي، وهذه الاخيرة، ترتبط بالنهج الامبريالي للسياسة الامريكية، بما ينتجه هذا النهج الناتج من طبيعة هيكلية النظام الامريكي القائم على اسس وقواعد ومعايير النظام الرأسمالي منذ بداية التكوين الاول، مرور بتطوراته وانتهاءا بالوقت الحاضر؛ من رموز الشعبوية والعنصرية للنخب الامريكية، على قاعدة التفوق الامريكي، الراسخة في الذات الفردية والمجتمعية في النفسية الامريكية، سواء في الداخل الامريكي، او في السياسة الامريكية في بقاع العالم، ودرجة ومستوى ارتباط جميع هذه المتغيرات في النظام الامبريالي العالمي. في اثناء الحرب الباردة كان هناك، لشعوب العالم الثالث؛ هامش كبير جدا وفسحة كبيرة جدا، في المناورة السياسية والاقتصادية والعسكرية، طبقا لمصالحهم الوطنية، وهنا نقصد الانظمة المستقلة والتي تتربع على وطن مستقل وذو سيادة، وايضا في التصدي لمشاريع الهيمنة الامريكية والغربية، ولا نقصد هنا الانظمة سواء ما كان منها؛ يتحرك معقبا لسياسة الاتحاد السوفيتي، او ما كان تابعا للإمبريالية الامريكية، بل المقصود الانظمة المستقلة شكلا ومضمونا، بصرف النظر عن الايديولوجية الحاكمة والضابطة لسياسة النظام فيها، خصوصا حين تكون تلك الايديولوجية اداة لتحليل الاقتصادي والسياسي وليس اداة للتطبيق السطحي والميكانيكي الفارغ من الفعل الحيوي البناء. لقد عملت ومنذ قرن على اقل تقدير، بل الصحيح لأكثر من قرن؛ الرأسمالية العالمية متمثلة بالقوى العظمى التي تحكمت بمصائر الشعوب والدول والامم علي سطح كوكبنا، حتى يتسنى لها، أو تسنى لها بهذه السياسة؛ نهب خيرات تلك الدول والابقاء على صراعتها الداخلية، بل هي التي غذتها واحيانا هي من اوجدتها، او حقنتها بدماء التفرقة والاقتتال؛ كي تحرمها من الاستقرار والأمن والسلام، وبالتالي من التنمية الحقيقية، وليس التنمية التي لا تحدث تحولا عميقا في المجتمع، حتى تظل لزمن غير معلوم؛ اسواقا للفائض الهائل من منتجاتها.. وهذا هو ما كان قد حصل على مدار اكثر من قرن من الآن مع بعض الاستثناءات لبعض الدول الكبرى في اقليم، ما تصطلح الامبريالية الامريكية على تسميته التداولية، بالشرق الاوسط؛ من حيث، النفوس والمساحة؛ مما وفر لها مساحة كبيرة للمناورة، مع ان انظمتها وبالدرجة المقبولة؛
انظمة ديمقراطية، ومجتمعات متماسكة كنتيجة لسياسة انظمتها الديمقراطية، وانفاذ برامجها التنموية على سطح الواقع. ان سر بقاء وتطور النظام الرأسمالي في العالم، واطالة عمره وافلاته من الاختناق ومن ثم بالنتيجة الانفجار؛ هو درجة التحكم بمستوى التنمية في دول العالم، بالشكل الذي لا يؤثر على هذه الاسواق. صحيح ان بعض الدول تمكنت من الافلات من هذا الطوق، في جنوب شرق اسيا، وفي الجوار العربي، وفي امكنة اخرى، لكن عددها يظل قليلا بالقياس الى دول المعمورة، من دول العالم الثالث، في اسيا وفي افريقيا وبعض دول امريكا اللاتينية، هذا من جانب، اما من الجانب الثاني؛ فهذه الدول توفرت فيها، قيادات حُرَفية ومخلصة ووطنية، وتؤمن بان السلطة؛ اداة للتطور والتنمية والحرية وتوفير الكرامة وفرص العمل والعيش الرغيد للشعب، واحيانا في بعضها، بقدر جزئي، لا يقود الى الاحتقان الاجتماعي؛ بتعزيز روح الآمل بالأفضل، وليس وسيلة للتسلط والاستبداد، وغلق جميع ابواب الآمل بالأفضل. عليه فان العالم هو الميدان والساحة لصراع مصالح القوى العظمى، والتي هي في جلها، مصالح غير مشروعة، الا بعض الاستثناءات التي تفرضها ساحات التنافس بين هذه القوى العظمى والكبرى، وبالذات في العقد الثاني من هذا القرن، والتي كانت هذه القوى العظمى، ولم تزل تتحكم بمقدرات الشعوب والامم، هذه الاستثناءات سوف تزداد، مع اشتداد التنافس بينهم. نلاحظ ان هذه القوى العظمى تتسابق في صناعة اكثر الاسلحة تدميرا؛ لضمان تفوقها، او لضمان موازنة القوة بينهم؛ للدفاع عن تلك المصالح في جميع ارجاء الكرة الارضية؛ ولطمأنة الدول التي تبحث لها عن حماية من التغول الامريكي، أو حماية من تغول بعض جوارها التي تمتلك عنصر القوة والقدرة وطموحات التمدد وتخليق مراكز نفوذ لها في دول جوارها الاضعف، والتي على الرغم من شراكاتها الاستراتيجية مع الشريك الامريكي، لم تمدها الاخيرة، بما يجعل منها قوة قادرة على حماية امن شعبها ومصالحه، اضافة الى تنمية روح الاستهلاك على حساب التنمية الحقيقية والعميقة والشاملة، بالشكل الذي يجعل من شعوبها وبلدانها كتلة متجانسة وصلبة غير قابلة للاختراق، وليس هشة كما هو حالها في الوقت الحاضر الذي هي فيه؛ فهي لا تمتلك مقومات المجابهة، بما يجعل منها، كأنظمة ودول، بحاجة الى الراعي الامريكي بمخطط مدروس سلفا ومنذ عقود وعقود من هذا الراعي المستغل بأبشع ما يكون عليه الاستغلال. الامر والادهى في كل مرحلة، تغير الولايات المتحدة سياستها فيها؛ تخرج من دهاليزها اوراق ضغط كانت قد احتفظت بها قبل سنوات للحظة التغيير هذه. سوف اُجًمل ملامح التغيير في السياسة الامريكية في منطقتنا العربية وجوارها الاسلامي؛ في الاطار العام للاستراتيجية الامريكية الجديدة، وفي الداخل الامريكي:
امريكا تمتلك اقوى اقتصاد في العالم، تدعمه وتسنده موارد هائلة، ومستدامة، كما ان لها مناطق نفوذ في اكثر من نصف الكرة الارضية، ان لم اقل اكثر من هذا بكثير، وفي مناطق ومواقع استراتيجية، سواء من حيث الثروات الاستراتيجية او الموقع الاستراتيجي؛ تدعمها وتحميها اكثر من 140 قاعدة منتشرة في تلك الدول، على ظهر كوكبنا. هذا من جانب، أما من الجانب الثاني فالولايات المتحدة يحكمها نظام ديمقراطي، مدعوم بوفرة الموارد وشركات عملاقة إخطبوطيه؛ تستثمر في اكثر من نصف المعمورة، ومراكز بحوث ودراسات، تقدم دراستها كأوراق بخطة عمل للإدارات الامريكية؛ مما يمنحها المرونة في اعادة صياغة قوانينها بما يرتفع الى مستوى ازمتها الداخلية الحالية؛ لإخراجها من تلك الازمة بمخرجات تلبي الحاجة الى حل مستدام..
الولايات المتحدة تريد ان تعيد تموضعها في المنطقة العربية وجوارها، لكنها في ذات الوقت لا تغادرها كليا في اي حال ومن الاحوال، بل انها سوف تعتمد على قواعد لها في المنطقة مدفوعة الكلفة من قبل الدول المضيفة لها. هذا من جانب اما من الجانب الثاني؛ فهي تهيأ ومنذ زمن؛ الكيان الصهيوني للعب دور الحماية لبعض الدول العربية بالإنابة عنها، لكن ضمن خططها بالتعاون مع هذا الكيان الاسرائيلي، وما عملية التطبيع الا واحدة من تلك المنطلقات، ولو انها خفت في الفترة الاخيرة ولكنها مستمرة كمخطط مستقبلي. وطبقا لذلك سوف تبدأ في المستقبل القريب بالضغط على الدول التي لم تطبع حتى اللحظة. من بين اهم هذه الدول هي المملكة العربية السعودية، التي سوف تستعمل ضدها في المستقبل القريب ورقة ضغط لإجبارها على التطبيع. ونقصد هنا قانون جاستا الذي بدأت امريكا ولو بصورة غيرة مباشرة اي من اطراف من خارج الادارة الحالية، انما بعلم وتوجيه منها. الادارة الامريكية افرجت عن السرية في هجمات الحادي عشر من سبتمبر ايلول؛ وبدأ التلويح بتعويض عوائل الضحايا. الادارة الامريكية الحالية وهي تلوح به بصورة غير مباشرة، انما تترك مجالا لعدم الترويج له، وهي بهذا ترسل رسائل الى المسؤولين السعوديين؛ أما القبول بالتطبيع او تفعيل قانون جاستا. ان هذا يرتبط بإجراءات اخرى من اهمها؛ الانخراط بناتو عربي، تكون اسرائيل طرفا فاعلا فيه، بل قائدة له؛ بفعل ما تمتلك من عناصر القوة المتطورة جدا، والمستدامة بدعم متواصل امريكي. ان هذا ان تحول الى واقع لا سامح الله؛ سوف تكون هنا اسرائيل مركز صناعي وتجاري ومالي واقتصادي متقدم في المنطقة العربية؛ وهنا تحقق الولايات المتحدة هدفين في وقت واحد؛ ضمان امن اسرائيل بصورة دائمة، وتحويلها؛ من دولة تعتمد على الاعانات من اللوبيات اليهودية الى دولة تعتمد على ذاتها، بل دولة اقليمية مؤثرة في القرارات الاقتصادية والسياسية في المنطقة العربية خدمة للإمبريالية الامريكية.
لا يمكن باي صورة من الصور ان تتخلى امريكا عن المنطقة العربية، لمواجهة الصين وروسيا في الركن الثاني من الكرة الارضية، اي لم ولن تنسحب منها، بل تعيد تموضعها فيها. لأنها وببساطة ان فعلت وهي لم ولن تفعل، فأنها تقدم هدية مجانية لكلا الدولتين، الصين وروسيا، في سد الفراغ الذي تتركه، وما يترتب على هذا من مكاسب لهما سواء في زيادة نفوذهما وقدرتهما على صناعة القرارات السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، او ان الاصح؛ المساهمة في دفعها الى الوجود والفعل المؤثران في السياسة الدولية خدمة لمصالحهما. والاهم هنا زيادة استثماراتهما في جميع الحقول، ومن بينها تسويق صناعتهما العسكرية.. مما يقود او يفضي بالنتيجة الحاكمة بزيادة قوتهما العسكرية والتجارية والاقتصادية والمالية وبالذات العملة على حساب الدولار. عليه وبحكم الضرورات الواقعية؛ ان الولايات المتحدة لم ولن تنسحب من المنطقة العربية، بل تعود الى خططها التي كانت تعمل بها على وفق منطلقاتها في الحرب الباردة، انما بوجه جديد ووسائل جديدة واطراف قديمة من حيث الوجود والمهام في المنطقة وجديدة من حيث توسعة هذا الوجود وشرعنته، وتحويل هذه المهام الى مهام متجذرة وراسخة ومعترف بها.
ان المتابع لما يجري في المنطقة العربية، وفي جوارها الاسلامي؛ ان هناك ترتيبات لهذا التموضع الامريكي؛ تفعيل العلاقة الاستراتيجية بين امريكا وتركيا. قاعدة امريكية في صحراء الاردن يجري بنائها في الوقت الحاضر، مع ستة عشر مركز لانتشار القوات الامريكية. الشام الجديد ومؤتمر بغداد للتعاون والشركة يقعان في هذه الخانة. تسوية او تجميد الخلافات العربية الاسلامية، او ايجاد مخارج تهدئة لها. تسويات عربية عربية؛ يقع في خانتها التسوية العربية مع سوريا، بطريقة او بأخرى. العلاقة المتطورة في الفترة الاخيرة بين روسيا والكيان الاسرائيلي، والعلاقة المتطورة في حقل تكنولوجيا المعلومات وحقول الصناعة العسكرية بين الصين والكيان الاسرائيلي، وبكل تأكيد بعلم ومباركة وتشجيع من الولايات المتحدة، وهنا المقصود روسيا حصريا، اما علاقة الكيان الاسرائيلي مع الصين، يحفها الحذر الامريكي اي ان تكون بمستوى معين ومحدود، انما موجودة لحسابات توفير الدعم والاسناد لهذا الكيان الاسرائيلي كمظلة دولية تزيد من عدد مظلات الحماية الدولية له.
في النهاية نقول ان العالم كل العالم لا يفهم الا لغة المصالح التي تتحكم بالعلاقات بين الدول. الدول المقتدرة، وهنا نقصد ان حكامها لهم القدرة والاستقلال في اتخاذ قراراتهم على ضوء وهدي هذه المصالح؛ في استثمار الفرص برسم سياستهم على مخرجات هذه التحولات بما يضمن مصالح شعوبهم وحقهم في التطور والتنمية. ان المؤسف جدا؛ ان الانظمة العربية لا ترسم سياستها على ضوء هذه التحولات والتغييرات في امريكا وفي العالم، والتي من ابرزها ان العالم لم تعد امريكا تتحكم فيه كما في السابق، بل ان العالم الآن؛ هو عالم متعدد الاقطاب ولكل قطب فيه؛ مصالحه التي يحرص عليها قبل كل شيء. بل انهم يركضون وراء امريكا واسرائيل لتوفير الحماية لهم مما يتصورنه عدوهم او اعدائهم، على حساب قضاياهم المصيرية؛ القضية الفلسطينية مثلا، وهنا لا نعفي من هذا سلطة السيد محمود عباس. فيما الحقيقة هنا انهم بهذا يدمرون مستقبل شعوبهم وحقها في التنمية والتطور؛ بتحويلهم الى مستهلكين بلا تنمية حقيقية، وتميع هويتهم العربية، لتحل محلها الهوية المحلية، وحتى الطائفية والمناطقية والعشائرية. انما في هذا؛ ان لشعوب العرب وبكل تأكيد موقفهم الفاصل في نهاية المشوار، لصالح قضايا الشعوب العربية المصيرية، وبالضد تماما من مخطط امريكا ومن لف لفها.. وان غدا لهذا التجلي لهو قريب وقريب جدا..