لقد تجلّت التضحية بأعظم معانيها مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. فالإمام عليه السلام لم يضحِّ بنفسه فقط، بل ضحّى بعياله ونسائه وأهله وأصحابه وبكل شيء من أجل رضا الله تعالى، وها هي كلماته تعلّمُ كل مضحٍّ أن الهدف الأسمى هو رضا الله مهما عظمت التضحية :” أرضيت يا رب؟ خذ حتى ترضى”.
ومما لاشك فيه أن الأمام الحسين عليه السلام ضرب لنا أروع الأمثلة في التضحية والفداء في سبيل أعلاء كلمة الله وفي سبيل الدين الحنيف وهانحن اليوم نعيش في أجواء هذه الذكرى الأليمة ذكرى أستشهاد الأمام وأهل بيته وصحابته عليهم أفضل الصلاة والسلام فقد ضربوا لنا أروع الأمثلة بالتضحية بالنفس في سبيل الله والدين ويجب علينا أن نعي حجم هذه التضحيه وأن نسير علي نهجهم وأن نحي ذكرهم
فثورة الأمام الحسين لم تكن ابداً ثورة تاريخية وحسب ، وإنما هي أعظم ثورة حضارية تجسدت فيها تجارب كل البشرية بدءاً من نبي الله آدم وإلى لحظتنا هذه كيف لا وقد فاحت منها كل معاني الحياة ، ورسمت للمستقبل خطوطه ، وأوضحت للأجيال أهدافها .. وهي أعظم معركة في التاريخ بين الحق والباطل .. وهي التي اختصرت لنا قراءة التاريخ .. حتى يعيننا في تحدياتنا في الحاضر والمستقبل ..
لقد أسهمت ثورة الأمام الحسين في مساعدتنا على أن ننهل منها كل القيم والمبادئ الراقية في كل زمان ومكان وذلك بما سجلته لنا كربلاء من معاني الحضارة وأسسها ومقوماتها وأسبابها.
فكربلاء هي رمز التضحية من أجل هذه القيم والمبادئ ، وما حضارتنا إلا قيم ومبادئ نسعى لتحقيقها وما صراعنا إلا مع من يعارض أو يشوه أو يسيء إلى سمعة وأهداف هذه الثورة الراقية ، فهل لنا مثال ورمز في التاريخ نتعلم منه كيف نحمي قيمنا سوى الأمام الحسين عليه السلام كيف وهو من أقام لنا الصرح الكبير في الدفاع عن المبادئ بشعاره الكبير الذي صدح عالياً إلى السماء( هيهات منا الذلة)وقد وعد الله تعالى المضحين أحسن الجزاء: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِي}التوبة/ 111
وبما أن الدعوة لا تحيا إلا بالجهاد، ولا جهاد إلا بتضحية، لذا وجبت التضحية وحرّم القعود والتخاذل عن نصرة الله، حتى لو أدّى ذلك الى التخلي عن أعز الناس ومحاربتهم نظراً لأن هناك أهدافاً أسمى، سيؤدي التخلف عنها الى نتائج وخيمة {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} التوبة/24
والتضحية المطلوبة لا تعني بالضرورة أن يموت الإنسان من أجل قضيته، ولكنها تعني حتماً الاستعداد للمغامرةمن أجلها وعدم وضع حدّ لما تتطلبه من الغالي والرخيص. والتضحية بالنفس هي من أعظم تجليات التضحية.
ولم يكن هذا البذل للنفس والولد والأهل، عبثاً، فالإسلام في ذلك االوقت كان مهدداً بالخطر، والمسلمون كانوا في حالة سُبات وغفلة، والظلم عمّ المعمورة، ويزيد لم يتورع عن الجهر بالمعاصي والمحرمات. هذه الغفلة التي أصابت المجتمع في ذلك الوقت والتي قلبته رأساً على عقب، فصار يُرى الحق باطلاً والباطل حقاً: “ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه” ، وانصرف الناس لطلب شهوات الدنيا، فانقلبت المعايير، وبدأت قداسة نسل النبوة عند الناس بالتراجع، فلم يقف لنصرة الإمام عليه السلام إلا القليل، لأن روح التضحية لديهم قد تلاشت، وصار الدين”لعقاً على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون”. هذه الغفلة التي اصابت المجتمع آنذاك لم يكن ليوقظها إلا إهراق الدم، وليست أي دماء هي التي ستحقق الهدف، إلاّ دماء سيد الشهداء ووارث الأنبياء الإمام الحسينعليه السلام . فثار من أجل الحفاظ على الإسلام قبل أن تنطمس معالمه: “على الإسلام السلام إذا بليت الأمة براعٍ مثل يزيد”، ومن أجل إصلاح الناس واستقامة حياتهم والتخفيف عن آلالامهم وإزالة الجور والطغيان: “إني لم اخرج أشرا، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً. وانّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف، وانهىعن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي”.
هذه الأهداف السامية دفعت بالإمام عليه السلام الى التضحية بالغالي والنفيس وتفضيل الموت على الذل:” الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار”،حتى خاض غمرات الموت ولم تأخذه في الله لومة لائم، فنال شرف مقام سيد الشهداء وورارث الأنبياء، ووقى الدين وحفظ الإسلام الذي هو خلاصة جهد الأنبياء بدمه وعياله ونسائه وأصحابه من أجل نظرة رضا من الله سبحانه وتعالى.
هذه هي حقيقة التضحية التي رسمها الإمام عليه السلام لكي تبقى خالدة على مرّ الأجيال ولكي يصل صداها الى قلب كل مؤمن ليبذل في سبيل الحق كل ما يملك ولا يخاف في الله لومة لائم.