كنت قد قرأت عن سفينة كان لها دور بارز في معركة التحرير التي دار رحاها في مدينة جناق قلعة في تركيا, سفينة تصدت للغزو الانكليزي والفرنسي وكان لها دور كبير في دحر الأعداء وإرجاع كيدهم إلى نحورهم, وإنقاذ الجمهورية التركية من التمزق على أيديهم, هذه السفينة تسمى سفينة الألغام “نصرة”.
لم أشاهد السفينة بأم عيني من قبل, وكنت أعتقد إنها موجودة في أحد المتاحف في مدينة جناق قلعة التي دارت المعارك فيها, وقد كانت نصرة مختصة بإلقاء الالغام في مياه البحر لمنع تقدم سفن الاعداء نحو السواحل التركية. إلا أنني وفي زيارتي الأخيرة إلى محافظة مرسين إكتشفت أن السفينة قد تم عرضها للزائرين في قضاء طارسوس التابع لمدينة مرسين بعد أن تم شراء السفينة من قبل بلدية طارسوس. وقد أخبرني بذلك مشكورا الاستاذ عبد الخالق الهرمزي رئيس نادي الاخاء التركماني في كركوك, فكانت وجهتنا إليها يوم الأحد الموافق 12 نيسان 2015م.
ما أن وصلتُ إلى السفينة حتى أحسست بعبق التأريخ, إحساس غريب يراودك وأنت تصعد على متن هذه السفينة. لكل قطعة فيها قصة وفي كل زاوية منها حكاية تروي لك ما حدث في ملحمة جناق قلعة التأريخية. السفينة رممت وفتحت للزائرين وأصبحت متحفا تأريخيا يرتاده كل من يبحث في صفحات التأريخ, بل غدت “نصرة” كتاباً مفتوحاً يسرد كل البطولات التي جرت على متنها, ما يجعل خيالك يغوص في عمق ذاك الماضي المجيد, وروحك تتوحد مع روح سفينةò غيرت مجرى التأريخ ذات يوم.
سيرة هذه السفينة تبدأ من مدينة (Kiel) الألمانية التي صنعت فيها عام 1911م بطول يقارب 40 مترا وعرض يقارب 7.5 مترا وعمق يصل الى 3.4 متر وبحمولة تصل الى 350 طن, وسرعتها تصل الى 15 ميلاً في الساعة. وقد تم شراؤها من قبل الدولة العثمانية العلية بتأريخ 1914م, وسيقت الى القتال عام 1915م لتكون لبنة أساسية من لبنات تأسيس الجمهورية التركية. فلم تكن سفينة عادية, فقد كان لها دوراً استثنائياً بجعل جناق قلعة عصية حصينة أمام الأعداء لا يمكن التطاول عليها.
عدد الطاقم القتالي العامل على متنها كان 61 شخصاً, وكانت سعتها من حمل الألغام تصل الى40 لغماً. أمَا الأسلحة الدفاعيَة التي كانت على متنها فهي مدفع عيار 7.5/40 عدد 1 ومدفع عيار 4.7 عدد 2 و رشاش ميكانيكي 5b عدد2.
خلال معركة جناق قلعة التأريخية كان قائد السفينة هو الرائد المدفعي حقي بك, أمَا قائد مجموعة الألغام فهوالرائد حافظ ناظم بك.
ولعلو شأن هذه السفينة وتقديراً لدورها التأريخي البطولي قامت تركيا بصنع سفينة تقليدية رمزية مشابهة لها وعرضتها في مدينة جناق قلعة أي في نفس الأرض التي دارت فيها المعركة. حيث تكفي “نصرة” شرفاً وعزة بإنها تمكنت بتأريخ 18 أذار 1915م وبفضل ما نشرته من الألغام في مياه البحر من التصدي لسفن الأعداء منها سفينة IRRESISTIBLE وسفينة OCEAN التابعة للبحرية الانكليزية وسفينة BOUVET التابعة للبحرية الفرنسية والتي تمكنت “نصرة” من إغراقهم في عرض البحر وإرسالهم الى ظلمات الاعماق ومنعهم من التقرب.
وبعد ان تم تسريح السفينة “نصرة” من الجيش عام 1955م استخدمت كسفينة حمل, حيث بدأت بالتنقل بين الموانئ حاملة أسفارها حتى غرقت بحملها ذات يوم بعد أن إنطلقت من ميناء مرسين متوجهة الى جزيرة قبرص عام 1989م. وقد بقيت غارقة في مياه البحر لمدة 10 سنين حتى إنتبه لأمرها بعض المتطوعين من الذين يدركون قيمتها التأريخية, فتم إنتشالها من عرض البحر عام 1999م, وقد أسعفت بعد ذلك من التلف ومن تأثير العوامل الجوية من قبل بلدية طارسوس وأعيد ترميمها لتعمر وتجدد, ومن ثم تعرض فيما بعد في حديقة الثقافة, وإفتتاح متحف لها تحت اسم “متحف سفينة الالغام نصرة “.
بلدية طارسوس ترمي من وراء الإحتفاظ بهذه السفينة التأريخية إلى إيصال رسالة إلى الشباب مفادها بأن الشعب الذي لا يعرف تأريخه سيخطط الغرباء له جغرافيته. وهم في تعزيزهم لمكانة السفينة والتأكيد على دورها المشرف في مقاتلة الاعداء والحفاظ على الوطن, إنما يهدفون لأن تكون “نصرة” مصدر إفتخارهم من جهة ومحل إعتزازهم بوطنهم الذي شيد بدماء زكيَة وبجهود الأباء والأجداد, والذي يتوجَب على الخلف العمل للمحافظة عليه والإرتقاء به وفاءاً للسلف الصالح. وهكذا أصبح قضاء طارسوس أخر مرسى لسفينة الألغام “نصرة” وطارسوس قطع العهد على نفسه بأن يحمي السفينة وأن يضمها إلى صدره وإلى الأبد. منهية بذلك حياتها النضاليَة والجهاديَة ومن ثم الحياة العملية الشاقَة الحافلة بالتنقل بين الموانئ المختلفة لترسو في هذا المكان المحصن وتخلد إلى الراحة ولتروي لكل زائر لها حكايات طوال ملؤها العبر والحكم.