بغداد مبنية بتمر فلّش وأكل خستاوي
(الملا عبود الكرخي)
تقرير منظمة الشفافية الدولية الأخير والذي حل العراق فيه في المرتبة السابعة على مستوى العالم في مؤشر ادراك الفساد لم يكن مفاجئة لأحد، بل انه بالكاد يعتبر خبراً بالنسبة للعراقيين الذين يعتبر الفساد الاداري لديهم كأحد الحقائق الثابتة في الكون، وقد لا نندهش لرؤية أحد العراقيين المتحمسين وهو ينتقد التقرير لأنه لم يضع العراق في مقدمة البلدان الأكثر فسادا على وجه الأرض.
يستطيع القاريء الاطلاع على نتائج الدراسة للعام 2013 والتي شملت 177 دولة بصيغة تفاعلية على موقع المنظمة (http://www.transparency.org/cpi2013/results) ، هذا المقال هو مجرد قراءة سريعة للتقرير والمنهجية المتبعة في اعداده تتبعها بعض التساؤلاتعن “كيف وصلنا إلى هنا؟”
قد يسأل سائل، كيف يمكن قياس مستوى الفساد الاداري؟ فالفساد ليس شيئا محسوساً وقد يختلف تعريف الفساد من ثقافة لأخرى. والجواب بأن التقرير يعتمد على مايسميه بـ مؤشر ادراك الفساد (Corruption Perception Index)، ولعل ترجمة كلمة Perception إلى ادراك لا يعكس المعنى الصحيح اذ انها تعني هنا النظرة العامة أو الانطباع العام عن مستوى الفساد في الدول محل الدراسة، أي ان المؤشر لا يقيس مستوى الفساد بقدر ما يحاول ان يستطلع رأي مجموعة من الخبراء عن انطباعهم العام عنه، ومن أجل الوصول الى مقياس موحد، تعتمد منهجية الدراسة على عدد من المصادر (وفقا لما ورد على موقع منظمة الشفافية الدولية). المصادر هي تقارير من منظمات دولية أو اقليمية اخرى تقوم باستطلاعات للرأي تشمل جوانب مختلفة من مظاهر الفساد الاداري، وهذه نماذج من بعض الأسئلة المتضمنة في الاستطلاعات:
– إلى أي درجة يتم منع المسؤلين الحكومين من استغلال مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية؟
– الى أي درجة تتم محاسبة أو محاكمة المسؤلين الحكوميين الذين استغلوا مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية؟
– هل يتم توجيه المال العام من قبل الوزراء أو المسؤولين لأغلاض شخصية أو حزبية؟
– هل هناك عُرف لدفع مبالغ مالية أو رشاوى لضمان الحصول على العقود؟
كل مصدر من المصادر يشمل عدد من الأسئلة ويغطي عدد من الدول، ولا يوضح الموقع الطريقة التي يتم بها جمع البيانات واستخلاص المؤشر بشكل نهائي لكل الدول.
المؤشر اذا لم يأتي بجديد، فالفساد الاداري كان ولايزال موجودا ليس فقط في العراق بل في جميع دول المنطقة بنسب متفاوتة، بل ان الفساد موجود في كل دول العالم حتى الأكثر تقدما منها. السؤال إذا كيف أصبح التكسب من الوظيفة الحكومية عُرفاً اجتماعياَ مقبولا؟ وكيف تجمع الشخصية العراقية من بين تناقضاتها العديدة الشكوى الدائمة من فساد الحكومة وموظفيها وفي الوقت نفسه لا تتردد في أخذ الرشوة تقديمها او حتى التذمر من الموظف الذي يصر على تطبيق الاجراءات بشكل أصولي ولا يقبل أخذ الرشوة!؟
ولدراسة أي ظاهرة اجتماعية يجب محاولة الرجوع الى اصولها التاريخية قدر الامكان لوضعها في اطارها الصحيح، فاستغلال السلطة واحتكارها وتوظيف موارد الدولة لخدمتها يكاد يكون أحد القواسم المشتركة لأنظمة الحكم التي تعاقبت على حكم العراق والمنطقة للألف سنة الأخيرة، ولعل من باب الموضوعية في الطرح أن نقول أن السلطة لحد وقت قريب جدا من التاريخ البشري كانت تتمثل في الشخص أو القبيلة الحاكمة وبالتالي لم يكن استغلال موارد الدولة من أجل توطيد دعائم الحكم يعتبر شيئاءً خارجاً عن المألوف، فالعالم لحد قبل 100 عام تقريبا كان يخضع لحكم ثلاث امبراطوريات تتقاسم النفوذ وتتنازع على المناطق الحدودية فيما بينها، لم يكن تشكل الدول بشكلها الحالي الا بعد انهيار هذه الامبراطوريات بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت النتيجة الطبيعية أن تتبنى أنظمة الحكم التي حكمت هذه الدويلات الناشئة نفس النهج الذي سلكته الامبراطوريات التي سبقتها لانها لم تعرف نهجاً أخر بالرغم من جميع الوعود التي قطعتها على أنفسها والشعارات التي رفعتها، فكرست بذلك حكم الاقلية وزادت حجم الهوة بين أنظمة الحكم والشعوب. وولدت حالة الإنفصال التامة بين الحكومة والشعب والتي لم ينفع معها كل مساحيق التجميل من انتخابات وبرلمان وأحاديث لاتنتهي عن الديمقراطية، هذه الحالة تراها واضحة للعيان في أي مقابلة تلفزيونية مع أي مسؤول حكومي فهو يحاول بكل ما أوتي من قوة ومواهب في الكذب اقناع المشاهدين بأنه واحد منهم (الشعب) وليس من “أولائك الجالسين على كراسي الحكم”!، هذا الانفصام أدى إلى نتيجتين ساهمت في تعزيز ثقافة الفساد في المجتمع.
الأولى أن السلطة لجأتإلى “رشوة” القيادات المحلية أو شخصيات بارزة في المجتمع من أجل أجل كسب ولاءها أو على الأقل كف شرها، القيادات بدورها كانت تحتاج ألى رشوة اتباعها لمحاولة كسب ولائهم، هذه الرشوة كانت تقدم بطريقة مباشرة عن طريق عطايا ومكرمات وهدايا أو حتى المصاهرة، أو بطريقة غير مباشرة من خلال اطلاق اليد أو غظ النظر عن فساد هؤلاء الاشخاص واستغلالهم لنفوذهم من اجل الحصول على مزيد من المال والنفوذ، وقد يكون الاسلوب الثاني هو الاسلوب المفضل من ناحية أنه لا يكلف خزينة الدولة شيئا وفي نفس الوقت يشكل مادة دسمة لما يسمى بـ (ملفات الفساد) التي قد يتم اللجوء اليها في حال تغيير الولاءات، بمعنى أن الرقابة كانت (ولازالت) تطبق بشكل انتقائي على بعض الاشخاص بقدر قربهم أو بعدهم من السلطة الحاكمة.
النتيجة الثانية كانت في القدوة السيئة التي شكلتها كل هذه القيادات في نفسية الموظف الحكومي العادي، الذي وجد نفسه بين نارين، فإما ان يرضى بفتات ما تجود به السلطة أو أن يحاول مجاراة الموجة والسير على نهج من سبقوه وعاصروه. الحصار الاقتصادي الذي فُرض على العراق في التسعينات زاد الطين بلة بعد أن أصبح راتب الموظف لايساوي ثمن طبق بيض، وجاء بعدها السقوط ليقلب الدولة رأساً على عقب وينهي أي شكل من أشكال الرقابة أو المحاسبة. الأدهى أن الموظف الشريف اليوم لا يسلم من أذى زملائه ولا حتى المراجعيين الذين تعودوا أن معاملاتهم لا تكتمل الا بعد دفع “المقسوم” فيتهم هذا المسكين بأنه “صايير شريف براسي” ان اراد أن يفهم المراجع أن هناك خطأ ما في معاملته.
على الجانب الأخر من المعادلة هناك من يدفع الرشاوى لأسباب متعددة كما لا يخفى عن القاريء، ففي الحالة “الطبيعة” يتم دفع الرشوة للحصول على مكاسب غير مستحقة أو غير مشروعة أو للحصول أفضلية معينة في مجال ما بحيث أن قيمة تلك المكاسب تفوق بكثير قيمة الرشوة، أما في الحالة العراقية واشباهها فهي تتعدى ذلك نوع من الأتاوة التي يفرضها صاحب القرار على من سيحصل على عقد أو مناقصة أو حتى في بعض الأحيان معاملة تافهة.
بالإضافة الى هذه العوامل هناك الكثير من العوامل الأخرى مثل تعقيد الاجراءات الحكومية، وانعدام الاتمتة وضعف الاجراءات الرقابية بشكل عام بالاضافة الى عدم توثيق الاجراءات والكثير من العوامل الأخرى ذات الطابع الاداري.
النتيجة فساد مُركّب، وليس من المبالغة القول بأن الدولة قائمة على الفساد وبالتالي فان أي محاولة لاصلاح بعض مظاهره أو جزئياته لن تؤدي إلا نتائج وقتية (هذا ان افترضنا أن هناك نبية للاصلاح أصلاً). الاصلاح اذا يجب أن يبدأ من الاعتراف بحقيقة أننا لا نريد فعلا القضاء على الفساد بقدر ما نريد أن نقضي من نعتبرهم أعداء أو منافسين. وأننا نتيح لأنفسنا أو نسوغ لحلفائنا استخدام جميع الطرق غير المشروعة من أجل تحقيق مصالحنا الشخصية أو الفئوية. ولهذا تعاقبت علينا حكومات عديدة بتوجهات وخلفيات مختلفة وظل هوس السلطة والفساد القاسم المشترك فيما بينها.
سيستمر هذا الحال ما لم نصل الى قناعة مشتركة بأن سلطة الحكومة يجب أن تنبع من تفويض الشعب لها عن طريق انتخابات نزيهة، حكومة تعلم علم اليقين أن جلوسها على كرسي الحكم مرهون بارادة حقيقية لناخب يعرف لمن يصوت ولماذا، حكومة تعلم بأن فترة وجودها في الحكم ستكون مؤقتة مهما طالت. مثل هذه الحكومة لن تكون مضطرة لتقديم الرشاوى لزعماء محليين أو غض النظر عن فساد المسؤليين وستستطيع تطبيق القانون على الجميع. فهل تعتقد عزيزي القاريء أن هذه هي الحكومة التي ستمنحها صوتك في الانتخابات القادمة؟