تبدأ عثرة الشاعر في نصنا هذا من مطلع القصيدة الذي اريد له ان ينافس مطلع اشهر قصيدة وربما اعظم ماقيل مدحا لابن بنت رسول الله -عليه وعلى آله الصلاة والسلام- ووصفا لمناقبه وذكرا لفاجعته ،وهي عينية الجواهري :
فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ ،،،، تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ
التي اقول منها للتذكير :
ورعياً ليومـك يوم “الطفـوف” ،،،، وسـقياً لأرضك من مصرع
تعـاليتَ من مُفـزع للحتـوفِ ،،،، وبـورك قبـرك مـن مَفزع
شممتُ ثـراك فهب النسيم ،،،، نسيم الكرامـة من بَلقـعٍ
ومنها تذكيرا للشعراء الذين يبغون معرفة ميزة الجواهري:
تعـاليت من صاعق يلتظي ،،،، فـان تـدجُ داجية يلمـع
تعاليتَ من “فَلَك” قُطْرهُ.،،،، يدورُ على المِحوَرِ الأوسع
فمدحه و امه
فيا ابنَ “البتولِ” وحَسْبي بها ،،،، ضَماناً على كل ما أدّعي
ويا ابنَ التي لم يَضَعْ مِثلُها ،،،،كمِثلِكَ حَملاً ولم تُرْضِع
و مدحه واباه :
ويا ابنَ البطينِ بلا بِطنةٍ ،،، ويا بنَ الفتى الحاسرِ الأنْزَع
نعود الى قصيدة الفصل الحالي التي اختار شاعرها بحر المتقارب نفسه الذي نظم عليه سلفه ، و ربما كان هذا خطأه الاكبر في نيته ، فلا هو الذي عارض الاولى فنظم على قافيتها و لا هو تركها وترك بحرها ، لان شهرة وجودة قصيدة الجواهري العصماء استقرت في الاذهان واحتلت الصدارة في الشعر العربي في بابها ،وقد استحقت ان ينقش منها بماؤ الذهب خمسة عشر بيتا على مدخل الضريح الحسيني , فقد اهوى شاعرنا هنا بقصيدته في مخاطر المقارنة التي ليست لصالحه طبعا .
يقول في اول ابياته :
قَدِمتُ وَعَفْوَكَ عن مَقدَمي ،،،،حَسيراً ، أسيراً ، كسيراً ، ظَمي
القدوم اسيرا لاتصح وانما وضعت استطالة لترادف النغمة مع حسيرا كسيرا ، فالاسير لايقدم ولا يروح بل يؤسر ويقيد.
قدِمتُ لأ ُحرِمَ في رَحْبَتَيْك ،،، سَلامٌ لِمَثواكَ من مَحرَم ِ
(سلام لمثواك) مستوحاة من رعيا وسقيا اللتين استخدمهما الجواهري وقد احسن شاعرنا هنا اذ ابتعد عنهما فوقع في لفظة مكررة ولا ترقى للتين سبقتاها هناك ، سيما وكما قدمنا فان القصيدة كلها نظمت على بحر قلادة الجواهري التي لاتجارى لصدقها واصالتها وعلو كعبها في كل جانب .و المعروف ان شاعرنا هذا لم يعش طفولته حب الحسين عقيدة كما الجواهري ولذا فالنائحة الثكلى ليست كالمستاجرة. كما تقول العرب ، فبدا الفارق جليا والبون شاسعا .
يقول شاعرنا :
فَمُذْ كنتُ طفلاً رأيتُ الحسين ،،،، مَناراً إلى ضوئِهِ أنتَمي
الانتماء الى الضوء لامعنى له الا الحشو لاقامة القافية
ومُذْ كنتُ طفلاً وجَدتُ الحسين ،،،، مَلاذاً بأسوارِهِ أحتَمي
كان من الاقرب اليه وقد ذكر نفسه “طفلا” ان يذكر الاحضان بدل الاسوار ، ولن يختلف من وزنه شيء الا انتفاعه بسبك البيت ومطابقة المعنى ، فالطفل يناسبه الحضن لحمايته و ليس السور ، والمعنى يجمله “احضانا” لا اسوارا ، وهذه احدى عثرات الشاعر التي تلحظها كثيرا في شعره ان ادمت قراءته ، بل و ستمر علينا في هذه القصيدة لوحدها كثيرا ايضا ، و سأبين لك سببها ومنشأ ضعفها في قادم :
وَمُذْ كنتُ طفلاً عرَفتُ الحسين ،،،رِضاعاً وللآن لم أ ُفطَمِ !
بيت جميل المعنى في عجزه الا ان الضعف في صدره و لو كان الشاعر اعلى قدرة على مسك زمام الالفاظ والتحكم بها لقال :لثمت او الفت فالرضاع لايعرف من الطفل بالحكمة او الذهن بل بالتجربة و القرب.
ويقول:
سلامٌ عليكَ فأنتَ السَّلام ،،،،وإنْ كنتَ مُخْتَضِباً بالدَّمِ
هذا البيت لاشيء عليه الا من ناحية شرعية ربما يأخذها عليه اهل التحوطات بقولهم ان السلام بالمطلق هي صفة الله و يخاطب بها الله (انت السلام) خصوصا اما عندي نقدا فلا الومه.
وأنتَ الدَّليلُ إلى الكبرياء ،،،، بِما دِيسَ مِن صَدرِكَ الأكرَم
لا ادري لم التبعيض هنا و التخصيص بجزء ما من صدره ، فقد اضعف المعنى الجميل هذا بهذا التفصيل غير المبرر فلم يدس من الصدر بل ديس الصدر كله .
وإنَّكَ مُعْتَصَمُ الخائفين ،،،، يا مَن مِن الذَّبح لم يُعصَمِ
ومعتصم الخائفين جميل لا ارى فيه ضعفا الا تركيب الفاظه التي اثقلت الوزن وان لم تكسره (من من لم)،ومن يريد الاحتجاج بالادغام في الاية القرانية الكريمة (،،،امم ممن معك) مع فارق التشبيه ، فليقرا الجملتين ويفرق بين الثقل والسلاسة .
لقد قلتَ للنفسِ هذا طريقُكِ ،،،، لاقِي بِهِ الموتَ كي تَسلَمي
(لاقي به الموت كي تسلمي) المقابلة فيه ناجحة وان كانت مطروقة في شعر العرب وليست من ابتكاره . وهي في الاصل من (اطلب الموت توهب لك الحياة) الشهيرة في وصية احد الخلفاء لقادته وغير ذلك كثير ،،الا ان ضعف الشاعر في اختيار الالفاظ وتركيبها اساء للمعنى وهذا سبيل الناظمين وليس الشعراء . والمعنى الشريف لايكفي وحده لجودة الشعر والصورة ان لم يحوه لفظ عال كما هو راي الجاحظ ايضا في معرض كلامه عن اللفظ والمعنى وقد ساق مثلا :
لاتحسبن الموت موت البلى ..وانما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا ،،،، اخف من ذاك لذل السؤال
اذ علق قائلا عنهما في كتابه وفي دعابة:
” وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً ولولا أن أدخل في (الحكم) بعض الفتك لزعمت أن ابنه لا يقول شعراً أبداً”
و انا هنا ارى ان شاعرنا قائل البيت المنظور السالف :
لقد قلتَ للنفسِ هذا طريقُكِ ،،،، لاقِي بِهِ الموتَ كي تَسلَمي
قد صار شاعرا في عصرنا شئنا ام ابينا ، ولكني اجزم ان ابنه لم يكن ولا اباه. فهذه الكبوة من ذلك الشكل
اما قوله :
وخُضْتَ وقد ضُفِرَ الموتُ ضَفْراً ،،،، فَما فيهِ للرّوحِ مِن مَخْرَمِ
فانه ينم عن شاعرية وصورة جميلة وان تناولها كثير من شعراء قبله الا انه اجاد في تجديدها وهذا يحسب له فليس كل صور الشعر مبتكرة ولكن الاجادة في التجويد.
اما (المخرم) فكان في غير محله من الروح ، قصد فما للروح من مخرم تنفذ منه فقطع السياق لاجل لقافية ولانتهاء الشطر وزنا ، وهو مما لا يصح السكوت عنه لانه مما لايفهم من الاشارة ، فكان هذا قصر نفس شعري وهو من علامات ضعف الشعراء
والذي اكمل تشويه صورة البيت هو قوله اللاحق (درت على الموت في زرد محكم .) في البيت :
وَما دارَ حَولَكَ بَل أنتَ دُرتَ ،،،، على الموتِ في زَرَدٍ مُحكَمِ
فلا نرى اي ترابط او تماسك بين اجزاء الجملة الشعرية ، وماوجود الزرد المحكم الا (عبارة التقطها) من اوصاف الحماسة عند عنترة وابي تمام و امثالهما فاخذها والقاها في اي بيت خبطا لتشكل قافية بلفظة ضخمة كما ظن ، والحقيقة انها واضحة التفكك والانفصال عن اي معنى سبقها ، فالزرد المحكم كما هو معلوم يكون للدرع الذي يلبسه الفارس ، فما وجه وضعه محل الهجوم ، انما هو للدفاع دون شك .
يقول شاعر العرب الاول :
دهمته تطاير الزرد المح ،،،، كم عنه كما يطير النسيل
أي تطاير حبك درعه كما يتطاير الريش عن صدر الطائر عند صيده او رميه
ثم يقول شاعرنا هنا :
من الرَّفْضِ ، والكبرياءِ العظيمةِ ،،،، حتى بَصُرتَ ، وحتى عَمِي
والكبرياء العظيمة لاموجب لها ،الكبرياء بذاتها صفة وان كانت في لفظ اسم ، فلن تزيدها العظيمة الا الاستطالة التي لايقبلها شعر الطبقات العالية
اما (حتى بصرت وحتى عمي) ، (ومسك دون قصد) اي (الموت) ، فقد كانت من اضعف ماجاء به هذا الشاعر فجعلت البيت هزيلا حين تكمله :
فَمَسَّكَ من دونِ قَصدٍ فَمات ،،،، وأبقاكَ نجماً من الأنْجُمِ !
فمات وابقاك نجما من الانجم
هذا من ابيات شعراء المدارس الثانوية ، التي يظن قائلها انه جاء بشيء كبير لوجود اللفظ الرنان ولم يدرك انه هوى بشعره ، فهو اولا لم يحقق التقابل الذي كانت فرصته مواتية بعد (فمات) ، فالاجدى ان يكون بعدها (احياك او حييت) ، ولم يستطع حتى ان يقول (فاعلاك نجما) التي تفيد التحول في اقل شيء ، بدل (ابقاك) الباهتة التي لاتفيد شيئا ولاتبرز شعرا .
وبعد كل شيء فلا صلة مطلقا بين صدر البيت وعجزه ، فما علاقة الموت بالنجم . والهنة الاخرى ان الموت نفسه الذي هو مدار فخامة البيت كما اريد له صار بعيدا عن اذن السامع فقد مر قبل اشطر , ففقدت صورة (فمسك فمات) تاثيرها حيث لم يكن فاعلها ومحورها كمثل لو قيل (مسك الموت فمات) وهذا ما اراده .
اما (دون قصد) الغريبة هذه ، فقد احطت من “القصد” حيث الموت هنا لم يطلبه اصلا فكيف اذن كان قد (ضفر ضفرا له) (ولامخرم) كما ذكر قبل بيتين!
ليومِ القيامةِ يَبقى السؤال ،،،، هل الموتُ في شَكلِهِ المُبْهَمِ
هوَ القَدَرُ المُبْرَمُ اللايُرَدّ ُ،،،،أم خادمُ القَدَرِ المُبْرَمِ
(ليوم القيامة يبقى السؤال) شطر الاستئناف هذا فقد ترابطه حيث فقد حرف ربطه بما قبله . وهذا البيت اراده الشاعر ان يكون فلسفيا على خطى ابيات المتنبي او ايليا ابو ماضي او حافظ ابراهيم الا انه كبا اذ لا قدرة له على ذلك ، (المبرم اللايرد) وقد ذكرت يوما في تناولي لقصيدة شاعر آخر بدراسة ما في قضية استخدام (ال التعريف) مع الفعل ان هذا الامر استخدمه كثيرا- لضعفه- شاعر عراقي اشتهر دون استحقاق وكنت اقصد شاعرنا هنا ، فظن الشعراء انها امر حسن او ربما مالوف في شعر العرب وشائع ، والامر خلاف ذلك وقد ذكرت هناك اصل من استخدمها وكم مر مثلها في الشعر العربي الرصين اذ ربما مرتين لا اكثر وعابها اكثر النحويين وكل النقاد .
سلام عليك حبيب النبي ،،، وبرعمه طبت من برعم
تقدمة جميلة لمقطع جديد
ثم
حَمَلتَ أعَزَّ صفاتِ النَّبيِّ ،،،، وفُزْتَ بمعيارِهِ الأقوَمِ
هذه الجملة تدلك وامثالها من هو الشاعر الضعيف الاختيار فطريا ،و سأفصل هنا مانبهت اليه قبلا ، فالمعروف عن هذا الشاعر منذ بداياته في ثمانينات القرن الماضي او لنقل شهرته (كشاعر سلطة) انه من (شعراء المنجد) كما نسميهم فتارة ترى لفظا ضخما فتظن انه متمكن من فنه جدا
ففي قصيدة يمدح بها الحاكم انذاك
صدام يازهوة الدنيا وبهجتها ،،، وعنفوان شموخ في الرمال نما
تجده يقول : (زاحم السدما) واشياء مثلها (عنفوان شموخ) تعرف جليا انها وضعت من (معجم الفاظ) لاقامة وزن وابداء فخامة متكلفة لكن عندما يصل الى شعر عفوي سلس وصورة او وصف ينبئ عن نفسه دون عناء يفشل ان يقول :مثلا
(ورثت) بدل حملت وهي اوقع واصدق سيما و انه حفيده ، او (اجل) بدل اعز فيكون الشطر:
ورثت (اجل) صفات النبي
وهذا انسب واليق بالنبي واحرى بالحسين الممدوح وكذا هي اصح وافصح
والا فما معنى (اعز الصفات) ، وان صحت جدلا ، فاين هي من صفة (اجل) او (احب) حتى .الا انه اخفق في التقاطها لانشغاله بالالفاظ المعجمية المتكلفة كعادة هؤلاء الشعراء فيخفقون في اقتناص العفوي السلس المناسب من الالفاظ القريبة المؤثرة في متذوقي الشعر الاصيل ونقاده طالبين جذب اذن المستمع غير الخبير .
يتبع لعدم الاطالة ،ج2 من نقد هذه القصيدة للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد.