نُشرت كتابات غير قليلة بشأن التجديد في الفكر الإسلامي. وقُدمت قراءات جديدة وفق منهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، من منطلق أن هذا التجديد بات حاجة ملحة تتطلبها تطورات الحياة المعاصرة في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية وحتى الروحية منها، لكن القليل من هذه الكتابات الجادة عالجت الموضوع من داخل المنظومة الفكرية الإسلامية وباستخدام منهجياتها العقلية وليس من خارجها. وينطبق هذا الأمر على كتابات الباحث الإسلامي الجاد أحمد القبانجي؛ لذلك اخترنا تقديم قراءة عن أحد كتبه الموسوم “الإسلام المدني”، الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2009. يقع الكتاب في 484 صفحة.
يضم الكتاب سبع مقالات كما يسميها الكاتب، وهي ليست مقالات كما هو متعارف عليه ولكنها في الواقع فصول مطولة تتضمن عناوين فرعية كثيرة وجاءت تحت العناوين الرئيسة الآتية: المباني النظرية للمجتمع الديني والمدني، المجتمع المدني وحقوق الإنسان، الحريات السياسية والدينية في المجتمع المدني، الإسلام والنظام الديمقراطي، الإسلام المدني، تطبيق الشريعة أم سيادة القانون، حق الحكومة لمن… لله أم للناس؟ القسم الأول، حق الحكومة لمن… لله أم للناس؟ القسم الثاني.
مقدمة
يشير المؤلف في المقدمة بأنه إذا تجاوزنا الرؤية المثالية للسلفيين إزاء التراث والحضارة الإسلامية في الماضي البعيد وما تتضمنه من انغلاق فكري تجاه الحضارة البشرية الجديدة، وتحركنا لدراسة النموذج الحضاري الذي أفرزته التجارب الحديثة بلغة واقعية وأدوات عقلية، أمكننا التوصل إلى قناعة نظرية وعملية بأطروحة “المجتمع المدني” فيما تمثله من انسجام مع مبادئ الدين وحقوق الإنسان والقيم الإنسانية العليا، ويتركز موضوع هذا الكتاب بالحديث عن هذه الأطروحة الحضارية وما تتضمنه من مفاهيم ومبادئ، وما تقوم عليه من أسس ومرتكزات فكرية وفلسفية من قبيل: الديمقراطية، حقوق الإنسان، الفردية، دور المؤسسات والأحزاب، الليبرالية وأمثال ذلك… (ص 11).
ويرى أن مقولة “الإسلام المدني” تقع مقابل ما يسمى بـ “الإسلام التقليدي” و”الإسلام السياسي”، وأن من خصائص الإسلام المدني ومقوماته محورية العلاقة القلبية مع الله (أي التجربة الدينية)، وما يترتب على ذلك من قبول مبدأ التعددية الدينية وصلاحية العقل البشري للتشريع بما ينسجم مع مبادئ حقوق الإنسان والحضارة الجديدة، ومن خلال هذا البحث يتبيّن بطلان ادعاءات انصار الإسلام السلفي والإسلاك السياسي وعدم انسجام ادعاءاتهم مع العقل البشري المعاصر وما أفرزه التطور الحضاري من قيم ومبادئ وثقافة إنسانية (ص 13).
ويستشهد القبانجي بقول سعيد البزاز الوارد في مقدمة كتاب “في الطبيعة الشرية” لعلي الوردي، بأن لابد أولا من الانتقال من الآخرة المعنوية المجردة التي يمثلها الانتماء القلبي وحسب إلى الآخرة المادية التي يمثلها التكامل والتضامن الاجتماعي الذي انتجته المدنية، فالآخرة المعنوية قد تدع المجموع متشبثا بأذيال الوهم، سواء كان وهم القوة أم وهم النصر، أم وهم التفوق، أم وهم النقاء. في حين أن الآصرة المادية ونتائجها تفرض نظاما كاملا للحياة، تتأسس فيه علاقات إنتاج تتجاوز النمط البدائي إلى ما هو مؤهل لتكوين مجتمع مركب تتقابل فيه المنافع والحاجات والواجبات والحقوق، وهو أمر يحفز الدافع الفردي في الأداء، ويخلق مقاييس للتفوق تتناسب مع الكفاءة ونوع الخدمة العامة ودرجتها فينصف الجهد بدلا من أن يجري المنح المجاني للمراتب على أساس النسب والنقاء القبلي المزعوم (ص 19-20).
لا ثبات مطلق في جميع موارد الشريعة، بل إن الإسلام قد جاء بسلسلة من القضايا والقيم العامة دون أن يجعلها في إطار معيّن وقالب خاص. ومجرد أن يتحرك النبي محمد في أجواء خاصة من أعراف القبائل العربية وينزل القرآن على مجتمع تحكمه تقاليد بدوية وتكون أحكامه منسجمة مع ظروف ذلك المجتمع القديم، لا يعني بالضرورة أن مثل هذه الأحكام دائمة ومطلقة ويجب على كل مجتمع بشري أن يكيّف نفسه مع هذه الأحكام والقوانين، لأن المفروض أن تنسجم القوانين مع المجتمع وحاجاته وثقافته لا أن ينسجم المجتمع مع تلك القوانين.
حقوق الإنسان
اعتاد أصحاب العقل السلفي السني والشيعي على النظر إلى حقوق الأنسان المطروحة من قبل الأمم المتحدة، بنظرة سلبية وأنها حقوق زائفة ما أنزل الله بها من سلطان، وأن المسلمين غير محتاجين للاعتراف بهذه الحقوق، فالدين الإسلامي والشريعة السماوية لم تترك شيئا من حقوق الإنسان المشروعة إلا ذكرتها، أي أن ما كان صحيحا من الحقوق المذكورة في لائحة حقوق الإنسان فقد ورد في الشريعة السماوية حتما، وما لم يرد فيها فهو باطل ولا حاجة لنا به.
ومنهم من تحرك نحو الاستفادة من هذه اللائحة بعد أن لم يجد ما توقعه من حقوق في مفاهيمنا الدينية، وعمل على التوفيق بينها وبين مبادئ الدين الإسلامي وسماها “حقوق الإنسان الإسلامية” و يلاحظ مثل هذا التحرك في أروقة منظمة المؤتمر الإسلامي أيضا.
خلاصة القول، يؤكد المؤلف إننا لا نرى أي تعارض بين الحقوق الفطرية للإنسان المذكورة في لائحة حقوق الإنسان وبين الحقوق المذكرة له في الشريعة الإسلامية، ولو تعارضت هذه الحقوق مع الحقوق الواردة في الفقه وفتاوي علماء المسلمين لوجب الأخذ بمعطيات حقوق الإنسان العالمية لتطابقها مع الفطرة والوجدان من جهة، ولكون فتاوي الفقهاء لا تمثل الوحي في الحقيقة، بل هي فكر بشري وصياغة فقهية لما فهمه هؤلاء الفقهاء من النصوص الدينية التي قد تكون واردة في قضية خارجية معينة وليس لبيان حقيقة مطلقة وقانون أبدي يتعالى على الزمان والمكان. إن ما يقرره الفقهاء من فتاوي في هذا الميدان هي أحكام ظنية واجتهادية قد تخطيء وقد تصيب (ص 85-86).
فمثلا في مسألة المرتد عن الإسلام يصرح صاحب الجواهر والمحقق الحلي في الشرائع: لو حصلت للمسلم شبهة في دينه حتى وإن كان متولدا في بلاد الغرب ولم تسنح له الفرصة في تعلم العقائد الإسلامية وأنكر على أثرها بعض العقائد المتسالم عليها بين المسلمين فيجب قتله بمجرد رجوعه إلى بلاد المسلمين حتى لو تاب ورجع إلى الإسلام وتبرأ من قولته الشنيعة ألف مرة!! (ص 135-136).
علما أن القرآن لا يتعرض لهذه المسألة اطلاقا مع أنه بيّن حكم ما هو دونها في الخطورة والأهمية كحد الزاني والسارق والقاذف وغيرهم، وفي المقابل نقرأ العديد من الآيات التي تؤكد حرية الإنسان في المعتقد والدين من قبيل: “لا إكراهَ في الدينِ قد تبيّنَ الرشدُ من الغيّ” (ص 407).
والغريب أن هؤلاء الفقهاء ومن تابعهم من الإسلاميين الأصوليين برغم التزامهم بمثل هذه الفتاوي المخجلة، لازالوا يتشدقون بأن الشريعة الإسلامية قد أقرّت للإنسان والبشرية أجمع جميع الحقوق المشروعة أكثر مما ذُكر في لائحة حقوق الإنسان العالمية وأفضل !!
الحريات السياسية والفكرية
لم يكن نمط الحريات السياسية مطروحا في أجواء الفقه الإسلامي بمثل هذه الصياغة الحقوقية والفلسفية الحالية. ومن هنا تعتبر هذه المسألة من المسائل المستحدثة في الفقه الإسلامي حيث ينبغي على الفقهاء دراستها في إطار مفاهيم جديدة عن الحرية والعدالة ووفق مقاييس تنسجم مع تطور الآفاق المعرفية للإنسان المعاصر. أما الحرية المتداولة في التراث الديني فهي حرية من نمط آخر، يُراد بها، في الكتب والدراسات الفلسفية والكلامية الحرية إزاء الجبر والتي تعني “الاختيار” في دائرة الفعل الإنساني، فيبحث هناك عن أن الإنسان هل هو حر في أفعاله، أو مجبور عليها كما في مذهب المجبرة؟ (ص 113).
ويطرح المؤلف مسألة هاما تتعلق بالمعتقدات الدينية التي تحولت إلى تابو وخطوط حمراء لا تسمح للفكر أن يتحرك ويطرح علامات استفهام حول أية مفردة من مفردات العقيدة مهما كانت صغيرة. وقد لبس رجال الدين ورموز المؤسسة الدينية ثياب حراس العقيدة وشرطة السلطة الدينية التي لا تقل استبدادا وتعسفا عن السلطة الرسمية وعملوا على إسكات علامات الاستفهام التي تمسّ من قريب أو بعيد امتيازاتهم واعتباراتهم القدسية التي اكتسبوها من خلال التخلف العام وتراجع الوعي لدى غالبية الناس. ومن هنا يفقد الإنسان حريته طواعية بعد أن فقدها إزاء السلطة الزمنية كرها (ص 122-123).
ويستشهد الباحث بالنائيني الذي يذكر إن الاستبداد الديني أخطر أشكال الاستبداد، بل إن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني حيث إن الأول يفتقر إلى المقومات الكفيلة بالحفاظ عليه، فهو مهدّد دائما بالانهيار لأدنى سبب، في حين أن الأمة تكون في الثاني مضلّلة ومخدوعة وتحسب أن ما يصدر عن رجل الدين المستبد من لوازم الدين، بينما هو نزعة فردية يتظاهر بها المتلبسون بزي الرئاسة الروحية بعنوان الدين، والفئات غير الواعية من الناس تطيعهم باندفاع وثقة (123-124).
وكما يشير المفكر نصر حامد أبو زيد إن: “من أهم التحديات التي تواجهها مجتمعاتنا العربية فيما يتعلق بالإسلام ذلك الاستخدام الأيديولوجي النفعي للإسلام لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعة فئوية أو سياسية أو شخصية”(1).
ينطلق الإصلاح الحقيقي من تشغيل الناس لعقولهم والتحرك في خط الوعي. ومن هنا كان الإسلام المدني كما يذكر المؤلف متناغما مع العقل ومتطابقا مع الوعي بينما نرى أن أغلب رجال الدين في التيار السلفي والسياسي يسعون دائما إلى التعتيم على الوعي وقولبة الذهنية المسلمة بقوالب جامدة على النصوص من خلال عملية غسل دماغ رهيب مستخدمين أدوات دينية صارمة لا تسمح للعقل أن يتحرك ولا للفكر أن يطرح علامات استفهام حول الحالة الثقافية المزرية والانحطاط الأخلاقي والسياسي للمسلمين (ص 236-237).
إن أتباع الديانات المختلفة في بداية ظهورها كانوا يعيشون الانفتاح على الآخر والحوار معه من أجل تحويل الدعوة الجديدة إلى واقع حي، ولكن هذه الحالة الحضارية تأخذ بالنضوب والفتور حالما يتحول الدين من إيمان قلبي مشحون بالعواطف الدينية والقيم الأخلاقية إلى هوية شخصية للفرد والمجتمع ويصبح الإسلام في المجتمعات الإسلامية عبارة عن عنصر من عناصر الهوية المجتمعية، وتتحول المؤسسات الدينية إلى كيانات رسمية تهدف إلى الاحتفاظ بوجودها وقداسة أفرادها من خلال الدفاع عن الدين بما هو دين الهوية لا بما هو إيمان قلبي يدعو الإنسان إلى الانسجام مع خط الرسالة والقيم الأخلاقية.
إن النصوص الدينية جاءت لمعالجة بعض العقبات والمشاكل التي كانت تعيشها المجتمعات القديمة وتتحدث في خطابها الديني بلغة ذلك العصر بكل ما يحفل به من ثقافات وعلاقات وتقاليد وأعراف. أما الدين الإسلامي فلم يلزمنا بالتعبد بكل ما ورد في الشريعة حتى مع تغيّر مقتضيات الزمان والمكان والعرف، وبديهي أن الأحكام الشرعية إنما ترد على موضوعاتها المعينة لها بالخصوص، فاذا تغيّر الموضوع يتغير الحكم، أي أن الموضوع علّة للحكم كما هو ثابت في البحوث الفقهية (ص 135-136).
الخطأ الذي وقع فيه أصحاب العقل الأصولي هو أنهم جرّدوا الأحكام الشرعية من مكانها الواقعي الذي شُرعت له وأرادوا زرعها في أجواء متباينة تماما عن الأجواء المناسبة لها، والسبب الذي دفعهم إلى الوقوع في هذه الفوضى الفقهية وجمودهم على النصوص هو عدم تمييزهم بين الدين والشريعة، فكما يرون أن الدين الإسلامي يصلح لكل زمان ومكان فكذلك الشريعة الإسلامية.
إن القيم والتصورات وأساليب الادراك والتقييم وأنواع السلوك المتولدة عن الخطاب القرآني تختلط في الحياة العملية (بواسطة أداء الطقوس الفردية والجماعية) بقيم وتصورات الرأسمال الرمزي القديم السابق على القرآن والسائد في الجزيرة العربية. إنها تختلط به من أجل تشكيل عادات متأصلة وجبَّارة تمتلك الفرد أكثر مما يمتلكها وتشكل نوع حركاته ومواقفه الجسدية ومخياله أنها تحد من حريته في الفكر والممارسة(2).
الرؤية الأخيرة للدين تجتمع مع مبدأ “التعددية” في واقع المجتمع المدني فليس هناك عداء مع أحد من المذاهب والأديان الأخرى فكلها تصل إلى الحق، أي أن الإيمان المبني على أساس التجربة القلبية يستوعب في دائرته التعددية في المذاهب والأديان. وهذا لا يعني النسبية في الحق كما يتوهم اتباع التيار السلفي أو الأصولي، بل النسبية في فهم الحق. فالمسلم له قناعاته ومعتقداته ولكنه مع ذلك لا يرى في إيمان الآخرين بدينهم ومذهبهم مندوحة ولا يتهمهم بالكفر والشر وأنهم اتباع الباطل ومن أهل النار وما شاكل ذلك، لأن لكل طائفة دينية أدلتهم وقناعاتهم التي توصلهم إلى الحق لو تحركوا بدافع الوجدان وعنصر الخير في واقع الإنسان (ص 229-230).
الإسلام والنظام السياسي
لم يرد في القرآن تأكيد وتقرير أسلوب نظام الحكم، بل ورد التأكيد على العدالة في الحكم، وكان القرآن لا يرى في تعيين أسلوب نظام الحكم أنه من شؤون الدين، بل يرى أن توضيح القيم والمثل المرتبطة بالحكومة هي من شأن الوحي والدين.
عندما كان النبي محمد في مكة ولمدة ثلاثة عشر عاما لم تنزل عليه آية واحدة تتحدث عن أمور سياسية وشريعة معاملاتية رغم أن ثلثي القرآن نزل في هذه الفترة بالذات. ألا يعني هذا أن مسألة النظام السياسي في الإسلام ليست من ذاتيات الدين وغير صادرة عن الله، بل تمثل حالة طارئة على الدين خاضعة للظروف الخارجية والمتغيرات الاجتماعية؟ ( ص 458).
في السابق لم يكن الفرد يدعي أن له حقا في السلطة والنظام السياسي سوى ما يراه أهل الحل والعقد في عملية الشورى والتي تقترب كثيرا من النظام الارستقراطي وحكومة الاشراف والنبلاء أو الحكماء والفلاسفة بحسب نظرية افلاطون، ولكن المتغيرات الكثيرة التي عاشتها المجتمعات البشرية في العصور المتأخرة خلقت مفاهيم جديدة وحقوقا مستحدثة ومصالح اجتماعية لم تكن في السابق، وبما أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، كما يقول الفقهاء، فالأحكام التي كانت صالحة لمجتمعات ماضية سوف لا تكون كذلك لمجتمعات لاحقة نظرا لتغير المصالح والمفاسد في هذه المجتمعات، وهذا يعني تبدل موضوعات الأحكام وبالتالي يستدعي تبدل الأحكام نفسها.
كان مفهوم النظام الديمقراطي مغيبا عن دائرة المفكر فيه لدى الذهنية المسلمة، ولذلك لا نجد لهذه الكلمة عينا ولا أثرا في التراث العربي الإسلامي على الرغم من انتقال كم هائل من علوم اليونان ومصطلحاتهم الفلسفية إلى أجواء الفكر الإسلامي في العصور الأولى للنهضة الحضارية للمسلمين. أما بالنسبة إلى علماء التيار الإسلامي التجديدي فلا يرون أن الديمقراطية تتقاطع مع الإسلام، بل العكس من ذلك، فهي الأسلوب الوحيد الذي يحقق أكبر قدر من العدالة ومراعاة حقوق الإنسان.
مفهوم الطاعة المطلقة للسلطان وتسويغ الخنوع والاستبداد هو ما قرره أحمد بن حنبل في فتواه: “من غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه برا كان أو فاجرا فهو أمير المؤمنين” (ص 418).
مثلا رأينا الحكومة الإسلامية في أفغانستان بعد استيلاد طالبان على الحكم في الفترة 1996-2001، تقتصر في تطبيق وتجسيد العدالة الإسلامية على فرض العزلة على النساء ومنع الموسيقى والجلد وقطع الأيدي وقطع الرؤوس للمخالفين في ظل استمرار نزف الدم والحروب الداخلية بين الأحزاب الإسلامية والفئات المتناحرة على السلطة حتى زاد عدد القتلى والجرحى والخراب الاقتصادي أضعافا مضاعفة عما كان عليه الشعب الأفغاني في عهد الحكم الماركسي (ص 223). وها هي طالبان تعود إلى الحكم بعد إعلان الولايات المتحدة سحب قوتها، وهناك خشية كبيرة من ممارستها نفس النهج الوحشي.
على صعيد التشريع والقول بوجود قواعد كلية في الشريعة تكفي لسدّ الفراغ القانوني في عملية التشريع والتقنين في الحكومة الإسلامية، فمن الواضح أن جميع ما ذكر من قواعد وأصول كلية هي قواعد وأصول عقلية متوفرة لدى جميع دوائر التشريع والتقنين في المجتمعات البشرية، فلسيت هي إسلامية بالأصل حتى يقال بأن الشريعة الإسلامية جاءت بكل صغيرة وكبيرة في مجال التشريع ولا حاجة لأعمال الفكر والعقل في هذا المجال، فمن لا يعلم من العقلاء أن قاعدة “أوفوا بالعقود” هي قاعدة يسير عليها جميع عقلاء العالم في جميع المجتمعات من أول التاريخ البشري ولحد الآن.
ويثير المؤلف مسألة هامة وهي أن القانون الأفضل هو الذي يراعي العدالة بشكل أفضل، والعدالة هي المطلوب بالأصل، والقانون بمثابة آلية وأسلوب لإحقاق الحق. وهذا لا يعني أن الشريعة المذكورة في كتب الفقه بإمكانها تطبيق العدالة المطلقة على أرض الواقع وأنها هي الأفضل بشكل مطلق كما يزعم اتباع التيار الأصولي، لأن مقتضيات الواقع المتغيّر قد تفرض حلولا وأحكاما تنسجم مع معايير العدالة بشكل أفضل من الأحكام الشرعية حيث نلاحظ مثلا وجود بعض التمييز في الأحكام الشرعية بين الرجل والمرأة وبين المسلم وغير المسلم، والسادة والعبيد وغير ذلك، وهذه الأمور لا تتطابق مع معطيات القانون المدني الحديث الذي ينطلق من أرضية للحقوق الاجتماعية والسياسية تقوم على المساواة بين أفراد المجتمع (ص 245-246).
إن القرآن نفسه نسخ بعض احكامه وجاء بأحكام أخرى في فترة زمنية وجيزة نظرا لتغير الظروف والحالات في دائرة العلاقات الاجتماعية والسياسية للمجتمع الإسلامي الأول. حتى عدّ السيوطي في الاتقان واحدا وعشرين موردا من موارد النسخ في القرآن، ووصل عددها عند ابن الجوزي 247، وعند ابن حزم 214، وعند ابن بركات 210 موردا. والقرآن يصرح بجواز النسخ حيث يرد: “ما نَنَسخ من آية أو نُنسِهَا نأتِ بخير منها أو مِثلها”. وقد ورد عن علي بن أبي طالب قوله لقاض: “اتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت” (ص 255-257).
هناك خلط موهن في كتابات الإسلاميين بين خاتمية الدين وخلوده وبين تاريخية الشريعة حيث ظنوا أن الدين الإسلامي لكونه خالدا وأبديا إلى يوم القيامة. فكذلك الشريعة الإسلامية صالحة لجميع المجتمعات البشرية إلى يوم القيامة، وهذا اشتباه كبير ولا دليل عليه، وحتى عندما نلاحظ أدلة هؤلاء الكتاب نرى أنهم يستدلون على استمرارية الشريعة الإسلامية بمسألة الخاتمية وخلود الدين، وهذا هو منشأ الخطأ والخلط.
ولاية الفقيه
إن المستفاد من عدم بحث علماء الإسلام نظرية ولاية الفقيه في كتبهم العقائدية والفقهية، بل عدم قبول الكثير منهم بهذه النظرية، أن هذه المسألة لا تشكل أصلا من أصول الدين ولا فرعا من فروعه، ولكن أنصار الإسلام السياسي سعوا بجدية إلى إقحام هذه المسألة في الدين وما هي من الدين لإضفاء شيء من القداسة الدينية عليها. إذ يقول الخميني في كتابه الحكومة في الإسلام “وكمقدمة للبحث أرى من الضروري الإشارة إلى أن الحكومة الإسلامية امتداد لحاكمية الله، وامتداد للولاية والسلطة التكوينية وربوبية الله” (ص 330-331).
في الفكر الشيعي لا تستمد سلطة نائب المعصوم وولي الأمر في عصر الغيبة من الأمة، إنما سلطته إلهية، بحيث أن الرادّ عليه رادا على الإمام المعصوم، والراد عليه كالراد على الله وهو على حدّ الشرك بالله، ورغم أن الأمة هي التي تساهم في عملية اختيار الإمام الاّ أنه بعد هذا الاختيار سيأخذ موقعه وإمامته باعتباره نائبا للإمام المعصوم ووكيلا عنه (لا عن الناس!) في إدارة شؤون الأمة مما يعني أن السلطة ستكون مستمدة من سلطة الله الذي هو مصدر كل السلطات.
فإذا علمنا أن الخط السياسي لتحرك المسؤوليين والأحزاب وطبقات الشعب لابد وأن يكون وفق ما يراه المرجع صلاحا للأمة، ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للأمة من الناحية السياسية كما يقول محمد باقر الصدر، فحينئذ ندرك جيدا أبعاد الحكم الفردي والاستبدادي الذي تصوغه لنا هذه النظرية الدينية حيث تتحول جميع المؤسسات والأحزاب والفئات السياسية إلى كيانات رسمية محنطة في قوالب معينة لرؤية فقهية اجتهادية واحدة لا تسمح للفكر أن يتحرك من موقع النقد والاعتراض، وليس لجهة أو فئة قانونية حق محاسبة المرجع ومراقبته ومؤاخذته، فلا يسأل عن شيء وهم يُسألون.
بما أن الحكومة تستلزم التصرف بأموال الناس وتقييد حريتهم وتحديد حقوقهم فالأصل الأولي في هذه المسألة أن “لا ولاية لأحد على أحد” و”الناس مسلطون على أموالهم” كما ورد في القواعد الفقهية، فلا حكومة لأحد على أحد ألا برضا نفسه وطيب خاطره، وهو معنى أن الحكومة يجب أن تكون برضا الناس وموافقتهم لتكون مشروعة (ص 390).
عند البحث في هذه المسألة من جذورها التصورية نرى أن عنصر الاستبداد كامن في جذور النظرية وفي تصور دعاة الحق الالهي في السلطة حيث يقررون حقيقة أن ولاية الفقيه ليست من نوع الوكالة أو النيابة عن الأمة أو عن المعصوم، بل هي من نوع ولاية العقلاء على المحجورين أو ولاية الكبير والقيّم على الصغار! يقول الخميني : “ولاية الفقيه أمر اعتباري جعله الشارع كما يعتبر الشرع واحدا منا قيمّا على الصغار، فالقيّم على شعب بأسره لا تختلف مهمته عن القيم على الصغار إلا من ناحية الكمية” (ص 422-423).
ويذكر القبانجي التهافت السافر في مواد الدستور الإيراني الذي يقرر منهاجه أن السيادة لله وحده، ومن جهة أخرى يفوض أمر هذه السيادة لرجال الدين، وفي ذلك يقول عبد الله أحمد النعيم: تعكس المادة الرابعة وغيرها من مواد الدستور الإيراني غموض موقف الشريعة من مبدأ السيادة، فمن جهة نجد أن المادة الثانية تذهب إلى أن الجمهورية الإسلامية هي نظام يقوم على الاعتقاد بأن “لا إله إلا الله، وأن السيادة لله وحده، وقبول حكمه، وضرورة إطاعة أوامره” ومن جهة أخرى نجد أن السيادة التي يفرد الله وحده بها يترجمها الدستور إلى وصاية علماء الدين، وبالتالي يثور السؤال: ما جدوى الحديث عن سيادة الله وحده إن كان البشر هم الذين يمارسونها عملا؟ (ص 463).
لم يكن الاقتصاد الإسلامي في المشروع الإيراني بأحسن حالا من الموقف العسكري حيث وجد المسؤولون الإيرانيون أنفسهم مضطرين إلى اتباع سياسية النظام الرأسمالي الحر الذي يقوم على الفائدة الربوية في البنوك وخصخصة المصانع والشركات الحكومية وبيعها إلى القطاع الخاص. وفي السياسية أيضا تم الابتعاد عن المبادئ والأصول الدينية واتخاذ عنصر المصلحة، أي مصلحة النظام كمعيار للعلاقات الرسمية مع الدول الأخرى والتغافل أو الغاء ما طرحه الخميني من شعارات في أول الثورة من الاعتماد على الشعوب والاهتمام بمصلحة المستضعفين في العالم وتصدير الثورة وأمثال ذلك، وحلت محلها التعامل مع الدول على أساس المصالح لا على أساس المبادئ. وليس من المعلوم أنه سيأتي يوم تتبدل فيه المصلحة وإذا بإيران تقيم علاقات مع أمريكا وإسرائيل، ويتساءل لمؤلف هنا: ماذا بقي من أسلمة النظام أو ما هي الغاية من الحكومة الإسلامية إذا كانت تعتمد في جميع أمورها وشؤونها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على محور المصلحة؟ (ص 224-225).
الهوامش
نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل، ط 1 (الدار البيضاء| بيروت: المركز الثقافي العربي، 2010)، ص 27.
محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، ط 3 (بيروت: مركز الانماء القومي، 1998)، ص 103.