السياسات المؤيدة للعولمة والتي تدعم الرأسمالية بشكل مطلق علي حساب الطبقات الفقيرة، وهذا ما اطلق عليه الليبرالية الجديدة، والتي وعد منظورها بأنها ستحقق الازدهار عبر آليات السوق والعرض والطلب، ما لم تتدخل الدول لإعاقة رؤوس الأموال وتقيدها والذي قاد هذه السياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والتكتلات الاقتصادية، ووضعت شروطا علي الدول المتعاملة معها؛ لمنح القروض وعقد الاتفاقيات. ومن هذه الشروط الحرية الكاملة لحركة رؤوس الأموال في الدخول والخروج بين الدول، وخفض الإنفاق العام والدعم الموجه للطبقات الفقيرة، ورفع الدول أيديها من عملية الإنتاج والتوزيع وذلك ببيع المشروعات المملوكة للدولة للقطاع الخاص، والاعتماد علي القطاع الخاص في مشروعات التنمية، ورفع الحماية عن العمال، وترك سوق العمل للعرض والطلب دون تدخل الدولة، وخفض الضرائب علي الاستثمارات، وإزالة الحواجز الجمركية وترك المنافسة الحرة تقوم بدورها في التجارة، وتشجيع إقراض القطاع الخاص وتوفير المناخ الملائم للاستثمارات. و شروط صندوق النقد الدولي واضحة في فرض الحماية على رؤوس الأموال، فمن أهم شروط صندوق النقد الدولي مع الدول المتعاملة معه: هي الحرية الكاملة لحركة رؤوس الأموال في الدخول والخروج من السوق المحلى، وحماية رؤوس الأموال والاستثمارات من المصادرة أو التأميم أو أي إجراءات شبيهة، هذا إضافة إلى الإعفاء الضريبي والجمركي ورفع الحماية الخاصة بالعمال .و إذا كانت الإمبريالية تقوم من خلال المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وغيرها بحماية المصالح الرأسمالية عبر العالم، فإن الهيمنة الإمبريالية لا تتوقف عند هذا الحد، فالمؤسسات السياسية العالمية والإقليمية تلعب دوراً هاماً فى دعم الهيمنة الإمبريالية وإضفاء الشرعية عليها، والدور الذي قامت به الأمم المتحدة فى إضفاء الشرعية على الحروب الاستعمارية من 1991 وحتى اليوم أوضح مثالاً على ذلك إن حقيقة الحروب الاستعمارية تظهر بوضوح ، فالموت والدمار والخراب تتم ترجمته فوراً إلى عقود إعمار ونمو في الأسهم وزحف لقوانين السوق. إذا كانت الأهداف الواضحة للعولمة وسياسات الليبرالية الجديدة هي خلق سوق عالمي واحد تتمتع فيه الشركات المتعددة الجنسيات والاستثمارات الكبيرة بكل الامتيازات ولا تقف أمامها أي عقبات، فإن هذه السياسات في حاجة إلى حماية هذه الاستثمارات والمصالح والهيمنة الإمبريالية عبر مؤسسات التمويل الدولية والمؤسسات السياسية الدولية والإقليمية والقوة المسلحة هي الوسائل الكفيلة بتوفير الحماية لرؤوس الأموال. هذه الشروط تعني فتح كافة الأبواب أمام الرأسمالية لجني أرباح طائلة. إن سياسات العولمة الرأسمالية بما فرضته من إفقار واستبداد وهيمنة استعمارية قد فرضت النضال طريقاً وحيداً للدفاع عن الكادحين والفقراء، وفى هذا الطريق تسير الحركات العمالية والحركات الفلاحية وحركات المدافعين عن البيئة وحركات النضال المسلح ضد قوات الاحتلال وحركات مناهضة الحرب، والحركات المطالبة بالديمقراطية وحركات الدفاع عن المهاجرين والأجانب. استطاعت الجماهير في العديد من دول العالم انتزاع بعض المكاسب الديمقراطية طبعا من خلال نضالاتهم المستمرة ، مثل حق الاقتراع العام وحق تكوين أحزاب ونقابات وإصدار صحف وحق الإضراب والتظاهر والاحتجاجات ، وانتقال السلطة. لم تتحقق هذه المكاسب إلا عبر صراع طويل ضد الإقطاع والاستبداد والاستعمار في دول العالم المتقدم و دول العالم الثالث على حد سواء . فقد تشكلت الجمعية التأسيسية في فرنسا علي أنقاض الجمعية الملكية بعد ثورة 1789، و هذا ما يجعل مسألة القناعة بالديمقراطية من الخارج عبر الضغوط الدولية أمرا يبعث علي الكثير من الشك والسخرية ، و ربط هذه الديمقراطية بسياسات السوق، و ما تسببه من إفقار واستغلال للفقراء أمر غير مقبول ولا مقنع .والديمقراطية التي فرضتها النضالات الجماهيرية في العالم،لذلك ينبغي تسليح الجماهير بأدوات و مؤسسات نضالية للدفاع عن المصالح الجماعية الاقتصادية والسياسية، ولتحسين مستويات المعيشة وشروط العمل وحماية الحقوق والحريات، ومن الطبيعي أن تهدف سياسات الليبرالية الجديدة خلال الهجوم علي مستويات معيشية ودخول الطبقات الكادحة، بالهجوم أيضا علي الهامش الديمقراطي الذي يمكن هذه الطبقات من المقاومة للحفاظ عليه . ولقد كان مشهد قمع مظاهرات جنوة المعادية للعولمة ضد اجتماع الدول الصناعية الثمانية، و سقوط أحد المتظاهرين قتيلا و إصابة العديد منهم والقبض علي العشرات دليلا واضحا علي زيف هذه الديمقراطية، هذا المشهد الذي صار متكررا في الدول المصدرة للديمقراطية، ونستطيع أن نفهم في هذا السياق ملاحقة الأجانب و المهاجرين في أوروبا وأميركا، وتصاعد النزعة الأمنية وإصدار القوانين المقيدة للحريات، وإطلاق الأجهزة الأمنية في الاشتباه والتجسس علي المواطنين، فالحرية التي وعدت بها الليبرالية الجديدة تحت شعار “العولمة” هي حرية رأس المال وليس المواطنين، تبدو الصورة أكثر وضوحا في دول العالم الثالث التي طبقت سياسات السوق، فلم يتم تطبيق هذه السياسات إلا عبر أكثر الطرق استبدادا، ولقد وجدت النظم القمعية والاستبدادية دعما غير محدودا من المؤسسات الدولية خلال تطبيقها هذه السياسات، ففي اندونيسيا يتم جذب رؤوس الأموال ليس فقط بسبب الانخفاض الشديد للأجور وزيادة ساعات العمل، ولكن أيضا علي أساس غياب أي حقوق نقابية للعمال. ارتبطت الرأسمالية طوال حياتها بالجشع والهيمنة الإمبريالية والتوسع الاستعماري، فمع اتساع مصالح الرأسمالية وتجاوزها حدودها الوطنية، لعبت مؤسسات الدولة الرأسمالية السياسية والعسكرية دوراً هاماً في حماية وتدعيم مصالح رأسمالياتها خارج الحدود الوطنية. واستمرت الدول الرأسمالية الكبرى في حراسة المصالح الاقتصادية في الخارج عبر الاستعمار العسكري المباشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، واستطاعت، خلال أكثر من قرن، أن تفرض هيمنتها الاستعمارية بالقوة المسلحة، وتضمن بذلك تأمين موارد المواد الخام والطاقة والأسواق وطرق التجارة والأيدي العاملة الرخيصة، وتفتح لرؤوس الأموال مجالات واسعة للاستثمار في المستعمرات. وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية وفى مرحلة ضعف الدول الاستعمارية الأوروبية وصعود حركات التحرر الوطني في المستعمرات تراجع الاستعمار العسكري القديم، وصعدت القوى الاستعمارية الجديدة بزعامة الولايات المتحدة الامريكية والتي تستعمر العالم الان عبر الشركات المتعددة الجنسية والتي تملك رؤوس اموال يفوق ميزانيات دول بأكملها .
ومع ازدياد الثروات ازداد عدد العاطلين عن العمل في جميع ارجاء المعمورة ، ومع إزدياد الإرباح إزداد الفقر ، المليارات جناها بضع مئات من الأغنياء في العالم والجوع هو نصيب مئات الملايين، و الديموقراطية التي وعدت بها العولمة للشعوب التي تعاني القمع والاستبداد لم تكن سوى وعود، فالديموقراطية الموعودة تحولت الى حروب وماسي على الشعوب في البلقان و أفغانستان والعراق وفلسطين، ولم تتوقف المخابرات الأمريكية عن تنظيم محاولات الانقلابات الدموية ضد الأنظمة المنتخبة في أمريكا اللاتينية ، بالاضافة إلى دعم ومساندة أكثر أنظمة الحكم استبدادا ودكتاتورية في أفريقيا وآسيا و أمريكا الجنوبية. هكذا قامت الإمبريالية طوال فترة الحرب الباردة بقمع الحركات الثورية وحركات التحرر والأنظمة المناوئة لها عبر العمل العسكري المباشر وغير المباشر؛ لتأكيد نفوذها وحماية مصالحها. وسياسات الليبرالية الجديدة إذ تعد استمراراً للرأسمالية بشكل أعنف، فإن أحد أهم ركائزها هي حماية المصالح الرأسمالية خارج حدودها وتوسيع نطاق هذه المصالح وتطويرها، ومن البديهي إذا كانت سياسات الليبرالية الجديدة تهدف تحت شعار العولمة إلى تحرير رؤوس الأموال والاستثمارات من كافة القيود، وتوفير كل أشكال الحماية لها عبر العالم، فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الهيمنة الاستعمارية. وإذا كانت الدعاية الليبرالية الجديدة تنادى بإنهاء دور الدولة في الاقتصاد، فإن ما يحدث فعلا هو إنهاء الدور الاجتماعي للدولة تجاه العمال والفقراء، ورفع القيود التي كانت مفروضة على الرأسمالية، ومن ناحية أخرى فإن دور الدولة يتزايد يوماً بعد يوم في دعم الرأسمالية في الداخل وحمايتها في الخارج.
لقد مضت الولايات المتحدة وإنجلترا قدما في غزو واحتلال العراق علي الرغم من معارضة عشرات الملايين الذين خرجوا في عواصم العالم في 15 فبراير 2003؛ ليعلنوا احتجاجهم علي الحرب، واستمرارا لسياسة تضليل الرأي العام فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا قيودا صارمة علي المعلومات، وحجبت الصور والمعلومات التي تفضح جرائمهم ، وكانت الولايات المتحدة قد اتخذت هذه الإجراءات في حربها في أفغانستان، وكان ذلك باسم الديموقراطية. وخلال هذين العقدين من الليبرالية الجديدة اتضح أن الإفقار والنهب وتدمير مستويات معيشة الطبقات الفقيرة و الكادحين لا يمكن أن يتم دون استبداد وقمع. ونقلا عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية أن الدول الأكثر إنفاقاً على التسليح تلقت مساعدات أكبر مرتين ونصف من الدول الأقل إنفاقا على التسليح. إن دعم صناعة السلاح فى الدول الكبرى ودعم القدرة العسكرية للأنظمة الحليفة للإمبريالية هو النتيجة المتحققة من إقراض دول العالم الثالث، كذلك تحولت الديون بعد ذلك إلى أداة للسيطرة الإمبريالية وإملاء أجنده الليبرالية الجديدة. في اليونان كانت الحكومة اليونانية تجد صعوبة كبيرة في تطبيق أجندة الليبرالية الجديدة، والتي كانت تتضمن خفض للضمان الاجتماعي والأنفاق العام وتدنى شروط العمل، نتيجة المقاومة التي أبدتها اتحادات العمال لهذه الإجراءات، ولم تستطيع المضي قدماً في هذه السياسات إلا عبر الاتحاد الأوروبي والانضمام للعملة الأوروبية اليورو.
إذا كانت العولمة الرأسمالية وسياسات الليبرالية الجديدة تعنى الإفقار والاستبداد والهيمنة الاستعمارية، فمن البديهي أن تتصدى لها حركات النضال في أنحاء العالم. وإذا لم تكن مظاهرات سياتل في نوفمبر 1999 ضد اجتماع منظمة التجارة العالمية، هي بداية النضال ضد العولمة وسياسات الليبرالية الجديدة، فلقد سبقتها الحملة التي نظمتها العديد من المؤسسات غير الحكومية في 1992 أثناء انعقاد قمة ريودى جانيرو والحملة ضد البنك الدولي في 1994، إلا أنها كانت بحق نقطة انطلاق قوية لحركة مناهضة العولمة، يأتي ذلك أولاً من حجم المظاهرات التي استمرت لمدة ثلاثة أيام متتالية، والعدد الذي ضمته وحجم التنوع الذي تميزت به، والشعارات التي رفعتها والتي عبرت عن تحديد لأهدافها وأعدائها المتمثلين في مؤسسات العولمة الرأسمالية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. ولقد فتح الطابع الأممى للحركة، وتبنيها لمطالب الفقراء عبر العالم أفاقاً واسعة للنضال والتطور، وكان لوجود النقابات العمالية والفلاحية أثرا بالغا على خطاب الحركة. فابتداء من نوفمبر 1999 أصبحت جميع اجتماعات ومؤتمرات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والدول الصناعية الكبرى والاتحاد الأوروبي محاصرة بعشرات أو مئات الآلاف من المحتجين على سياسات العولمة، ورغم صعود القوى اليمينية والحركات العنصرية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة وتأثيرها على حركة مناهضة العولمة ذات الطابع الأممى،إلا أن الحركة استطاعت أن تتجاوز هذا التأثير سريعاً، وتستعيد قوتها وقدرتها على التعبئة.