23 ديسمبر، 2024 4:33 م

الحزم، الصرامة، العدل، الجرأة ومفردات أخريات لامناص من التحلي بها لمن أوكلت اليه مهمة صنع القرارات، يقابلها طبعا حسن التدبير والتدبّر في صياغتها والغور في أبعاد تداعياتها، مع الأخذ بعين الاعتبار الرعية التي ستشملها هذه القرارات، لاسيما حين يكون صانعها راعٍ ويدرك أن كلنا رعاة ومسؤولون عن رعيتنا.
ولكن يبدو أن هذه القواعد في الإدارة لاتصح في كل الأزمنة والأماكن، وهذا ما أثبتته لنا بعض القرارات التي تصدر من لدن أرباب الدولة العراقية الحالية، سليلة حضارات السومريين والبابليين والأكديين، ومن شخوص تتربع على عروش قيادية من المفترض أن يكونوا أحفاد حمورابي ونبوخذ نصر، إذ الرعية تنتظر منهم التصرف السليم والرأي السديد في اتخاذ القرارات، ولاسيما السياسية منها، ولكن رياح العراقيين على مابدا تأتي دوما بما لاتشتهي السفن.
فبالرجوع الى الأحداث التي تدور في الأوساط السياسية خلال السنوات الماضية، نرى -أول ما نرى- أن التخبط في اتخاذ القرارت -ولاسيما المهمة والحساسة منها- عنوان وسمة وخصلة ملازمة لأولي أمرنا السياسيين، وأمرهم هذا يذكرني ببيت للشاعر زهير بن أبي سلمى يقول فيه:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمّر ويهرمِ
والعشواء هي الناقة العوراء، فهي ترعى العشب الذي أمامها من جانب واحد، وهو الجانب الذي تراه عينها السليمة، وتخبطها في حالها هذا هو ذاته تخبط ساستنا، ولاسيما رئيسي المجلسين التشريعي والتنفيذي. إذ يتضح من خلال القرارات التي تصدر بين الحين والآخر، أنها تتخذ وفق مبدأ (شلّه واعبر)، او على منهج (قره قوش). وقره قوش كلمة تركية مركبة من مفردتين الاولى (قره) ومعناها اسود، والثانية (قوش) ومعناها نسر، وهو حاكم مشهور كان يحكم إحدى الدول، وروى عنه التأريخ أنه كان رجلا ظالما، يأمر الناس بما فوق طاقتهم، والويل ثم الويل ثم الويل لمن لايمتثل لها، واسمه الحقيقي بهاء الدين بن عبد الله الاسدي، وعرفت قراراته بالندرة، ولم يكن يراعي بإصدارها ما يترتب عليها من تبعات يتحملها مواطنو بلدته، حتى غدا حكمه مثلا في الظلم والغرابة والطرافة أيضا، فجرى عليه المثل القائل (حكم قره قوش). ويستشهد به المتكلم حين ينعت حاكما او قاضيا بغرابة القرارات الصادرة عنه. ومن قراراته الجائرة وغير المنصفة، يروى أن القضاء أصدر حكما بالإعدام شنقا على مجرم، وقد جرت العادة على تنفيذ الحكم في ساحة كبيرة في المدينة، وعلى مرأى جمهور غفير من أهلها، وبحضور (قره قوش) نفسه، ولما أزفت ساعة التنفيذ جاءوا بالمجرم وأصعدوه على منصة الإعدام، إلا أن القائمين على العملية تأخروا بتنفيذها بعض الوقت، وبينما هم في لغط وقيل وقال وتخبط في إتمام عملية الإعدام، استفسر (قره قوش) عن السبب في هذا الإرباك واللبك، فقالوا له أن الرجل المحكوم بالإعدام قصير، ورقبته لاتطال حبل المشنقة. فما كان من حاكمنا الفذ (قره قوش) إلا أن ألقى بنظرة فاحصة على جمهور الأهالي المتجمعين في الساحة، فإذا به يشير الى أطولهم قامة، ويأمر بجلبه واستبدال الرجل القصير المحكوم به، ولم يكن للمنفذين بد من الانصياع لأوامره، فأخلوا سبيل القصير، ونفذوا حكم الإعدام بالرجل الطويل المسكين، الذي لاذنب له سوى أنه مواطن في ولاية (قره قوش)..!
أرى أن ولاية (قره قوش) تشبه ولايتنا العراق الى حد كبير، و (قره قوش) نفسه يشبه كثيرين من الحكام الذين تعاقبوا على حكم العراق، من حيث اتخاذ القرارات والبت بها وتنفيذها، مع فارق بسيط أن الأول بطش بالرجل الطويل، أما الآخرون فلم ينجُ من بطشهم الطويل ولاالقصير، ما دام التخبط في اتخاذ القرارات ديدنهم وسجيتهم.