مَن من عشاق السينما في الوطن العربي لايتذكر فيلم First Blood وهو الجزء الاول من سلسلة رامبو بأجزائها الخمسة والتي بدأت عام 1982 بفيلم (الدم الاول) وانتهت عام 2019 بفيلم ( الدم الأخير)وكان الجزء الأول من هذه السلسلة قد عرض في سينما النجوم وسط العاصمة الحبيبة بغداد في الربع الأول من ثمانينات القرن الماضي وأحدث ضجة في وقتها لم تهدأ طويلا وخلاصة قصة الفيلم تدور حول مقاتل من قوات النخبة الاميركية شارك في حرب فيتنام ثم عاد مأزوما وحزينا بسبب الهزيمة المذلة ومناظر دماء وأشلاء رفاقه والتي انتهت في نهاية المطاف على لاشيء ليبحث عن أصدقائه القدامى ممن عادوا قبله ليجدهم قد رحلوا أو ماتوا وهم لايمتلكون حتى ثمن الدواء والعلاج بسبب البطالة ورفض المجتمع لهم ، ومع ذلك فقد حاول التكيف لبداية حياة جديدة الا ان المجتمع الاميركي رفض استيعابه واحتوائه ومساعدته اسوة بزملائه محملا اياهم وزرالهزيمة المذلة ما دفعه للانتقام وتوظيف خبراته العسكرية في الداخل الاميركي هذه المرة أملا بتحقيق نصر معنوي لم يحصل عليه في فيتنام التي هزم ورفاقه وجيشه فيها…من منا لايتذكر الضجة التي سببها فيلم “صائد الغزلان ” الحائز على خمس جوائز اوسكار والذي يتحدث عن نتائج الهزيمة المذلة في حرب فيتنام حيث الامراض والعقد النفسية التي تصيب الجنود العائدين من هناك وما يترتب عليها من مشاكل اجتماعية جمة “طلاق،وسواس قهري،أكتئاب،بطالة،انتحار،خمور ،مخدرات،عنف ، مشاكل عائلية “ومن منا لا يتذكر فيلم ” Platoon” الشهير الحائز على 8 جوائز رفيعة في الاوسكار،والغولدن غلوب، والبافتا ، هذا الفيلم الرائع وعلى المستويات كافة تناول التداعي الاخلاقي وضياع الوجهة وفقدان البوصلة وانهيار القيم للجنود الاميركان انفسهم وغدرهم ببعضهم بعضا ،خيانتهم لبعض ،تنافسهم غير الشريف فيما بينهم في ميادين الحرب وسوح الوغى وغيرها الكثير .
اليوم وعلى ما يبدو ومن خلال ما ينشر ويكتب في وسائل الاعلام فإن رامبو الاميركي بات تحت مرمى سهام المفكرين والفلاسفة والقادة الغربيين والشرقيين مجددا وعاد الى خيبات وحسرات الدم الاول ، فعندما خسرت اميركا حربها في فيتنام عام 1975وعادت مهزومة ومأزومة تجر أذيال الخيبة والخذلان لأكثر من عقدين من الزمن انبرت الاف مؤلفة من الكتاب والادباء والروائيين والاعلاميين والفلاسفة والمفكرين والسينمائيين الغربيين ولاسيما منهم الاميركان وعكفوا على تحليل اسباب تلكم الهزيمة النكراء اضافة الى دراسة تداعياتها ونتائجها ومصير ضحاياها والفوا لنا مئات المجموعات القصصية والروايات الادبية والكتب الفلسفية والفكرية والسياسية اضافة الى كتب اليوميات والمذكرات والسير والتي تطرقت بمجملها الى هذه الهزيمة وانبرت تناقشها وتضيء المعتم منها من شتى الزوايا ومن مختلف الجوانب ولعل من اشهرها رواية ” قارئ حرب فيتنام” لمايكل هانت ، ورواية ” ماتر هورن ” لكارل مارلانتس ، ورواية ” حزن الحرب ” لباو نينه ، ورواية ” شائعة الحرب ” لفيليب كابوتو وغيرها الكثير
بينما انتجت هوليوود عشرات الافلام السينمائية بهذا الشأن ، علاوة على انتاج بقية المؤسسات ذات الاختصاص عشرات الافلام المماثلة منها التسجيلية ومنها الوثائقية ومنها الاكشن عن الحرب ذاتها وظل العالم يتابع هذه الافلام عن كثب ويقرأ ويطالع ويطبع ويستنسخ هذه الكتب والروايات ردحا طويلا من الزمن حتى صار الكل على قناعة تامة بأن اميركا اذا دخلت اي بلد عسكريا فستهزم كهزيمتها في فيتنام على يد قوات الفيتكونع الشيوعية المدعومة سوفياتيا آنذاك ،وعندما حاولت اميركا كسر هذا الحاجزالنفسي الذي اصاب سمعتها بسوء وحاولت ذلك مرارا وتكرارا هنا وهناك ، كانت النتائج تأتي على النقيض من اهدافها وعلى غير مرادها في كل مرة حدث ذلك في الصومال وقبلها في لبنان حتى عام 1991 عندما قادت عاصفة الصحراء ضد العراق ابان غزوه للكويت وحققت تفوقا جويا ونصرا بريا جزئيا انتهى عند الحدود العراقية – الكويتية من دون ان تغامر بمغامرة ارضية غير محسومة العواقب حينئذ اكثر من ذلك ، ما جعلها تنتشي وتسارع بإنتاج افلام تعيد هيبتها المفقودة منذ سقوط سايغون تتحدث عن بطولات عاصفة الصحراء وعن جندي المارينز – النغل – الذي يقاتل متطوعا للحصول على الجنسية الاميركية لكون معظمهم من الـ بدون وهو اما من اصول لاتينية او افريقية او اسيوية من ابناء المهاجرين الجدد ممن لم يحصلوا على الجنسية الاميركية بعد – على انه الجندي الذي لايقهر ، ثم عاودت الكرة مجددا وبمغامرة اكبر احتلت خلالها افغانستان بالقوة عام 2001، وهنا فقط تنفست “اميركا روميو …عفوا ..رامبو ” الصعداء وشعرت بعودة الدماء الى عروقها الامبريالية مجددا وتحسن صورتها المهزوزة جزئيا واعادة كرامتها المهدورة ثانية مع تسويق نفسها على انها القوة العظمى الوحيدة التي لاتقهر والقطب الوحيد في العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وعلى الجميع السمع والطاعة ، لقد شعرت بالارتياح لتحسين صورتها امام – اعدقائها – على الاقل من الروس والصينيين والاوربيين والدول الصناعية الكبرى التي تنافسها اقتصاديا وتهدد عرشها الرأسمالي بالزوال ، لتتحول بذلك الى المتحكم رقم واحد بمقدرات الأمم وخيرات البلدان ومصائر الشعوب ، ومن ثم تكررت التجربة مع العراق عام 2003 ونجح الامر فتغولت اميركا كثيرا وشطت بعيدا وصارت تأمر وتنهي، الا ان ما جرى في افغانستان مؤخرا قد هز الصورة ثانية واعاد للذاكرة الاميركية ليس هزائم اميركا السابقة حول العالم فحسب ، وانما سوء ادارتها وتسرعها وعنجهيتها السياسية وفوضاها الاقتصادية الرأسمالية البشعة وتهافتها الاخلاقي وتداعيها الثقافي كذلك ما دفع كتاب وروائيي ومحللي واعلامي واكاديمي اليوم الى العودة مجددا الى دائرة البحث المكثف النقدي والتحليلي والاستقصائي في اسباب الهزيمة التي جاءت على شكل انسحاب مذل وفوضوي ومخجل هذه المرة بعد 20 عاما وترليوني دولار والاف القتلى والجرحى ..الا ان ما يميز تحليل اليوم عن تحليل الامس وكما ينشر تباعا في الوقت الحالي وتتناقله وسائل الاعلام الدولية وبالاخص الروسية والاوربية والصينية فضلا عن الاميركية بمزيد من الاهتمام هو انها صارت تناقش ليس فشل مفهوم القوة والعسكرة فحسب بل و- ستراتيجية محاولة فرض الليبرالية والقيم والثقافة الاميركية الهجينة على العالم – فأخذوا يوبخون قادتهم علانية ، جهارا نهارا ، عيانا بيانا ، ويتجادلون فيما بينهم عن الحسن والقبيح ، الجيد والرديء ، في الفكر والثقافة والسياسة الاميركية على سواء مؤكدين بأن فرض الثقافة الاميركية ان تنجح مع الشعوب وبالاخص شعوب العالم الاسلامي ، وقد لخص الرئيس الروسي بوتين في لقائه مع المستشارة الالمانية ميركل الجمعة ، ذلك كله بقوله ” ان روسيا تعرف أفغانستان جيدا وتأكدت من أن أية محاولات لفرض أي نماذج للحكم والحياة الاجتماعية من الخارج عليها غير بناءة” داعيا إلى “وضع حد للسياسات غير المسؤولة التي تقضي بفرض قيم من الخارج والسعي إلى بناء ديمقراطيات في دول أخرى من دون مراعاة للسياق التاريخي والوطني والطائفي وتجاهل تقاليد شعوب أخرى”.
لتأتي الوول ستريت جورنال وتغرد في ذات السياق الذي غرد فيه بوتين وخلاصته ” ان اميركا لا تدرك حقيقة أن السياسة تكمن في اتجاه مجرى الثقافة، وأن الثقافة بدورها تسير في اتجاه الدين….لقد قالها عالم السياسة صمويل هنتغتون، حين جزم بأن المجتمعات الإسلامية تنتمي إلى حضارة مميزة تقاوم فرض القيم الأجنبية عن طريق القوة. ويبدو بذلك اليوم، أن تريليونات الدولارات وعشرات الآلاف من الأرواح وعقدين من الحرب، أثبتت صحة رأي هنتغتون….لا يمكن للغرب أن يغير العالم الإسلامي، كما أنه لا يمكنه أيضاً تجاهل المجتمع الديني الأسرع نمواً في العالم” .
الخلاصة وبصرف النظر عن هوية الطرفين المتحاربين ولا – زمكان – الحرب واهدافها ولا عن ما ستسفر عنه هذه الحرب فيما بعد ، ولا ما سيتمخض عنه الانسحاب من حروب اهلية دامية او مصالحة بين الفرقاء داخل البلد الواحد لتحقيق استقرار امني وازدهار اقتصادي ، فإن محاولة فرض الوصاية على القيم الاصيلة ومحو الثقافات المتوارثة وفرض الارادة على الشعوب المغلوبة بالقوة ، ناهيك عن محاولة محو الهوية الثقافية والفلكلورية والتراثية ومحاولة فصل الشعوب عن جذورها وماضيها وتأريخها بزعم ارساء دعائم الديمقراطية الليبرالية الاميركية الحديثة بينها هو عمل غير صحيح وستراتيجية غير مجدية بالمرة وستنتهي لامحالة بعودة رامبو مذموما مخذولا الى خيبات الدم الاول في بلاده ومحيطه ومجتمعه لتبدأ معركة جلد الذات والتهجم على القيم والانتقام من الداخل وافكاره ومثله واحزابه وقيادته هناك وعلى يد ابنائه ومثقفيه ومفكريه وسياسييه من الاميركان انفسهم وليس سواهم البتة ! اودعناكم اغاتي