18 ديسمبر، 2024 5:44 م

المسطر باللهجة العراقية هو المكان الذي يقف فيه العمال إنتظاراً لبصيص أمل فيمن سيأخذهم إلى العمل. أحياناً لا مفر من المسطر، ليهرع إليه وقت الشدة كل ذي حاجة للحصول على بعض النقود لإعالة عوائلهم وانتشالهم من العوز والفاقة.
العمل في المسطر لا يحتاج إلى سيرة ذاتية أو إلى خبرة عمل أو الإنتظام في نقابة ما أو الإنتماء الى حزب معين. الشيء الوحيد المطلوب في هذا العمل هو السواعد القوية والعضلات المتينة ليتمكن العامل من نقل طاسة الرمل والخبطة أو أكياس الاسمنت وحمل البلوك والحجر وشيش التسليح.
مكان المسطر في مركز مدينة كركوك وفي منطقة أحمد آغا تحديداً. ما أن تمر من هناك حتى تتطلع إليك عيون المنتظرين من العمال الواقفين على هذا المسطر الذين يتسارعون إليك. نظرات ملئها الحزن والأسى تنفذ إلى القلوب قبل العيون. لسان حالهم يقول لك “ارجوك خذني إلى العمل فقد تمكن الجوع مني”.
أمام هذا المشهد التراجيدي ليس بيدك أن لا تشفق عليهم وأنت مار بهم. منهم من هو شاب ومنهم من قد وهن عظمه واحترق رأسه شيباً. مشهد يدفع إلى الرأفة والرفق وعليك إختيار أحدهم فيما إذا نويت جلبه إلى العمل.
عملية الاختيار والانتخاب ليست سهلة. فما أن تحدثت مع أحدهم في المسطر حتى إجتمع لديك العشرات من الأخرين متوسلين، بل ومنهم من يصعد سيارتك دون إذن. وما أن قبلت به حتى قال لك “إبن عمي معي وهو عامل جيد وسوف يعجبك ونحن ثنائي عمل”. وإذا قبلت بإثنين منهم سوف تجدهم ثلاثة يقولون لك “سوف ننجز عملك بسرعة ونراعيك بالسعر”.
تنطلق بهم إلى موقع العمل وهناك ستبدأ صفحة جديد مع عمال المسطر وحكاية لم تكن تتوقعها. في البدء سيتناقشون معك ويجادلونك بخصوص العمل وإن العمل كبير وصعب ولن ينتهي بيوم واحد، ومن ثم يبدؤون العمل بنكران الذات. بعد مرور ساعة سوف يطلبون منك الفطور الصباحي. وما أن تؤمن الفطور والسكائر حتى يدخلون فترة إستراحة لا تقل عن ساعة. بعد سويعات من العمل تأتي فترة الاستراحة الثانية مقروناً بتناول وجبة الغذاء. إستراحة ومن ثم العمل ببطئ شديد ومن ثم إنتهاء ساعات العمل تلك والانصراف بعد قبض اليومية كاملة دون نقصان، لتجد نفسك بعدها أمام حقيقة مؤلمة وتحس بالغبن الشديد. أناس يختلفون جذريا بين المسطر وموقع العمل، وكلامهم مغاير تماماً ووعودهم كاذبة. كأنهم بدلوا جلودهم ووضعوا الاقنعة من وجوههم، ففي المسطر تجدهم ملاكاً، وفي العمل شياطين متلونين يتحايلون وينتهزون الفرص لخداع صاحب العمل.
في اليوم التالي ومنذ ساعات الصباح الباكرة ستذهب مجدداً إلى المسطر للبحث عن عامل ينجز لك ما تركه عمال الأمس. ستعاد الحكاية نفسها، والمضحك في الأمر إنك ستجد عمال يوم أمس أنفسهم يقولوا لك دون خجل أو حياء “عمي احنا نعرف شغلك، ما باقيلك شي خلي نروح انكمل”.
المهم عليك إتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب وقراءة العيون لإنتخاب الاشخاص من هذا المسطر والذين سينجزون لك العمل. إذا فشلت في الانتخاب والاختيار مرة قد تكون معذوراً، فإنك لا علم لك بهذا العالم الغريب من قبل. أما الاختيار والانتخاب الخاطئ لأكثر من مرة لأشخاص مخادعين ومضللين، فإن اللوم يقع عليك أنت أولاً وأخيراً وليس على سواك وتصنف من المغفلين.
والأمثال تضرب واللبيب من الإشارة يفهم.