1- تباشير الطاعون
شهدت قطر في صيف عام 1995 تغييرات جذرية بترتيب لا شك فيه مع بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية ، فقد قام الأمير حمد بن خليفة بخلع أبيه وتولي السلطة ، تلى ذلك مباشرة تعيين حمد بن جاسم – الشخصية المثيرة للجدل – نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية فكانت أول قراراته تأسيس علاقة معلنة مع اسرائيل والسماح لها بفتح مكاتب تمثيل دبلوماسي وتجاري في العاصمة الدوحة ، وكان القرار الأميري الرابع فتح أبواب قطر وخزائنها لفصائل الإسلام السياسي وقد تولّت فضائية الجزيرة – وهي قوة قطر الناعمة إلى جانب ثروتها المالية – تغطية تلك السياسات بأقنعة الإسلام والمقاومة لتعوّض بلسانها الطويل عن عجز اليد القصيرة للأمير !
أوفت الأجهزة الأميركية والبريطانية ومعها اسرائيل بتعهداتهم للأمير حمد بتأمين نظامه وحمايته ، فقبل مرور سنة على توليه الحكم تم الكشف عن محاولة انقلابية ضده قادها ضباط قطريون ينتمي معظمهم لقبيلة بني مرّ العربية العريقة فواجهها الأمير بإعدام أولئك الضباط ثم أسقط الجنسية القطرية عن قبيلة بني مرّ بكاملها وأمر بطردها من البلاد ، ولم يقتصر وفاء أصدقاء قطر الجدد على الجانب الأمني وحده لكنهم أمّنوا لها نفوذاً سياسياً ناطحت به قوى اقليمية بحجم مصر و المملكة العربية السعودية وفتح لها أبواب التدخل في بلاد الشام وغيرها بما يخدم مصالحها ومصالح اصدقائها الجدد . عندما أطلّت الألفية الجديدة كانت صورة قطر غريبة تبعث على الدهشة كلوحة سريالية ، فعلى أرضها تنتشر أكبر القواعد الحربية الأميركية في الشرق الأوسط ، وفي عاصمتها الدوحة مكاتب تمثيل تجاري ودبلوماسي لإسرائيل تجاور مقرّالإتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه فقيه الإرهاب يوسف القرضاوي ! ثم أن فصائل الإسلام السياسي من كل بقاع الأرض تتوافد عليها التماساً للرزق وتلقّي التوجيهات ، بداية من حركة حماس في غزة وانتهاءً بجند الإسلام في إيران مروراً بالحزب الإسلامي وكتائب ثورة العشرين في العراق وقيادات تنظيمات الإخوان المسلمين والقاعدة وحركة مورو الإسلامية في الفيليبين وجماعة باعشير في أندونيسيا وجماعة لشكر طيبة في كشمير ثم حركة طالبان بفرعيها الباكستاني و الأفغاني . ولم يكن ورع الأمير حمد و تقواه وراء احتضان قطر لذلك الخليط المتأسلم فالرجل أبعد ما يكون عن أجواء الدين وطقوسه ، وقد حدث أن تورط في فضيحة كشفت جهله المطبق في ركيزتي الدين الإسلامي وهما القرآن الكريم و الحديث النبوي الشريف وذلك عندما قال في مقابلة تلفزيونية وعلى الهواء أن القرآن الكريم يحضّ المسلمين على طلب العلم ولو في الصين ! وفي واقع الأمر أن الأمير حمد قد أراح نفسه وسلّم كل ما يتعلق بسياسة قطر الخارجية لرئيس وزرائه حمد بن جاسم ، وقد لا توجد مبالغة في القول أن قصة قطر في تلك المرحلة كانت قصة حمد بن جاسم جيء بحمد بن جاسم من عالم المال الى عالم السياسة ، وهو لا يحمل مؤهلا علمياً ذا شأن لكنه من أغنى رجال قطر وأكبر رجل أعمال فيها ، فقد رأس مجلس إدارة أهم شركاتها ومؤسساتها الاقتصادية مثل الخطوط الجوية القطرية ، وهيئة الاستثمار الخارجي ، وشركة الديار للاستثمار العقاري ، وهي جميعها تستثمر فوائض أموال الغاز والبترول القطري في العالم الصناعي المتقدم ؛ وفي ذلك الوسط المرتبط عضويا بالأعصاب الحساسة لمصالح الغرب فإن معيار النجاح الرئيس هو تكديس الأرباح بصرف النظر عن الوسيلة التي تحققت بها ، ومضاعفة الصفقات بغض النظر عن هوية أطرافها ، وكذلك برز حمد بن جاسم بعد أن نسج علاقات عمل مع أطراف قد تبدو متنافرة لكن جمع شتاتها هدف الربح المالي الذي يتقدم في ذلك الوسط على صلات الدم والمبدأ ، فقد ضمت شبكة علاقاته ومصالحه رجال أعمال اسرائيليين ويهوداً غربيين يمتلكون مصالح مالية واقتصادية هائلة على مساحة الكرة الأرضية مثل آل روتشيلد ، ومورجنتاو ، وغولدمان ، وسليكمان وفي ذات الوقت كان قد أنشأ علاقات عمل واسعة مع قياديين في التنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين كانوا قد أقاموا في أوروبا منذ ستينات القرن الماضي وأصبحوا من كبار رجال الأعمال فيها بفضل الأموال السعودية التي كانت تنهال وقتها عليهم أجور محاربتهم المدّ القومي العربي الذي قاده في تلك الفترة جمال عبد الناصر ؛ و كان من أبرز هؤلاء يوسف ندا المصري – السويسري وشريكه سعيد رمضان زوج ابنة حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ، وغالب علي همّت المصري – الأميركي ، وكان محتماً أن تلفت تلك العلاقات الفريدة التي يمتلكها حمد بن جاسم أنظار من يعنيهم الأمر في الغرب واسرائيل ، إذ وجدوا فيه صلة الوصل الأنسب بينهم وبين الإسلام السياسي الذي كان يبدو كقوة صاعدة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي ، وكان الرجل مستعداً للمضي بذلك الدور ومتحمساً له خاصة وأنه وجد الطريق ممهداً أمامه ، فالإخوان المسلمون كانوا جاهزين للاستجابة لتلك الإيماءة الغربية – الاسرائيلية ببدء عهد جديد من التفاهم والتهادن فقد كان لهم خاصة وللإسلام السياسي عامة هدف دائم واحد لا ثاني له هو الوصول الى السلطة في أي بلد وبغض النظر عن شبهات تحيط بالطريق المؤدي اليها ، ودون التوقف عند مقاصد الطرف الذي يفتح لهم الأبواب ، وكذلك كان أمام حمد بن جاسم بعد دخوله عالم السياسة من بابه الحكومي جملة مهام وقد تمثل أبرزها في ما يلي :
ـــ فتح الطريق أمام الإسلام السياسي حيثما كان ذلك ممكناً في الوطن العربي للوصول الى السلطة بعد ضمان قبوله التعايش مع اسرائيل وهو ما حدث في غزة ويحدث اليوم في ليبيا ، وجرت محاولات دامية لتنفيذه في تونس ومصر .
– تمويل الفصائل الإسلامية في البلدان المضطربة لتمكينها من أداء أنشطة اجتماعية يستغني بها الناس عن وجود الدولة
– تجميل وجه الإسلام السياسي بادعاءات الالتزام بمدنية الدولة و بالديمقراطية و بحقوق المرأة و حماية الأقليات الدينية . ــــ التركيز بداية على دول عربية عرفت وجوداً تاريخياً للإسلام السياسي فيها مثل تونس وليبيا ومصر وسوريا ، واللافت أن هذه الدول عرفت أيضاً وجوداً يهودياً قديماُ على أرضها دار وقتها حديث عن تجديد الصلات معها .
ــــ تحريض قوى الإسلام السياسي على إسقاط أنظمة الحكم بالتظاهر والتحشّد في الشوارع والميادين وشلّ الحياة العامة ، ثم قيام تشكيلاته بارتكاب جرائم ذات أبعاد قبلية أو طائفية ، و التعرض بالسلاح للجيش والشرطة لجرّهما الى ردّ يستدعي تدخل قوات غربية كما حصل في ليبيا وكما كانت النية مبيّتة لسوريا .
ــــ تكليف فضائية الجزيرة بشن حرب نفسية مسعورة على الأنظمة المرشحة للاستهداف تستخدم فيها كل قدراتها على التزوير والكذب والتلفيق بأساليب التكنولوجيا الرقمية .
في الوقت ذاته يتولى حلفاء قطر – حتى لا أقول سادتها – تنفيذ الجانب المتعلق بهم من الخطة وذلك بطبخ قرارات دولية في مجلس الأمن وفي جامعة الدول العربية وفي مفوضية حقوق الانسان ليكون ذلك كله غطاء أممياً يعطي الشرعية لعدوانهم المسلّح ؛ وكذلك توصل الجهد القطري الدؤوب مع الغرب واسرائيل إلى فتح الطريق أمام الإسلام السياسي لتحقيق حلمه التاريخي بالوصول الى السلطة مستبدلاً راياته الدعوية بأخرى دموية ، مشهراً فكره المتخلف ، مستسلماً أمام الإملاءات الاقتصادية الغربية ، وملتزماً بسلام كامل مع اسرائيل لن يعجز القرضاوي عن تبريره بفتوى شرعية.