18 ديسمبر، 2024 8:39 م

القصيدة أولاً والشاعر ثانيا!

القصيدة أولاً والشاعر ثانيا!

يشهد واقعنا الشعري خصوصا والأدبي عموماً ظاهرات طارئة ولتكرارها وشيوعها يجعل منها عادات دخيلة، وقد عالج الشاعر جواد كاظم غلوم إحداها وهي ظاهرة تكريم شعراء مبتدئين لم ترسخ أقدامهم في أرض الشعر من قبل هيئات ولجان توزع ماشاء لها من بطاقات وشهادات لجوائز على شبيبة تصفهم بالشعراء الكبار والحال تنقصهم الموهبة بل ولغة الشعر التي تعج بالأخطاء من كل نوع.. مما يخلق وهماً لدى هؤلاء بأنهم شعراء كبار وجلّهم خُلّب بكل ما تعني هذه الكلمة.. ولا أريد أن أطرق الموضوع ثانية..
وما أريد أن أتناوله اليوم هو شيوع الركض وراء الأسماء اللامعة التي لها تجربة ومراس وحضور ملفت في عالم الشعر، فتستفحل ظاهرة الحكم المسبق، وطغيان إسم الشاعر على القصيدة وتلمس ذلك في بعض المواقع الإلكترونية المعنية بالفكر والشعر أكثر من السياسة والاقتصاد وشؤون الحياة الأخرى، فقد تقرأ قصيدة لشاعر تسحرك في السبك والبيان وجمال اللفظ وحسن التصوير، فلا تجد من يعلّق عليها وإن وجد فسطر أو سطران على طريقة “صح لسانك” أو ماشابه ذلك والسبب في ذلك أن الشاعر في بداية الطريق أو متمرس لكنه غير لامع الإسم.. ثم تقرأ قصيدة لشاعرهام معروف فتجد التعليقات العديدة التي تقرب من المائة عددا، ولا شك أنه لأمر حسن أن تستحوذ القصيدة وشاعرها على أهتمام مجموعة من أرباب الشعر والمهتمين به.. لكن في معظم الأحيان يبدأ المديح للشاعر الى حد التعظيم وكأن أبا الطيب أو أبا تمام أو البحتري قد بعث من جديد.. ولا تكاد تقرأ لدى المعلقين عن القصيدة وخصائصها شيئاً، بل يعمد بعض المعلقين الى اقتطاع بيت أو أكثر أو نضد من القصيدة ليبرر الإطناب في المديح وكأنه وفّى ذماما!
والمحصلة أن ينتشي الشاعر ويطرب لهذا المديح وكأني به يستزيد من المدح والمادحين، فلا يقصّر هؤلاء! وعندما يكون المادح شاعراً مغموراً فإنه بفضل الشاعر الممدوح يصبح شاعراً كبيراً، فرد الجميل بمثل هذه الحالات من الأصول وفق شعار: إمدحني أمدحْك! أكبِرْ بي أُكبِرْ بك..
وإذا حصل أن يكون أحد المعلقين قد نبّه الشاعر الكبير الممدوح على خطأ أو ما تصوره خطأ فستقوم الدنيا ولا تقعد! فيشمر الشاعر الكبير الممدوح عن ردنيه – وكان للتو أنعم من الحرير مع المادحين – ليردع المُنبّه على الخطأ المزعوم بلغة خشنة فيها غمز ولمز يتطور الى ألفاظ لا تليق بشاعر قط وتعمّد على تجنِّ واستهانة بشاعر له حضوره وبأسلوب عدواني..والأنكى من ذلك أن يتطوع بعض متملقي الشاعر الكبير الممدوح ليدلي بدلوه غامزا قناة الشاعر سيئ الحظ الذي نبه على خطأ وكأنه ارتكب إثماً؛ وعندما تدخل أحدهم ليذكّر أن الشاعر الممدوح قد غمط حق الشاعر المنتقد، يكرّ عليه الأول ليزعم أن المدافع هو الشاعر نفسه الناقد وقد تخفى تحت أسم مستعار!
وتدخل شاعر ثالث وزعم أن المشرف على الموقع غمطه حقه حين حاول مرتين أن ينشر قصيدة فيحجبها الموقع، ممالأة للشاعر الكبير الممدوح، وهنا رد المشرف على الموقع ليضع الحق في نصابه بأن الموقع لايكرر المواد التي سبق لها أن نشرت.. ولا أحب أن أطيل وأذكر التفاصيل المملة.. التي تعددت فيها أطراف النزاع، والكل يرى أن الحسد والغيرة بين الشعراء البارزين محتدم، والسبب هو أن يوصف هذا الشاعر بالكبير ويتدخل غيره من “الكبار” أيضا ويجدون أنفسهم هم أيضا كبار.. وفضّاً للاشتباك وجبراً للخواطر تدخل أحدهم وهو شاعر مهم فترجى كل الشعراءألا ينادونه بالكبير (ربما لأن الكبير هو الله!) وتركتُ النار وقد خبا لهيبها على أمل ألا يؤججه شاعر مؤجِج!
كل هذه السيناريوهات وقعت في الأسبوع الفارط وما زالت عقابيلها حتى الساعة .. وأظن “أن الزمن يداوي الجراح ” وفق المثل السويدي إن لم ينكأها مُنكىء.
ليس الغرض من عرض هذه الوقائع هو ذكر واقعة عابرة بل هي أعمق من ذلك لأنها تشير الى ظاهرة راسخة أذكتها وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت عدد الإعجابات دلالة حذاقة ومدعاة أبهة فاصبح الجميع يتفاخر بعددها وكذلك عدد التعليقات فهي المعيار الثاني! والمصيبة أنك ترى موادَ معتبرة لا تحصل الا على عدد نزر من الإعجاب وشُحّ شحيح من التعليقات بينما تحصل غيداء من الجنس الناعم بمواد تافهة على مئات الإعجاب، وأحينا قصيدة هزيلة على إطراء ينطوي على معنى الغزل ولله در الشاعر بشارة الخوري الذي كتب:
جفنه علّم الغزل – ومن الحب ماقتل!
أو أحمد شوقي:
خدعوها بقولهم: حسناءُ – والغواني يغرهن الثناءُ
أتمنى حقاً أن تبنى العلاقات بين المثقفين وخاصة الشعراء على روح بعيدة عن الحسد والمناكفة، فالشعراء هم بالضرورة أصحاب الجمال الذي هو قرين للبعد إنساني وعواطف سامية ونكران ذات ومحبة الآخر..وإلا سيصبح الشعراء أهلا لما قاله الله في “سورة الشعراء”.