تسميات ومسميات لم أعر لها أهمية قبل أن يرقد أخي المصاب بفايروس كرونا في مستشفى الشفاء 14 بكركوك لتبدأ من هناك رحلته إلى عالم الأبدية مخنوقاً بعد أن سلب منه الهواء في فاجعة نفاد الأوكسجين يوم الاثتين 26 تموز 2021. رغم كل شيء كنت اجهل تماما حجم قساوة البشر.
رغم بلوغي من الكبر عتياً ورغم إحتراق الرأس شيباً، ورغم قرأتي لمئات الكتب والمؤلفات. رغم تجوالي في بقاع الأرض ولقائي أصناف وأجناس من البشر، فإنني كنت أجهل أن تكون هناك تسميات سوف أحتاجها يوما لإنقاذ حياة أخي سنان.
من هذه التسميات جهاز للتنفس الصناعي الـ (سيباب) والذي يشكل كابوساً للمريض. ومن ثم مشغل هذا الجهاز الذي يطلق عليه تسمية (مساعد مخدر) وهو الكابوس الآخر.
أجهزة وعاملين عليها يشكلون في فترة من الفترات أهمية قصوى في حياة من يستجدي الهواء ليعيش. بل يمثلون كل الحياة للمنكوبين وذويهم في خضم الصيحات التي تتعالى إلى السماء من أجل إنقاذ حياة.
أجهزة وأصناف من البشر تتجلى أدوارهم في فترات الضعف والإنكسار. عيون تتطلع إلى الأجهزة لتقرأ الأرقام الظاهرة في الشاشة وأذان صاغية لتتلقى كلمة خير من أفواه العاملين. قلوب أسيرة بيد موظفين لا يبالون في كثير من الأحيان في أمر تلك الخواطر المكسورة من رعب المنظر والقلوب المتأهبة خشية من فقدان عزيز.
أخي الذي يصارع الموت وهو بحاجة إلى جهاز للتنفس الإصطناعي في مستوصف صغير لا يصلح حتى لعلاج حالات الأنفلونزا البسيطة بين محلات سمكرة السيارات والصباغين والفيترجية. حيث الحاجة إلى هذا الجهاز الذي سينقذ أخي من خطر الموت ويبعث في صدره الهواء اللازم للحياة.
رغم تقدم التكنولوجيا وتطور علم المعلومات، ورغم أن الجميع الآن يعيش عالم الشبكة العنكبوتية ويتفننون بها، إلا أن الموجودين في هذا المستوصف المشؤوم يتبرؤون من تشغيل هذا الجهاز الذي من المفترض أن يكون من صميم عملهم. الطبيب يقول أن عمل الجهاز من اختصاص من يدعى بـ(مساعد مخدر) وأنا طبيب وهذا ليس من تخصصي. الطبيب أعلى مرتبة وظيفية في المكان وليس له أن يقلل من شأنه وأن يتنازل ليقوم بدور فني بعنوان (مساعد مخدر) حتى وإن كان الأمر متلعقاً بحياة إنسان.
أخي يبحث عن ذرة أوكسجين ليدخل في صدره عسى أن يبعث فيه الروح ويبقى بين أطفاله وعائلته. ونحن نبحث عن (مساعد مخدر) لإنعاش تلك الروح بالهواء. أخي يصيح مختنقا وأنا أصيح مستنجداً بـ(مساعد مخدر). أخي يفقد الخيط الذي يربطه بالحياة ونحن نسارع في البحث عن مروءة شخص وشهامة موظف قد تحركه الغيرة ويهرع إلى تشغيل الجهاز.
صيحات المتوجعين تتعالى في أروقة هذا المكان الشائن لتصل إلى أعتاب السماء. أكف الدعاء مرفوعة إلى السماء عسى أن تنزل الرحمة في قلوبهم وينبري أحدهم ويعطف علينا بـ(مساعد مخدر) ليمد يده وينتشل إنساناً يغرق من مستنقع ماء آسن.
ما عادت الدعوات تنفع في نهاية المطاف ليقتل بعد ذلك إنسانا بدم بادر. ما أجدت كل تلكم الصيحات والآهات والدعوات نفعاً في توفير مساعد مخدر من شأنه أن يشغل الجهاز لتورق الكروم وتبتسم العيون وترقص الأضواء كالأقمار في نهر. ويعود المريض بين أطفاله واهله معافا. ما عاد الإنسان ليكون عونا للإنسان دون مقابل، لا شيء في سبيل الإخلاص في العمل حتى رزمت روح أخي كل أمتعتها لترحل عن هذه الجيفة والدنيا الدنيئة بكل سكينة. رحل وترك العار في جبين كل من استهان بحياة البشر. صعد إلى السماء ليدفن بقدميه في العار كل الذين يتقاضون الأجور دون عمل. رحل ناركا خلفه لعنات اليتامى والأرامل تلحق الظالمين والمتغطرسين حتى تصيح الساعة.