18 ديسمبر، 2024 10:19 م

قوى الدولة.. أوروبا انموذجا

قوى الدولة.. أوروبا انموذجا

عرف عن بلدان أوربا أنها تعيش اليوم، في منتهى التقدم والإزدهار، وأن شعوبها تتمتع بحرية مستدامة ورفاهية عالية، واستقرار على كافة الصعد، مع تصاعد مستمر في مستوى المعيشة للفرد فيها..
ما سبق من أمر يدعونا دوماً إلى السؤال، كيف أصبحت تلك البلدان على ما هي عليه الآن؟ ولماذا لا يمكن أن نبني دولنا العربية على هذا المنوال؟ خصوصاً ان بعضها يمتلك المؤهلات اللازمة، كي يكون في مصاف تلك الدول المتقدمة والمستقرة سياسيا واقتصاديا، والعراق على رأس تلك البلدان كونه يقف على اعتاب الديمقراطية، وقد خاض اشواط عديدة في هذا المجال، بالإضافة لما يتوفر عليه من مقومات اقتصادية وثروات.
لا يخفى على المتابع أن ما وصلت إليه أوربا لم يأت من فراغ، وان تلك الشعوب لم تصحو من النوم، لتجد نفسها تتمتع بالديمقراطية والرفاه.. بل جاء ذلك بعد عمل كبير وتضحيات، وعلى مدى سنين طويلة، وقد مرت بمراحل مهمة دفع خلالها الشعوب الأوربية ثمنا باهظا، فالاوضاع قبل ثورات الربيع الأوروبي خلال القرن التاسع عشر، لم تكن كما هي اليوم، فالفقر والجهل والأوبئة والتسلط والاضطهاد، ابرز سمات تلك الحقبة، الأمر الذي فجر تلك الثورات للمطالبة بتحسين المعيشة، وتأسيس انظمة عادلة تحكمها دساتير منصفة، تحفظ الحقوق وتنهي حالة الفوضى والضياع، التي كانت سائدة لقرون، وبالفعل حققت تلك الشعوب الحرة اهدافها، بالرغم من المدة الطويلة التي استغرقتها للوصول إلى النتائج المرجوة.
ان الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الشامل، في كل بلد يستند على عاملين مهمين، هما الوقت والوعي الشعبي، فبلدان اوربا لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم خلال عام او عامين، انما قطعت قرنين من الزمن لتصل إلى الاستقرار الشامل، خاضت خلالها الكثير من التجارب وتخللها عديد الهفوات، كغياب القانون وظهور المجموعات المسلحة، وتجار الأزمات وكثير من القضايا، التي ترافق كل تحول مفاجئ في النظام، لكن عزيمة وإصرار الناس على التغيير، حقق الأهداف وصنع أوربا اليــــــوم.
اما في العراق فقد امتدت العصور المظلمة حتى نهاية حكم الطاغية صدام، فما عاشته أوربا خلال القرون الوسطى عاشه العراق، حتى عام ٢٠٠٣ حصل التغيير، وكتب الدستور وجرت انتخابات لدورة ودورتين وثلاث، تشكلت حكومات واحدة تلو الأخرى، وبعد مرور 18 عاماً لم تتغير أحوال الناس إلا بالشيء اليسير، ولم تلبى طموحاتهم، مع تراجع في مستوى الخدمة والاقتصاد وحتى الحريات..
كذلك ظهور قوى السلاح، التي استغلت ضعف الدولة وسيطرت على مقدراتها، حتى وصل بها الحال ان تستخدم موارد الدولة في محاربة الدولة، وسميت بقوى اللادولة وهي أقوى خطر يواجه العراق بعد الإرهاب.
لم تخلوا الساحة في العراق لقوى الظلام كما يتصور البعض، بل على العكس هناك قوى وتيارات، وطنية وعشائرية ودينية، تقف بالضد من هذه المجموعات المدعومة من الخارج..
على الصعيد السياسي فالسيد عمار الحكيم، المعروف بمواقفه الداعية لبناء الدولة، تبنى تشكيل تحالف قوى الدولة كما أسماه، مع العديد من قوى الاعتدال كتحالف النصر بزعامة الدكتور العبادي، وبعض القوى العراقية الأخرى للدخول في الانتخابات ومحاولة تشكيل اغلبية برلمانية، تأخذ على عاتقها تشكيل حكومة عراقية، بسيادة كاملة بعيدة كلياً عن الصراعات الدولية والاقليمية، كما تعمل لفرض هيبة الدولة وتنهي حالة السلاح المنفلت ونفوذ أصحابه.
ان ما مر به العراق من حروب وارهاب وازمات ولا استقرار سياسي، أدى إلى حصول طبقية في المجتمع كما في أوربا سابقاً، فبينما يقاتل غالبية الشباب للحصول على عمل، وتوفير لقمة عيش لعوائلهم، هناك من بنى عروشا من الاموال تقدر بالمليارات، على حساب الفقراء وعامة الناس، والفساد المدجج بالسلاح اخذ بالانتشار والتوسع، فأصبح من الطبيعي ان يمرر المدير الفلاني الصفقة الفلانية، لحساب جهة ما لأنها تملك النفوذ والسلاح، الأمر الذي يدعو إلى اعادة الحسابات والتفكير جدياً، بمستقبل البلاد ومصير اجياله القادمة.
العاقل يعي ان لا بديل عن الدولة، والشعب وحده من يبنيها من خلال دعم قوى الدولة.. تلك القوى التي تؤمن ان قوتها بقوة النظام والمؤسسات، وأن وجودها لغرض الحفاظ على سيادة البلاد واستقلال قراره الوطني، مع الحفاظ على علاقاته مع جيرانه واشقائه من الدول، والتعامل وفقاً للمصالح المشتركة، كما أن الانفتاح محليا على الفضاء الوطني وتشكيل تحالف عابر للمكونات، يعد مكسبا كبيرا للعملية السياسية، فمغادرة الائتلافات المذهبية والقومية، نقلة جديدة وخطوة أخرى نحو التكامل الديمقراطي والسياسي.