الأطماع الفارسية في العراق ليست وليدة العصر الحديث، ولكن لها جذور تاريخية واضحة وأن الطموحات الإيرانية في بغداد تعود إلى العصر البابلي وان هذه الاطماع استمرت حتى بعد دخول الإسلام إلى الحضارتين، حيث ظلت هذه الدولة الفارسية القديمة تعتقد أن بلاد الرافدين امتداد استراتيجي طبيعي لها، وهو ما دفع الصفويون إلى اتخاذ مذاهب التشيع ليكون مبررا لاحتلال العراق مقر مرجعيات ومقدسات الشيعة وكذلك لمواجهة الامبراطورية العثمانية. وقد ظل هذا الصراع التاريخي محمومًا لفترة طويلة بين الطرفين وتخللته حروب ومعاهدات وانقطاع وتواصل في العصر الحديث، ولكنه بلغ ذروته مع وصول الثورة الإسلامية الإيرانية إلى الحكم في طهران. اليوم يمكن تعريف الاستعمار الحديث بان المحتل لا يحتاج فيها إلى قوات عسكرية مباشرة، وإنما يستخدم عملاء له من أبناء البلد القابع تحت الاحتلال وتجنيدهم لخدمة مصالح المحتل وتسهيل مهمته في نهب موارد البلد المُحتل وخيراته. فالأحزاب التي تمسك الحكومة العراقية، هي أحزاب تابعة لنظام طهران وترعرعت في أحضانه، والمليشيات التي تمسك بالملف الأمني في العراق، هي مليشيات أُسس بعضها داخل إيران، وبعضها الآخر أُسس في العراق برعايتها ووفق توجهاتها. فما كان من هؤلاء إلا أن سخّروا كل خيرات هذا البلد لصالح المستعمر الإيراني، دون مراعاة ولو لأبسط حقوق الشعب العراقي المغلوب على أمره.
سياسيا، لا يخفى على احد دور الاذرع الإيرانية التي تلاعبت بالعملية السياسية في العراق من خلال السيطرة على مراكز صنع القرار في بغداد. فقد لعبت إيران على تناقضات البيت الشيعي الداخلي الذي صنعته بيدها بعد عام 2003، وحرصت على جعله في صورة أضعف ما تكون ليصبح الولي الفقيه هو المرجع في حال اختلاف، لتُبقي إيران الكرة في ملعبها، إذ أصبح الساسة العراقيون يحجون إلى طهران لحل أزماتهم الداخلية. فأصبحت السياسة العراقية تُصاغ عن طريق وكلاء الولي الفقيه في بغداد الذين عملوا على صياغة التحالفات داخل البيت الشيعي بمختلف مكوناته، والتحكم في نتائج الانتخابات، ودعم المرشحين، وتشكيل الائتلافات، وان أي شخص يتم تعينه بالحكومة العراقية الحالية بدا من رئيس الوزراء الى اصغر مسؤول لا يتم الا بمباركة طهران.
عسكريا، حاولت إيران منذ الحرب الإيرانية العراقية تشكيل ميليشيات عسكرية بهدف زعزعة الاستقرار في العراق، فبدأت بتشكيل ميليشيا بدر وتدريبها وتسليحها في إيران بإشراف فيلق القدس. وازدهرت هذه المليشيات بعد عام 2003 فسيطرت على مختلف الأجهزة الحكومية والأمنية والمناطق الحدودية بين إيران والعراق. ولم تكتف ايران بذلك، بل سعت الى تشكيل اكثر من ميليشيا لإرضاء الطموحات الإيرانية في العراق. فسعت الى تشكيل ميليشيات اصغر وأكثر تطرفا لتنفيذ الاجندة الإيرانية في العراق، مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله العراقي ….. الخ. ومع استيلاء تنظيم داعش الإرهابي على الموصل استغلت إيران ذلك لتأسيس ميليشيا الحشد الشعبي بمساعدة مرجعية السيستاني الفارسية في النجف لإعادة إطلاق وجودها العسكري بالعراق تحت دعوى محاربة الارهاب حيث توحدت معظم الميليشيات تحت قيادة فيلق القدس الذى وفر لهذه الميليشيات الأسلحة والتخطيط، وان من اهم مهام هذه المليشيات هي حماية المصالح الإيرانية بالعراق وما حوله، ويقدر عدد قواتها ما بين 90 – 120 ألف مقاتل. واليوم تبني إيران قواعد عسكرية لها في العراق، بعلم حكومة بغداد أو من دونه، تسعى إلى أن تكون قواعد دائمة، ولعل جرف الصخر مثال صارخ على هذا الوجود التي تمثل قاعدة عسكرية إيرانية، فيها مئات من المستشارين الحرس الثوري الايراني، بالإضافة إلى قواعد صاروخية بعيدة المدى، ومصانع عسكرية. بخلاف جرف الصخر هنالك وجود عسكري إيراني في منطقة النخيب والمحاذية للحدود العراقية السعودية، حيث تفيد تقارير بأن هذه المنطقة تحوّلت إلى قاعدة عسكرية إيرانية ضخمة، تديرها مليشيات ولائية، وتضم مئات المستشارين الإيرانيين، بالإضافة إلى قواعد صاروخية بعيدة المدى.
اقتصاديا، تعد إيران المسيطر الأول على الاقتصاد في العراق، حيث بلغت إجمالي تقديرات حجم التجارة بين البلدين 12 مليار دولار في العامين 2013 و2014. وبالتحديد في الجنوب العراقي يُلاحظ أن معظم البضائع الموجودة هناك ذات منشأ إيراني، حيث اعتمدت طهران على العراق كسوق رئيسي لمنتجاتها المختلفة في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية والزراعية وقطاعات الاستثمار والسياحة الدينية والقطاعات التجارية. كما اتسع نطاق السياحة الدينية بشكل غير مسبوق بين العراق وإيران حتى وصل في بعض التقديرات إلى 3000 زائر رسمي يوميًا ناهيك عن الأعداد التي تدخل بطرق غير رسمية. هذا وقد بلغت الصادرات الإيرانية غير النفطية إلى العراق مبلغ 1.8 مليار دولار في عام 2007، ووصلت إلى 2.3 مليار دولار في العام 2008 وتضاعفت في أعوام 2012 – 2013 إلى 6.2 مليار دولار، وتزايدت في كل عام حتى وقتنا هذا. هذا بالإضافة الى سيطرة ايران على سوق العقارات في بغداد والنجف وكربلاء وسامراء وذلك بشراء العديد من العقارات خصوصا القريبة من المراقد الدينية بغية السيطرة على السياحة الدينية في العراق. هذا وبالإضافة الى تحول العراق إلى معبر لعمليات تهريب كبيرة للعملة الصعبة “الدولار” إلى إيران عن طريق “مزاد العملة” وتوصيلها لحسابات بنكية إيرانية، في خطوة منظمة تهدف إلى كسر الحصار الاقتصادي والعقوبات الأمريكية على إيران.
دينيا، لا يخفى على احد ان المرجعية حكراً على رجال الدين الفرس دون غيرهم، ومن يحاول التقرب منها (من غير الفرس) يكون مصيره الموت. فلأكثر من 200 عام كانت المرجعيات الدينية ذات الأصول الفارسية هي المسيطرة على الشارع الشيعي العراقي. فاليوم نرى السيطرة متمثلة بعلي السيستاني، والشيرازي، وال الحكيم، وثمة مرجعيات نجفيه أخرى تربت في النجف لكنها أقل في النفوذ من المشتغلين في السياسية القادمين من قم. وبشكل عام تعمل إيران على ضمان النفوذ الأكبر لرجال الدين الذين تربوا في حوزات قم الذين يضمنون ولاءهم الكامل أكثر من رجال الدين الذين تربوا في حوزات النجف غير الفاعلة سياسيًا.
ديمغرافيا، تسعى إيران بقوة ومن خلال ميليشياتها الى اعتماد فلسفة التهجير الطائفي، واعتماد الميليشيات على “شرعنة دستورية”، تحت مظلمة المادة 140 المعنية بالمناطق المتنازع عليها، تتجه نحو إتمام مخطط تغيير ديموغرافي طائفي، متنام في العراق. فبعد عام 2003 سعت الحكومة العراقية الى تغيير محيط بغداد من خلال طلاق العنان لوزارة الداخلية والميليشيا المرتبطة بها (فيلق بدر) بشن حملات قتل وتعذيب وتشويه للجثث في هذه المناطق، ولم يعد الأمر خافياً بعد اكتشاف السجون السرية وفرق الموت. هذا بالإضافة الى التهجير والتطهير العرقي والطائفي المستمر التي تشهدها المناطق السنية في العراق على ايدي مليشيات الحشد الشعبي الإرهابي والبيشمركة.
أن تقييم النفوذ الإيراني الحالي في العراق يؤكد أن طهران هي الفائز في الحرب على العراق سواء من خلال نفوذها السياسي والعسكري القوي داخل الحكومة العراقية التي تضم عددًا من أقرب حلفاء طهران إضافة إلى نفوذها الديني والاقتصادي والإعلامي. الحقيقة هي انه لم يبق شيء من عراق الأمس في مشهد عراق اليوم. كما لو أن العراق لم يعد بلدًا عربيًّا، بل تم إلحاقه بالخريطة الجغرافية الإيرانية. ان اعتراف المجتمع الدولي بالاحتلال الإيراني للعراق يعد الخطوة الأولى والاساسية لتحرير العراق من ذلك الاحتلال حيث يكون المجتمع الدولي ملزم بالعمل والتنسيق مع القوى الوطنية لأنهاء سيطرة اذرع ايران على الدولة العراقية وتخليص العراق من انياب الفرس الصفويين.