18 ديسمبر، 2024 8:46 م

رائد محمد الحواري: المجتمع الذكوي في رواية “االيتمية”

رائد محمد الحواري: المجتمع الذكوي في رواية “االيتمية”

صدرت رواية “اليتيمة” للأديب المقدسي جميل السلحوت هذا العام 2021 عن مكتبة كل شيء في حيفا، وتقع الرّواية التي يحمل غلافها الأوّل لوحة تشكيليّة للفنّان المعروف محمد نصرالله، ومنتجها وأخرجها شربل الياس في 260 صفحة من الحجم المتوسّط.

هذه هي الرواية الثالثة التي يتناول فيها الروائي جميل السلحوت قضايا اجتماعية متعلقة بالمرأة، فبعد روايتي “الخاصرة الرخوة والمطلقة”، تأتي رواية “اليتيمة” لتشكل ثلاثية. أجزم أن طرح هذه القضايا أصبح ضروريا، لأنها تمس بنية المجتمع الذي يواجه المحتل، فعندما يكون الطرف الأهم في المجتمع/المرأة معطوبا وغير سوي، فكيف سيتم مواجهة محتل متطور، ويملك من الإمكانيات الشيء الكثير والكبير؟

إذن الموضوع حيوي ومهم وضروي يجب أن تطرق أبوابه، لأننا كمجتمع فلسطيني وعربي لم نعد نبني بشكل جديد، بل أخذنا نهدم ونخرب حياتنا من خلال النظرة والسلوك المتخلف مع المرأة، التي ننظر إليها على أنها أدنى من الرجل في فهم خاطئ لديننا الحنيف فنحن نتعامل دينيا معها كما يتعامل بعضهم مع “ويل للمصلين” ويتوقف عندها” دون أن نكمل الآية، لهذا تجدنا في حالة تقهقر وتراجع مستمر، وتكثر الضحايا النساء في المجتع، دون أن يتجرأ أحدا ليقول توقفوا: إننا ذاهبون إلى التهكلة، من هنا تأتي أهمية “اليتيمة”.

تطرقت الرواية إلى ما هو اجتماعي، ليكون المجتمع قويا وسليما ومعافى، واللافت في الرواية أنها تبين أن الضّحيّة “عبير” وقع عليها الأذى والظلم من خلال بنات جنسها، النساء، “سلوى” زوجة الأخ”عزيز”، التي لعبت على فتح الباب وتهيئة الظروف للإيقاع بعبير، كما نجد أمّ “مهيب” التي عملت على إخفاء عيوب ابنها وأسرعت بربط الضحية قبل أن تراه، وتتعرف عليه بشكل كاف، حيث كان “مهيب” يعمل في الكويت، كما أن أمّ سلوى التي تجاهلت وضع “مهيب” وما يعانيه من مرض نفسي وما فيه من عصبية، فقط من أجل أن ترضي رغبات شقيقتها، ودون أن تراعي مصلحة “عبير” التي ستخدع بمنظر “مهيب” وهيئته، وبعدها ستعيش الجحيم معه، كما أن أمها “لبنى” أمّ عزيز عملت على جعل “عبير” تخنع وترضخ وتستسلم لواقعها، من خلال أقوالها وفهمها للمرأة الخانعة.

وكأن السارد يقول أن النساء هن أساس من يقمن (بإسقاط) بنات جنسهن، فهن أساس المشكلة، ولو أنهن توقفن عن هذا السلوك وهذا المشاركة في جلب مزيد من الضحايا والإيقاع بهن، لتوقفت الجرائم بحق النساء، وهذه ميزة تحسب للرواية.

هذا على صعيد الفكرة التي طرحتها “اليتيمة” أما على صعيد طريقة التقديم وشكلها، فإن هناك سلاسة في تناول الأحداث، حتى أن القارئ يطالع الرواية على دفعة واحدة، وهذا يعود إلى طبيعة لغة الشخوص التي كانت اجتماعية تماما، حتى أن القارئ يشعر بقربها منه، حيث تتحدث اللغة الشعبية التي يسمعها من عامة الناس، وهذا جعل الشخصيات والأحداث قريبة من المتلقي، فهي شخصيات يسمعها ويراها يوميا، فالثقافة الشعبية التي تعتمد على الأمثال، وتستند على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية جعلت الرواية شعبية تماما، وشخصياتها (حقيقية/حقيقية).

المجتمع الذكوري

سنحاول تبيان شيء مما جاء في الرواية لتوضيح كيف أن ثقافة وتربية المجتمع ونظرته للمرأة هي المشكلة، بصرف النظر عمن يقوم بالتمهيد وتهيئة الضحية، فالبناء الفكري الاجتماعي الذي يعامل المرأة على أنها ضلع أعوج، و”ناقصة عقل ودين”، وعلى أنها ضعيفة، وعليها القبول بنصيبها، وعليها التحمل، وعليها (مداراة) الزوج، وعليها الحفاظ على بيتها وزوجها، وأن الزوج والزواج سترة لها، كلها مفاهيم متخلفة رجعية تدمر المجتمع وتبقيه في حالة تقهقر وتراجع، بحيث لن تقوم له قائمة، يخبرنا السارد عن هذه الأفكار وهذا السلوك من خلال حديثه عن “عبير” التي نجحت في الثانوية العامة بتفوّق، لكن أمها تنظر إليها بهذا الشكل: “عزيز شاب ما شاء الله عليه! وكل البنات يتمنينه، أمّا عبير فعليها انتظار نصيبها، ففي حفل التخرج لم تشاهد عبير أي بنت تتمنى “عزيز” لكنها شعرت أن الشباب ينهشون جمالها بعيونهم، وسمعت بأذنيها النساء وكل واحدة منهن تتمناها عروسا لابنها” ص43، ومن هنا لم تفكر الأم بتعليم ابنتها جامعيا ـ رغم أنها متفوقة ـ ، وفضلت أن تنتظر حتى ينهي “عزيز” تعليمه، ولم تتوقف عند هذا الأمر فنجدها تقوم بتزويجه رغم أنه لم ينه دراسته الجامعية بعد، مفضلة تزويجه على تعليم ابنتها “عبير”.

ويأخذنا السارد إلى سلبية “أمّ عزيز” وكيف تنظر للرجل وللمرأة: “ـ أطلب وتمنى يا روح إمّك، ما عليك إلا أن تشير إلى أي فتاة تريدها واترك الباقي علي:

ضحك الجد وقال:

ماذا جرى لك يا لبنى؟ هل تحسبين بنات العالم “بسطة خضار” وما عليك إلا أن تنتقي منها ما تريدينه؟

أمّ عزي: “البنات مثل الهمّ على القلب” وكل منهن تنتظر إشارة منا” ص56.

تحدثنا “وداد” زميلة “عزيز” في الدراسة عن سلبية المجتمع تجاه المرأة بقولها: “…سمعة النساء في بلادنا حساسة كالزجاج، فكما أن الزجاج ينتهي بأي خدش يصيبه، فإن أي إشاعة على المرأة قد تدمر حياتها إلى الأبد، ومجتمعنا لا يرحم” ص63، وأهمية هذا القول أنه جاء ممن يمكن أن يكون (ضحية)، لهذا نجد له صدى وارتدادات على القارئ/المجتمع.

السارد يتناول فكرة “حمل الإسم” وكأنها الهم الأكبر للمجتمع، وبها يستطع (المجتمع) الحفاظ على وجوده/على كيانه: “…وأن أرى ابنا لعزيز يحمل اسم ابيه، ليكون امتدادا لنا في المستقبل، سألت عبير ساخرة:

وماذا بالنسبة لأبنائي أنا يا جدي… إذا كان الحسن والحسين أبناء لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف لا يكون أبناء عبير أبناء لأبيها نعمان ” ص71.

تتحدث “ميسون” عن المجتمع الذكوري ونظرته المتخلفة حتى للأطفال: “… وصلت الوقاحة حدا بأحدهم أن قال لها ونحن في المرحلة الإعدادية:

أريد ابنتيك لولدي لأسترهن ولأريحك من مؤونتهن” ص80.

وهذا الأمر لم يقتصر على “ميسون” بل نجده يطال “عبير” التي يطلبها “سفيان زوجة له، رغم أنه متزوج وله ولد أكبر منها: “…تنهد سفيان وقال متجهما ويتصنع ابتسامة:

محمد لا يزال صغيرا على الزواج، عمره ثلاثة وعشرون عاما، أريد عبير زوجة لي… فزوجتي لم تعد تصلح كزوجة، وربنا سبحانة وتعالى سمح للمسلم بالزواج من أربع نساء” ص94.

وتأكيد على أن المرأة في المجتمع الذكوري ما هي إلا سلعة، يتم مقايضتها بسلعة أخرى، تأتي “ميسون” لتطلب هذا الطلب: “…فنحن نريد بنتكم عبير لابننا منير، وسنرد لكم جزاءها ابنتنا عفاف لابنكم عزيز” ص126.

أمّا عن المرأة بعد الزواج، وبعد أن تجد زوجها غير سوي، ويعاني من أمراض نفسية، تتحدث “أمّ مهيب” عن هذا الأمّ بقولها: “وستستطيع ترويض مهيب، خصوصا وأنهما في غربة بعيدا عن تدخل الأهل والأقارب مما يجبرها على التعايش معه” ص244، فالمرأة بعد الزواج مطلوب منها أن تحتمل زوجها حتى لو كان الجحيم بعينه.

ونجد سلوك أبي مهيب غير الحضاري عندما يقوم بالتدخين في الغرفة رغم أن زوجة ابنه “عبير” حامل: ” رائحة الدخان يا عم تؤذيني ولا أستطيع احتمالها.

لا علاقة للسجائر بحالتك، وستعتادين عليها…ما رأيك أن تغلي لنا فنجان قوة” ص247.

بهذا الشكل يكون السارد قد كشف شيئا من جرائم المجتمع تجاه نفسه وتجاه النساء، وكيف أننا كمجتمع شرقي نعامل المرأة بطريقة غير إنسانية لا تتناسب والعصر الذي نعيشه، ولا تأخذ حالة الصراع مع المحتل بعين الاعتبار، فالمجتمع القوي يستطيع أن يقاوم، ولكن المجتمع الهش/الضعيف سيبقى غارقا في الطين، ولن تقوم له قائمة، وهذا دعوة غير مباشرة من السارد لمواجهة الاحتلال، من خلال بناء مجتمع سليم وقوي، حيث يمكن للشعب/للمجتمع أن يحرر نفسه من الاحتلال، إذا ما أصبح مجتمعا قويّا سليما لا يعاني من أمراض.

الاحتلال

من هنا كان الاحتلال حاضرا في الرواية في أكثر من مشهد، فعندما توفّي أبو عزيز/نعمان مع ابنيه في حادث سير في العراق، لم يسمح الاحتلال بإحضار الجثامين لتدفن في فلسطين: “لم نستطع يا ولدي، طلبنا مساعدة الصليب الأحمر في ذلك، لكن سلطات الاحتلال لم توافق، ولم يعد أمامنا خيارات أخرى سوى الدفن في “مقبرة سحاب” في الأردن ص37، ولم يقتصر الأمر على منع الدفن في فلسطين، بل هناك صورة المستوطنين وهم يعيثون فسادا في الأرض: ” …المتطرفون اليهود يقتحمون الأفصى تحت حراسة شرطة الاحتلال، المستوطنون يحرقون ويدمرون المزروعات، ويقطعون الأشجار المثمرة، يعتدون على المزارعين والأهالي تحت حماية الجيش” ص103، وكأن السارد بهذا الأحداث يريد من المتلقي أن يصل إلى خطورة الأمر، وعلى ضرورة الاستعجال في بناء المجتمع القوي، ومعالجة قضايا المرأة فيه بأسرع وقت ممكن. فالوضع لا يحتمل التأخير أو التأجيل.

الأمثال الشعبية والثقافة الدينية

هناك ما يقارب الخمسين مثلا في الرواية، وقد جاءت على لسان أغلب الشخصيات، فغالبية الشخصيات استخدمت الأمثال في حديثها أو استخدمت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، حتى أن “سفيان” الشخص المنحرف والذي يميل للنساء يستخدم آيات من القرآن الكريم، لتكون مساعدا له ومفسرا وموضحا في طلب الزواج من بنت أصغر من أبنائه، وهذا الأمر يستدعي التوقف عنده، فالسارد يريد القول من ذلك: أن مفاهيم وأفكار ومنطلقات الشخصيات/المجتمع مبنية على أسس شكلية ومتخلفة، بمعنى أنه يعرف فقط القشور، وأمّا الداخل/الجوهر فلا يعرف عنه شيئا، وهذا ما يجعل الرواية تمس كل شخصيات المجتمع.

وبما أننا نتحدث بأمثال بالية ـ لكننا نعتبرها حِكما ـ علما بأنها غارقة في الجهل والتخلف، ونأخذ الآيات القرآن والأحدايث النبوية بغير السياق الذي جاءت به أو أنزلت فيه، فإننا سنبقى أسرى لواقع بائس، لن نستطيع أن نخطو خطو واحدة في الاتجاه الصحيح، ما دامت هذه الثقافة الشعبية وهذه الطريقة من التفكير تسيطر علينا.

 

هفوات الرواية

هناك هفوتان في الرواية، وهما عندما تحدثت ميسون عن وفاة والدها لعبير: ” عندما استشهد والدي كنت في الخامسة عشرة من عمري، استشهد قبل أن أتعرف عليه” ص79، اعتقد أن سن الخامسة عشر كاف لجعل الإنسان يعرف الأشخاص الذين ينتمي إليهم.

كما أن هنا خطأ في ذكر اسم مصطفى الذي جاء في الصفحة 221 بعهذا الشكل: “سأتصل بزميلي صافي لأخبره بأننا لن نعود إلى الشقة” فالصحيح كان يفترض أن يكون “سأتصل بزميلي مصطفى”. ومع هذا تبقى رواية “اليتيمة” من الروايات التي يحتاجها المجتمع للتخلص من الأمراض والبثور التي علقت به، ويتقدم بصورة سليمة صحيحة قوية نحو المستقبل.