تكررت في السنوات الماضية الأخطاء التي وقعت بها المستشفيات الحكومية ، فيما يتعلق بضعف او فشل الأداء او بوقوع الحوادث كالحرائق او الفساد او غيرها من الظواهر السلبية التي باتت تلازم عمل وسمعة المستشفيات الحكومية ، وتعد الحرائق التي تعرضت لها مستشفيات اليرموك وابن الخطيب وجناح العزل في الناصرية الجزء الطافي فوق البحر لان ما خفي كان أعظم ، فقد حصلت العديد من الكوارث والإحداث التي لم تحظى برعاية واهتمام الإعلام ، وهناك الكثير من التحقيقات التي أجريت بعد وقوع الحوادث ولكن الحوادث تتكرر رغم شدة الإجراءات التي توصي بها اللجان والتي كان بعضها بتوجيه من مستويات رسمية وتمثل فيها العديد من الجهات ، وفي حادثة مستشفى الحسين التي حصلت قبل أيام تشكلت لجنة تحقيقية بقرار من مجلس الوزراء وقد أمهلها رئيس المجلس سبعة أيام لإظهار النتائج ، ولا نتوقع جديدا عن الموضوعات السابقة من حيث ثبوت القصور والتقصير والتوصية بمعاقبة فلان وفلان وإضافة بعض التحلية عما سبق بإحالة البعض للقضاء ودعوة المواطنين للتعاون للالتزام بالتعليمات ، ورغم إن من اصدق أمنياتنا أن لا تتكرر الحوادث في المستشفيات الحكومية إلا إننا نتوقع تكرار حدوثها هنا او هناك رغم صرامة القرارات التي ستتخذها لجنة مستشفى الحسين او غيرها من الجهات .
وان ما ذكرناه في أعلاه ليس من نظرة تشاؤمية ، وإنما من خلال تحليل معمق لبنونية المستشفيات الحكومية من حيث هيكليتها والفلسفة المتبعة في إدارة وتنظيم شؤونها الداخلية وتأثرها بالعوامل الخارجية ، ولتبسيط الموضوع على القراء فان مستشفياتنا الحكومية في وضعها الحالي لا تتبع منهجا واضحا ومناسبا في أداء وظائفها في التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة باعتبارها من وظائف الإدارات ، فالعرف السائد إن المستشفى هي عبارة عن كيان تنظيمي يتم إدارته من قبل مدير المستشفى الذي يتمتع بأغلب الصلاحيات وينشغل بكل الأمور ، ويتم اختيار المدير من قبل دائرة الصحة باختيارها او بضغوط من الآخرين ( وبعضها عانت الازدواجية من حيث الارتباط بالمحافظة والجهة القطاعية وهي وزارة الصحة فهناك دوائر ترتبط بالوزارة ودوائر أخرى ترتبط بالمحافظات بموجب القانون 21 لسنة 2008 الذي وسع صلاحيات المحافظات غير المرتبطة بإقليم ) ، وليس هناك أسس او معايير محددة لاختيار المدراء لان اختيارهم يتم بقرارات إدارية تتضمن تكليف احد الأطباء للقيام بهذه المهمة لاعتبارات تختلف من حالة لأخرى ، وهذا هو مكمن الخطأ إذ تسلم المستشفى كإمبراطورية إدارية لمدير يتحمل كل المسؤوليات وان كان لا يفقه بالإداريات ، فهو لم يدرسها في كلية الطب واغلبهم لم يجتازوا دورات واختبارات بهذا الموضوع ، واكثر ما يتم التعويل عليه هي مجموعة من المواقف والتقديرات والتوقعات التي قد تمتزج بالعاطفة وقد تكون بعيدة بمسافات عن أسس إدارة المستشفيات .
والحقيقة التي يجب أن يدركها من يعنيهم الأمر ومنهم متخذي القرارات بتعيين مدراء المستشفيات ، إن المستشفى ليست كأي دائرة أخرى كونها منظمة معقدة تتكون من شقين أساسيين ، أولهما طبي والآخر فندقي وأي مدير من الأطباء الذين يتم اختيارهم لإدارتها لا يمكن أن يلموا بالجوانب الفندقية لأنها خارج تخصصهم ورغباتهم ، فالمستشفى عبارة عن فندق كبير يضم مجموعة من الخدمات ( الاستعلامات ، الأمن والحراسة ، الإدارة بتفرعاتها ، التغذية والإعاشة ، الحسابات ، تنظيم الزيارات ، الإحصاء ، صيانة الأجهزة ، الأبنية ، المجاري والماء والكهرباء ، الوقود والطاقة ، الغازات الطبية ، غيرها من عشرات الفقرات ) ، وهذه الجوانب الفندقية يجب أن تسند إلى مدير مستشفى إداري ( معاون إداري ) وهي تكون أكثر من 70% من تفاصيل عمل المستشفى ، ويفضل أن يكون هذا المدير من المهندسين المؤهلين ولديه فريق من جماعة الإدارة والاقتصاد والقانون ، كما إن الجانب الطبي يتضمن مجموعة من الفقرات الطبية المتعلقة بفحص المريض ومعالجته إلى جانب خدمات فنية أخرى لا تتعلق بعمل أي طبيب ( الصيدلة والمستلزمات ، المختبر ، الفحوصات الإشعاعية ، الايكو والمفراس والرنين ، التمريض ، وغيرها حسب نوع واختصاص وسعة المستشفى ) التي تحتاج لمدير ( قسم ) فني ضالع في هذه الأمور ، وقد يكون من الصيادلة او من الأطباء المختصين بأغلب هذه الفقرات مع خبرة مناسبة في إدارة الخزين ، ولكي يؤدي المدير الطبيب دوره الطبي بشكل صحيح فلا بد من تقسيم المستشفى إلى مجموعة من الوحدات الطبية وحسب الاختصاصات وان يعمل في كل وحدة فريق عمل متكامل من ( الأطباء ، الصيدلة السريرية ، الممرضون ، المساعدون الطبيون ، موظفو الخدمات ) ، لأنه بهذه الطريقة سيرى المدير أعمال الجميع بوضوح كامل بما يتسنى له النظر إلى الجميع من الأول للأخير وليس النظر للأول فحسب ، ولتبسيط العمل على وفق هذا السياق فمن الممكن أن يكون هيكل المستشفى مكون من المدير والمعاون الإداري ومدير القسم الفني ومسئولي الوحدات ويجمعهم مجلس أدارة يضيفون أليهم ما يحتاجوه من الأفراد ، على أن يتم وصف الأعمال بشكل تفصيلي ودقيق لتحديد الاختصاصات والمهام والواجبات والمسؤوليات والصلاحيات بما يتيح تكامل الأعمال والأدوار ضمن هيكل تنظيمي تحدد فيه المستويات والاتصالات ونطاق الإشراف وغيرها من التفاصيل ، بما يوفر الوقت والفرص لمدير المستشفى لتطوير الجانب الطبي ويتيح الإمكانية للمعاون الإداري بانجاز ما عليه بكامل الصلاحيات ويجعل مدير القسم الفني يتابع الشؤون الفنية بما يناسب الاحتياجات .
وقد يعتقد البعض إن ما ذكرناه مثاليا ويصلح للدول المتقدمة ولا يمكن تطبيقه في العراق ، ولكننا نقول بأسف شديد إن هذا النموذج هو الذي تم تطبيقه في مستشفيات وزارة الصحة كافة خلال السنوات 1988- 1992 ، وثبت صلاحيته للتطبيق برضا أغلبية غير النفعيين ولكنه أهمل هو ومعه أكثر من 20 نظام للعمل الصحي فيما بعد بذريعة عدم ملائمتها لظرف الحصار الذي فرض على البلاد ( وتلك كانت وجهة نظر الإدارة التي تولت إدارة الوزارة في حينها فحسب ) ، ويشهد الكثير من العراقيين والى جانبهم المنظمات الصحية الإقليمية والدولية بان الوضع الصحي قد شهد تحسنا ملحوظا من حيث كمية وجودة وشمول الخدمات الصحية التي قدمت في البلاد في السنوات 1988 ، 1989 ، 1990 بفضل تلك الأنظمة التي طورت لتكون مناسبة إلى حد كبير لظرف البلاد ، ومن باب الحرص الوطني والمهني نقول لمن يعنيهم الأمر ، إن كل الحوادث التي حصلت في المستشفيات الحكومية
( البعيدة عن الدوافع الجرمية والسياسية ) تعود أسبابها إلى غياب التنظيم والتوصيف ووضع الشخص المناسب في المسؤولية المناسبة ، وهذا الغياب هو الذي يتسبب بالأخطاء التي ربما تشير لها التحقيقات ولكنها لا تشخصها كأسباب جوهرية بشكل دقيق ، ودليل ذلك إن المستشفيات الأهلية لا تحصل فيها الحوادث التي تحصل في المستشفيات الحكومية لا بسبب صغر حجمها وإنما للوضوح في تحديد المسؤوليات والصلاحيات من قبل المالكين بما يجعلهم يختارون أفضل الإدارات ، ونشير بهذا الخصوص إلى إن وزارة الصحة قامت بالتنسيق مع وزارة التعليم العالي لإعداد ملاكات متخصصة في إدارة المستشفيات منذ علم 1988 وقد تم فعلا استحداث دراسات عليا في إدارة المستشفيات في كلية الإدارة والاقتصاد بجامعة بغداد كما تم إحياء دراسة الدبلوم التقني في الإدارة الصحية في معاهد هيئة التعليم التقني ، وهي مستمرة بتخريج دفعات سنوية لحد اليوم ، ونعتقد بأنها بحاجة لمراجعة مناهجها لكي تتوافق مخرجاتها مع الحاجة الحقيقية للمؤسسات الصحية ، ولا نريد التمجيد بالنموذج الذي يؤكد على أهمية الفصل بين الجوانب الفندقية والطبية الذي من المفترض أن تكون أولياته محفوظة في دوائر وزارة الصحة ، ولكننا نعتقد بان الاستعانة برجال الإطفاء ليست هي الوسيلة المناسبة لإخماد الكوارث التي تشهدها المستشفيات الحكومية فبعد كل كارثة نفقد العشرات او المئات من أهلنا وذوينا ، فلا بد من إيجاد نظام صحي متكامل لعمل المستشفيات يحترم ويحافظ على المواطن بما يناسب قيمته العليا لأنه الإنسان ، ومن دون ذلك سيكون من المستحيل تفادي الكوارث وتحسين نوعية الخدمات المقدمة للمواطنين ، والتي تجعل الكثير من المرضى يلجئون للخارج لغرض الحصول على خدمات صحية تكلف البلد والاهل الأرواح والأموال .