23 نوفمبر، 2024 3:26 ص
Search
Close this search box.

التسامح في الخطاب الفكري العربي

التسامح في الخطاب الفكري العربي

نبدو نحن العرب ظاهرياً ضد التعصب او التشدد، لكننا نشجع العنف اكثر من الرفق. فالحقد ساكن ذهني في بيئتنا، يُنتج عقولاً غارقة في التحريض المذهبي والطائفي والتطرف…. نمارس سياسة تصفية الحسابات عن كل ماضينا، عن استعمارنا من قبل الاوربي، وعن احتلال بعضنا بعضا، وعن اضطهادنا واستضعافنا من قبل المستكبر، وكأننا امة لا حول لها ولا قوة الا جلد ذاتها والقاء اسباب شدتها وتشددها على الآخر المختلف.
فهل نحن امة نسامح ونتسامح؟
هل استفدنا من تجارب التاريخ التي بنيت على اسس التسامح في العالم؟
وهل استفدنا من قيم الحداثة والتنوير ومبادئ ديننا المبني على قيم الرحمن الرحيم. الرحمن بما يعنيه من سعة واحتواء، الرحيم بما تدل عليه الكلمة من غفران ورحمة؟ هل كنا اكثر تسامحاً قبل حروبنا وهزائمنا؟ ام ان خيباتنا الوطنية وتجاربنا القاسية انستنا فعل التسامح؟
لقد ظهر مفهوم التسامح من حاجة المجتمعات الغارقة في الحروب والاقتتال الاهلي، وهو اعطى تقدماً باهراً للمجتمعات والمؤسسات في الغرب، وحرر الانسان من قيود الخوف. لقد ارسى مفهوم التسامح قوانين اكثر انسانية، وفرضت على الدول انماطاً جديدة من التفكير واعمال العقل لاستنباط مخارج تجنب البشرية العنف والتعصب.
ليس المطلوب ان (نتعلمن) كي نصبح اكثر تسامحاً، فهذه الفضيلة موجودة في بنية ثقافتنا ذاتها، لكن حاجتنا تبدو اليوم اكثر الى التسامح في ظل تصاعد الاصوليات، واندلاع الصراعات… على خلفية عوامل ثقافية، واختلاف الهويات والمذاهب والاديان….
ما زال العالم بحاجة لتثبيت ايمانه اكثر بالتسامح الذي اصبح عبارة عن نسق كامل من الحقوق، ومن الواضح اننا لم نتعلم كثيراً من تجاربنا، وان المسيرة الى ما بعد التسامح حافلة بالعقبات، حيث تبقى الخيارات محدودة ليعيش الناس بسلام في غياب الحوار والتسامح.
لقد كان فعل (تسَامحَ) متداولاً منذ زمن طويل في معرض الحديث عن الحرية الدينية. والتسامح مفردة لاتينية الاصل بدأ التداول بها في القرن السادس عشر واستخدمها قدامى الادباء الكلاسيكيين. وهي تعبر عن معنى (القبول) او (التحمل) المتصل بحرية المعتقد. ان الاختلاف الذي يعتبره البعض مصدراً للخطر، يستطيع ان يكون بفضل الحوار مصدر فهم اعمق لسر الوجود الانساني(1).
 
* محددات المفهوم
عديدة هي المفاهيم المتداولة اليوم التي تحتاج الى تحديد دقيق لمعانيها ومدلولاتها… وذلك، لان استخدام هذه المفاهيم بلا ضبط المعنى الحقيقي لها يساهم في تشويه هذا المفهوم على مستوى المضمون، كما انه يجعله عرضة للتوظيف الايديولوجي المتعسف، لذلك فان تحديد معنى المفاهيم المتداولة يساهم في خلق الوعي الاجتماعي السليم بها. ومن هذه المفاهيم التي تحتاج الى تحديد معناها الدقيق وضبط مضمونها الفلسفي والاخلاقي والاجتماعي… مفهوم التسامح حيث ان هذا المفهوم متداول اليوم في كل البيئات الايديولوجية، ويتم التعامل مع هذا المفهوم ولوازمه الثقافية والسياسية باعتباره ثابتة من ثوابت المجتمعات المتقدمة… لذلك، وبعيداً عن المضاربات الفكرية والتوظيفات الايديولوجية المتعسفة، نحن بحاجة الى ضبط المعنى الجوهري لهذا المفهوم وتحديد مضمونه وجذوره الفلسفية والمعرفية وبيان موقعه في سلم القيم والمبادئ الاجتماعية(2).
تجمع قواميس اللغة ومعاجم الفلسفة والسياسة والتي تقدم مفهوم التسامح بمعناه الاخلاقي، على انه- موقف فكري وعملي قوامه تقبل المواقف الفكرية والعملية التي تصدر من الغير، سواء كانت مواقفه مخالفة للآخر، اي الاعتراف بالتعدد والاختلاف وتجنب اصدار احكام تقصي الاخر. بمعنى اخر، التسامح هو احترام الموقف المخالف(3).
ولانه مفهوم ملتبس- كما سيتضح- فقد اثار تداعيات مختلفة سواء على النطاق الفكري او على صعيد الواقع العلمي، خصوصاً ان الحديث عنه قد كثر في السنوات الاخيرة، كونه واحد من المفاهيم المستحدثة في اللغة العربية.
ولتحديد ووصف دلالة مفهوم التسامح، نشير الى ما يقابله في اللغة الانكليزية Toleration، وحين نتناول فعل التسامح لممارسته او تطبيقه فغالباً ما يتم استخدام Tolerance.
ويدرج قاموس اكسفورد، مفردتي Toleration و Tolerance، في معان متداخلة احياناً او مختلفة احياناً اخرى. اما بخصوص نظرية التسامح او عقيدة التسامح، فقد وجد الفرنسيون قديماً مقابلها Tolératisme(4).
ويرجع تاريخ التسامح الاصطلاحي في موطنه الاوروبي الى اكثر من ثلاثة قرون، لكنه لم يتخذ صيغته النهائية الا في افق فلسفة التنوير التي صاغها مفكرون من امثال جون لوك و فولتير وكانط وجان جاك روسو وغيرهم…
وظل المفهوم من حيث نشأته بوصفه مفهوما مقترنا بمحاولة تقريب المسافة بين المذاهب الدينية المتصارعة التي ترتب على تصارعها، والتصعب لكل منها، حروب دينية مدمرة، واشكال اضطهاد غير انسانية، ظلت تعانيها اوروبا لوقت طويل. ولذلك بقي مفهوم التسامح دائراً في الدائرة الدينية بالدرجة الاولى، مقترنا بالنزعة العقلانية التي سعت الى وضع الافكار والمعتقدات والمسلمات القديمة موضع المساءلة، وذلك في نوع من اعادة الاعتبار الى العقل ومنحه المكانة الاولى في المعرفة وصياغة القيم الفكرية على السواء(5).
وعندما انتقل المفهوم الى الثقافة العربية مع اواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ظل دائراً في الافق نفسه، وظلت الصراعات الطائفية التي ادت الى حروب اهلية، هي الاصل في نقل المفهوم والدافع التكويني الى صياغة او اعادة انتاجه عربياً(6).
ولم تستخدم الثقافة العربية كلمة التسامح التي نستخدمها في هذه السنوات مقابل كلمة التعصب وانما استخدمت كلمة التساهل مقابلا لمفردتي Toleration و Tolerance، اللتين لا فارق كبيراً بينهما، وتدلان في سياقهما الثقافي الذي ينقل عنه على الكيفية التي تعامل بها المرء مع كل ما لا يوافق عليه، فلا يعاديه لمجرد اختلافه وانما يتقبله بوصفه لازمة من لوازم الحرية التي يقوم بها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة، ولكن الترجمة السابقة المستخدمة الآن لم تستمر طويلاً، فقد اثر عليها اللاحقون ترجمة الاصل الاجنبي المتحد في الانكليزية والفرنسية وغيرهما من اللغات الاوروبية الحديثة بكلمة التسامح التي شاعت ترجمتها اليوم، واغلب الظن ان السبب في ذلك يرجع الى ان الجذر اللغوي للترجمة العربية (سمح) يقترب من الدلالة الاجنبية، ويرتبط بمعاني العطاء والرحابة والصفح ولين الجانب والتساهل على السواء(7).

* دلالة المفهوم وتاريخيته
تؤكد دلالات مفهوم التسامح الشائعة والمعاصرة معاني اوسع بكثير من المعنى الديني المحدد الذي ارتبطت به في اصل نشأتها. وكان ذلك في موازاة انتقالها من الافق الدلالي الديني الى الافق المدني وارتباطها في الافق الاخير بالعديد من الدوائر المتشابكة اجتماعياً وثقافياً وسياسياًوابداعياً… والنتيجة ان اصبحت دلالات التسامح قرينة حق المغايرة والاختلاف بوصفه حقاً اساسياً من حقوق الانسان، وحقيقة راسخة من حقائق الوجود في كل مجاليه… واصبحت دلالات التسامح اكثر اتساعاً في مجالات ممارساتها واكثر تنوعاً في توازي دلالاتها، خصوصا تلك التي تشير الى تقبل وجود الآخر المختلف ومجادلته بالتي هي احسن، والانطلاق في المجادلة من مبدأ المساواة الذي لا يرى (الآخر) ادنى او اقل، لانه (آخر) مختلف اومغاير.
استمر مفهوم التسامح فاعلاً في الحضارة الغربية التي لا يزال واحداً من مفاهيمها الثابتة ولكنه مر بمرحلتين في اتساع دائرته وتعدد دلالاته:
المرحلة الاولى- سلبية من وجهة نظر نقاده الذين سعوا الى ان يستبدلوا بالمفهوم آخر غيره.
المرحلة الثانية- مرتبطة باعادة النظر الى المفهوم وتوسيع حدوده الدلالية.
واول ما واجه المفهوم من انتقادات سلبية، انه مفهوم مرتبط بنزاع يهيمن فيه طرف اقوى على طرف اضعف، وذلك وضع يدفع الاضعف الى ان يطلب من الاقوى ان يسمح له بحق الوجود بما لا ينقض مكانه الاقوى او ينقله من حال التراتيب الى حال التكافوء. ودليل ذلك، ان المفهوم ظل وسيلة الاقلية الدينية او الطائفية في الدفاع عن وجودها الذي سعت الى اقرار شرعيته من الاغلبية او الطائفة الاقوى. ولذلك ظل المفهوم في اصل نشأته وتأصيله مبنياً على ثنائية الاقوى والاضعف او الاعلى والادنى… ولا تفارق ثنائية التراتب  ثنائية السعي من المقموع لدى القامع او الادنى لدى الاعلى.
لكن المفهوم تغيرت دلالته تغيراً تدريجياً وكان لابد ان يحدث ذلك مع شيوع الافكار الديمقراطية في موازاة شعارات الثورة الفرنسية التي رفعت ثالوث الحرية والمساواة والعدالة والتكافؤ… وكانت النتيجة ان تحولت ثنائية التراتب الى ثنائية التكافؤ في الصياغة التصورية للمفهوم واقترانه بعد توسيع دلالته واكتسابه دلالات جديدة باساسين لم يفارقهما الى اليوم:
الاساس الاول- معرفي لا يفارق الايمان بنسبة المعرفة والتسليم بأنه مامن احد او فئة يمكن ان يحتكر المعرفة او يتوهم كحال المعرفة بالقياس الى غيره كأنه هو وحده قادر على القول الفصل الذي لا يأتيه الباحث من أي جهة او مكان، ويعني ذلك شيئاً اقرب الى ما كان يذهب اليه ديكارت من ان العقل اعدل الاشياء توزعاً بين الناس، كما ان المعرفة شركة بينهم ولا تتقدم الا بجهودهم جميعاً دون تمييز الا على اساس من درجة رغبة المعرفة وشغف تطويرها. ونسبية المعرفة هي الوجه الآخر من الصفات الملازمة للبشر الذين ينتجونها حتى في مدى المعرفة الدينية التي لا توجد مستقلة عن عقول البشر الذين يتلقونها فهماً  وتفسيراً وتأويلاً، ولا يفارق كلا الامرين احترام العقل الذي لا يعرف لنفسه حداً او حقيقة نهائية في اكتشاف العالم وذلك جنباً الى جنب احترام العلم الذي لا يكلف عن التقدم بتضافر جهود البشر فيه، وذلك في مدى جهد الاضافة اليه.
الاساس الثاني- سياسي اجتماعي تتقوم به معاني الحرية والمساواة في الدولة المدنية الحديثة، فهو اساس لا يفارق شروط ما يترتب على المواطنة في الدولة الحديثة سواء من حيث هي تعاقد يقوم على احترام حرية الفرد في ممارسة حقوقه الطبيعية والمدنية، وحقه في التعبير عن نفسه وعن افكاره في كل مستوياتها الاعتقادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والمسافة بين احترام الحرية وحق المخالفة مسافة جد واهية، تدني بطرفيها الى حال من الاعتقاد خصوصاً في تأكيدها التسامح في علاقة الفرد بفكر غيره وابداعه او علاقة الدولة بالفرد، فكراً وابداعاً، فضلاً عن علاقة المؤسسة الدينية بالفرد في داخل الدولة المدنية. واذا لم يكن للمخالفة او المغايرة او المباينة معنى مع غياب التسامح فلا معنى لمبادئ الحرية او المساواة او التكافؤ في غياب معنى المواطنة الذي يكفل للفرد حقوقه في الدولة بلا تمييز بينه وغيره على اساس من الدين او الجنس او العرق او اللون او حتى الثروة.
كان العديد من مفكري التنوير العربي قد فهموا الكثير من الابعاد الايجابية للمفهوم، فأكدوا ضرورة الدولة المدنية بوصفها الفضاء الذي يعيش فيه التسامح ويتزايد، بل يجد من يصونه ويرعاه ويحميه داخل منظومة حقوق الانسان المعترف بها في الدولة المدنية. وترتبط بهذا التأكيد فكرتان متلازمتان في تفكيرهم:
اولاهما- انه لا وجود للتسامح الا مع تقبل مبدأ الحرية وممارسته في كل مجالاتها وفي كل مستوياتها ومعانيها.
ثانيهما- الايمان الامحدود بقدرة العقل على الوصول الى المعرفة بذاته وقدرته النهائية على تطورها الى مدى لايحده حد.
والايمان بالعقل يعني الايمان بالعلم الذي يتبادل معه الوضع والمكانة فيغدو كلاهما وسيلة لقرينة ودعماً له في صعود سلم التقدم الذي لا نهاية له او حاجز، اعني التقدم الذي لا يمكن ان يتحقق الا بالخطوة الاولى التي تقترن فيها استنارة المجتمع بانوار العقل التي تقتضي على ظلمات الجهل، ويناقض فيها التسامح التعصب الى ان يقضي عليه فيحل الانفتاح محل الانغلاق، وقبول الاختلاف محل رفضه، وتستبدل الثقافة العلم بالخرافة، والعقل بالنقل، ومن ثم التقدم بالتخلف.
 هكذا تباعد مفهوم التسامح عن الدائرة الدلالية التي تقترن بالتراتب وتمركز في الدائرة الدلالية المحيطة بمركز المساواة والتكافؤ، واصبح التسامح قرين التقبل الايجابي للاختلاف. والايمان بالحضور الطبيعي للمغايرة على مستوى الفرد والجماعة والمجتمعات على السواء. ويعني ذلك مجادلة الآخر بالحسنى في مدى الاختلاف الفردي دون تخل عن الايمان بالمساواة والتكافؤ، وانه ما من طرف على خطأ مطلق او على حق مطلق، كما يعني محاورة افراد الجماعة بعضهم بعضاً دون تعال من فئة او تمييز ضد اخرى على اي اساس او من اي منطلق. ويعني اخيراً الحوار الخلاق بين الثقافات والحضارات من المنظور الانساني القائم على ثراء التنوع البشري المقترن بالتعددية والمغايرة والاختلاف، وذلك من منظور يرد مستقبل البشرية الى الاعتماد المتبادل بين دولهما، خصوصا في المشكلات التي لا يمكن ان تنهض بها دولة واحدة مهما بلغت قوتها، او ثراؤها، واضف الى ذلك منظور احلال الحوار محل الصراع، والتعاون محل الانانية، وحوار الحضارات والمجتمعات محل تسامحها، بلا فارق في مدى القضاء على التعصب والاستغلال والتمييز، فذلك وحده هو السبيل الى مستقبل افضل للبشرية(8).
* فكرة التسامح
ان فكرة التسامح، تعني القدرة على تحمل الرأي الاخر، والصبر على اشياء لا يحبها الانسان ولا يرغب فيها بل يعدها احيانا مناقضة لمنظومتة الفكرية والاخلاقية، وذلك ان قبول مبدأ التسامح وفكرة التعايش يعني تجاوز سبل الانقسام الذي يقوم على اساس الدم او الرابطة القومية او الدين او الطائفة او العشيرة او غيرها من الناحيتين النظرية والاخلاقية على اقل تقدير.
ومبدأ التسامح يعني التعايش على نحو مختلف، سواء بممارسة حق التعبير عن الرأي او حق الاعتقاد او حق التنظيم او الحق في المشاركة السياسية… وهي المحور في فكرة حقوق الانسان التي تطورت منذ الثورة الفرنسية عام 1789م، وقبلها الدستور الامريكي عام 1776، وذلك بتأكيد حق كل فرد بان لا يكون هناك قيد حريته اذا احترم حريات الآخرين وحقوقهم ولم يعتد عليها.
ان قبول التعايش والتسامح يعني الموافقة على ما هو مشترك حتى وان كان في نظر الآخر غير اخلاقي او ربما اقرب الى فكر الشر ان لم يكن شراً بالفعل. وبهذا المعنى فان مبدأ التسامح هو فكرة اخلاقية ذات بعد سياسي وفكري ازاء المعتقدات والافعال والممارسات، ونقيض فكرة التسامح هو اللاتسامح، اي التعصب والعنف ومحاولة فرض الرأي ولو بالقوة(9).
وبما ان الحاجة تدعو اليوم لمواجهة ما يتصف به عصرنا من مواقف وسلوكيات تميل الى التطرف وتمارس العنف- كما فترات عديدة من التاريخ البشري- الى بعث الحياة في القيم الانسانية السامية واخصابها ونشرها، فقد يكون من المناسب التدقيق في مفهوم التسامح الذي ينتمي اصلاً الى سجل الفضائل ومكارم الاخلاق التي تمتدح في سلوك الشخص وينصح بالتحلي بها، وذلك بطرح العلاقة بين التسامح وكل من الدين والايديولوجيا والسياسة والفلسفة.

* التسامح في الخطاب الديني
ان الحاجة الى التسامح، بمعنى عدم الغلو في الدين الواحد وسلوك سبيل اليسر، سبيل (التي هي احسن) من جهة واحترام حق الاقليات الدينية في ممارسة عقائدها وشعائر دينها دون تضييق او ضغط من جهة اخرى، حاجة تفرض نفسها بحكم تعدد الممارسات الدينية داخل الدين الواحد وتعدد الاديان داخل المجتمع الواحد، هذا التعدد الذي هو ظاهرة انسانية حضارية لا يمكن تجاوزها ولا القفز عليها، وبالتالي فالتسامح هنا يعني التخفيف الى اقصى حد ممكن من الهيمنة المقصودة او غير المقصودة التي يمارسها مذهب الاغلبية داخل الدين الواحد، ودين الاكثرية داخل المجتمع الواحد.
هناك بطبيعة الحال ما يوصف بالاصولية ونحن نفضل استعمال مفردة التطرف، ونقصد به التطرف في الدين او باسمه او ضده اياً كان الدين، وما دمنا بصدد التدقيق في المفردات والمفاهيم، فقد ينبغي التنبيه هنا الى ان الاصولية ليست مرادفة للتطرف، يكون المرء اصولياً ولا يكون متطرفاً يستعمل العنف لفرض قناعاته. على ان مفهوم الاصولية لا يعني الشيء نفسه في جميع الثقافات، فالاصول في الاصطلاح الاسلامي هو العالم المتخصص في اصول الفقه. واصول الفقه كما يعرّفه الاصوليون انفسهم هي القواعد التي يتوسل بها الى استنباط الاحكام الشرعية من الادلة، فهو اذن علم منهجي ينظم الاجتهاد، اي يضع القواعد لانتاج التعدد والاختلاف في الفقه.
اما الثقافة الفرنسية، فهي لم تعرف هذا المفهوم الا مؤخراً (الاصولية- Intérisme) وقد انتقل اليها من الانكليزية (Fundamentalism) حيث تعني المفردة –النزعة التي تدعو الى التطبيق الحرفي للدين، وهناك حركات دينية متطرفة في انحاء مختلفة من العالم ولكنها لا توصف جميعها بالاصولية.
ومهما يكن، فالتطرف في الدين سواء عبرنا عنه بالاصولية او بلفظ آخر، هو نقيض التسامح، على انه ليس التطرف الديني هو وحده الذي يعاني منه العالم اليوم رغم انه يعم فعلاً مختلف بلدان العالم.
ان العالم يشهد اليوم تيارات وحركات وتوجهات متطرفة ليست دينية بل منها ما هو لا ديني بالمرة، تيارات متطرفة تهدد في عالم اليوم امن الانسان وسلامته واطمئنانه على مصيره وبالتالي تعتدي على حقوقه، حقه في الوجود، وحقه في امتلاك خصوصيته خاصة به، وحقه في اختيار طريق مستقبله، مثل التطهير العرقي الذي مورس في البوسنة والهرسك جهاراً ويمارس سراً في انحاء عديدة من بلدان العالم(10)..
* التسامح في الخطاب الفلسفي
الواقع ان مفهوم التسامح غائب في الخطاب الفلسفي عموماً سواء تعلق الامر بالفلسفة العربية او الفلسفة اليونانية او بالفلسفة الاوروبية الحديثة والمعاصرة- باستثناء خطاب سياسي لاهوتي انتجه بعض فلاسفة القرن السابع عشر في ظروف معينة- ان تاريخ الفلسفة شهد مذاهب كثيرة ومتنوعة في الاخلاق. وهناك من الفلاسفة من ركزوا جهدهم الفلسفي او قصروه حصراً على ميدان الاخلاق، ومع ذلك فنحن لا نجد في قاموس مصطلحاتهم مفهوم التسامح الانادراً وبصورة عرضية في الغالب.
ان سجل القيم الاخلاقية التي حللها الفلاسفة والتي تتسلسل من الخير والحق والواجب والفضيلة والعدالة، الى الرحمة والشفقة والاحسان والايثار، نادراً ما نعثر فيه على مفهوم التسامح كقيمة اخلاقية فلسفية، واذا غاب المفهوم فمن الطبيعي ان تغيب الفلسفة التي تؤسس نفسها عليه(11).
ان السبب- في هذا الغياب- هو ان التسامح ليس مفهوماً اصيلاً في الفلسفة، بل هو يقع بين الفلسفة والايديولوجيا. الدليل على ذلك هو ان هذه المفردة لم تدخل الفلسفة من باب الفلسفة نفسها بل من باب الفكر الذي يعبر عن الصراع الاجتماعي او يحاول التخفيف منه، وبعبارة اخرى، باب الايديولوجيا. ولذلك، بقي مفهوم التسامح موضوع تشكيك واعتراض ولم يقبل في رحاب الفلسفة الا بامتعاض ومع كثير من التسامح والتساهل(12).

* التسامح في الخطاب السياسي/ الايديولوجي
التسامح في هذا المجال، فعلى الرغم من الاصوات التي ترتفع هنا وهناك لتعلن نهاية الايديولوجيا ونهاية التاريخ… الخ، فان الواقع يكشف يوماً بعد يوم عن الطابع الايديولوجي لهذه الاصوات من خلال ما ينشر به من اراء ونظريات تكرس ما اصبح يوصف اليوم بـ (الفكر الاحادي) او (الوحيد) الحامل للواء العولمة على الصعيد الاقتصادي والهادف الى فرض هيمنة فكرية ايديولوجية على العالم كله، اضف الى ذلك التبشير بما يسمى (صراع الحضارات) وهي دعوى ترمي صراحة الى تعبئة الغرب كحضارة لا بل كمصالح ضد حضارات اخرى، وفي مقدمتها الحضارة الصينية والحضارة العربية الاسلامية(13).
اما في ميدان السياسة فلا بد اولاً وقبل كل شيء من ارضية ديمقراطية صلبة قوامها احترام الحق في الاختلاف والحق في التعبير الديمقراطي الحر.
ويأتي التسامح بعد ذلك ليعني تمكين الاقلية السياسية او الدينية او الاثنية من الحضور في المؤسسات الديمقراطية لا بناءاً على قوتها التعددية وحسب بل بناءاً ايضاً وبالخصوص على حقها في ان تكون ممثلة تمثيلاً يمكنها من اسماع صوتها وممارسة حقها المشروع في الدفاع عن مصالحها(14).

* التسامح اسلامياً
لم يرد ذكر التسامح لفظاً في القرآن الكريم، لكن الشريعة الاسلامية ذهبت الى ما يفيد معناه. وقد جاء بما يقاربه او يدل على معناه حين تمت الدعوة الى التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف، وكلها من صفات التسامح مؤكدة حق الاختلاف بين البشر، و (الاختلاف آيات بينات)، وان كان لا يلغي الائتلاف.
ان كتب اللغة ومعاجمها المعتبرة التي استعان بها الكثير من مفسري القرآن، تضع مفردة التساهل مرادفاً لمفردة التسامح، ويشير ابن منظور في لسان العرب الى التسامح والتساهل باعتبارهما مترادفين. ويعرف الحنيفية السمحة بـ “ليس فيها ضيق او شدة”(15).
ويقول الفيروز ابادي في القاموس المحيط: المساهلة كالمسامحة، وتسامحو- تساهلو، وتساهلوا- تسامح، وساهلة- ياسره(16).
ولهذا، فان الاصل في الاسلام هو التسامح، وقد كان رسالة عالمية منفتحة “وما ارسلناك الا رحمة للعالمين” مما يدل على السلم والمسالمة والصلح والرحمة.
وبالعودة الى القرآن الكريم الذي يشكل المرجعية الاساسية للشريعة الاسلامية، اضافة الى السنة النبوية، فان متابعة بعض آيات القرآن تعطينا صورة مشرقة ومتقدمة لجهة التسامح الذي اعتمد عليه الاسلام من خلال وثيقته الاولى. فقد جاء في الآية الكريمة “واختلاف السنتكم والوانكم، ان في ذلك لآيات العالمين”.
وأكد القرآن الكريم في آيات كثيرة اختلاف الشعوب والقبائل “ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”، “فذكر انما انت مذكر، الست عليهم بمسيطر”، “انا انزلنا عليك الكتاب للناس بالحق، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فانما يضل عليها، وما انت عليهم بوكيل”، “وما على الرسول الا البلاغ المبين”.
ان هذه المنطلقات الفكرية التي وردت في القرآن الكريم اعطت زاداً فكرياً ونظرياً لممارسات اسلامية متقدمة خصوصاً في عهد الرسول والخلفاء الراشدين من بعد لدرجة كبيرة، بشأن اعتماد التسامح خصوصاً وقد وردت تطبيقاته في العديد من الوثائق النظرية والاتفاقيات والمواثيق السياسية. كما انها شكلت نقيضاً لممارسات اخرى لا تتسم بالتسامح باعتبارها خروجاً وتعارضاً مع هذه النصوص المقدسة خصوصاً القرآن الكريم والسنة المحمدية بعد الكتاب.
وهناك وثائق اخرى تشكل بمجموعها مرجعية صلدة لمناقشة الاتجاهات اللامتسامحة الاسلاموية، تلك التي لا تعترف بالآخر وتسعى الى استئصاله او الغائه وتهميشه(17). حيث ان الاتجاهات الاسلاموية لا تختلف احياناً في بعض ممارساتها عن السلطات الحاكمة في نهجها الشمولي واساليبها الاقصائية في رفض الآخر وعدم الاعتراف بحق الاختلاف، ورفض فكرة التسامح بادعاء امتلاك الحقيقة، وبهذا المعنى فهي وان كانت احياناً في صف المعارضات الا انها تنتهج نهج او تسلك سلوك مع بعض الحكومات الاستبدادية او السلطوية(18).

* التسامح مسيحياً
ظهرت مفردة تسامح Tolérance اول ما ظهرت في كتابات الفلاسفة وعلى حواشي الفلسفة في القرن السابع عشر الميلادي زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية، حينما نادى اولئك بحرية الاعتقاد وطالبوا الكنيسة البابوية بالتوقف عن التدخل في العلاقة بين الله والانسان. ومعلوم ان الكنيسة الكاثوليكية هي التي تجدد(قانون الايمان) وتمنح صكوك الغفران وتحتكر السلطة الروحية، وكانت فضلاً عن ذلك تنازع الدولة وسلطتها الزمنية وتريد جعلها تابعة لها. وكرد فعل على الاجماع الذي ارادت الكنيسة الكاثوليكية تكريسه حولها، دينياً وسياسياً بالوعد والوعيد حيناً وبالقوة والعنف حيناً آخر، قام المذهب البروتستانتي ضد الكثلكة وسعيها نحو الهيمنة الدينية والسياسية واخذ يطالب بحق الاجتهاد وبضرورة اتخاذ العقل ميزاناً وحكماً… وايضاً بضرورة التسامح مع المخالفين الشيء الذي يعني السماح لهم بحق الوجود وحق التعبير عن مذهبهم والقيام بالشعائر الدينية على الطريقة التي يعتقدون انها الاصلح، وذلك هو نفس المبدأ الذي تمسك به فلاسفة التنوير في اوروبا بمختلف ميولهم الدينية والفلسفية، واعطوه طابع الشمول، متى نادى بعضهم بحق الخطأ، اي بضرورة السماح للخطأ بالوجود من غير ان يتعرض لهجوم سوى الهجوم الذي يشنه عليه العقل.
ومع ذلك، فقد برهن تطور الامور ان المنادين بالتسامح وحتى الذين اعلنوا تمسكه به بقوة لم يكونوا مستعدين دائماً للسير بهذا المبدأ الى ابعد مما يتحمله المذهب الذي يدينون به وتقتضيه مصلحة الدولة التي ينتمون اليها ويرضون عنها. ولذلك نجد دعاة التسامح من البروتستانت انفسهم شأنهم شأن كثير من فلاسفة التنوير يضعون حدوداً لحرية الاعتقاد خصوصاً اذا كان المذهب الذي يعتقده الخصم مخالفاً لمذهب الدولة القومية التي ينتمون اليها ويعملون على خدمتها وتقويتها، وبعبارة اخرى اذا كان تابعاً لمؤسسة اجنبية، والمقصود هنا الكنيسة الكاثوليكية ومقرها روما. ومن هنا اخذ التشريع للتسامح يخضع للمصلحة القومية في وقت كانت فيه النزعة القومية في اوروبا الحديثة في عنفوانها. ولذلك اعتبرت ان الكاثوليك في هذه الحالة غير جديرين بالتسامح لانهم يدينون بالولاء الى سيد اجنبي والمقصود البابا في روما(19).

* سؤال التسامح
السؤال الذي يفرض نفسه في –هل يتسع مفهوم التسامح لكل المعاني الضرورية لمعالجة قضايا كبيرة وخطيرة تفرض نفسها تتجسد في:
1- التطرف والغلو في الدين او باسمه او ضده.
2- التطهير العرقي الذي يمارس جهاراً في عدد من بلدان العالم.
3- الفكر الاحادي الذي يريد فرض واقع اقتصادي فكري ايديولوجي على العالم كله.
4- ما يسمى بصراع الحضارات، وهي نظرية تستهدف تطويق امم وشعوب بعينها.
         ان جوابنا على ما تقدم سيكون بالنفي اذا نحن تركنا هذا المفهوم كما هو عليه. اما اذا اردنا اعطاءه معنى عاماً شمولياً يرتفع به الى مستوى المفاهيم الفلسفية، المستوى الذي يجعله قادراً على اداء الوظيفة التي تطلب منه اليوم، وظيفة اخراج التطرف مهما كان نوعه وفضح وسائل الهيمنة واساليب اخفاء صراع المصالح، فان ذلك قد لا يتأتى الا اذا نحن حملناه ذلك المعنى القوي الذي عبر به ابن رشد عن ضرورة احترام الحق في الاختلاف والذي صاغه في العبارة الجامعة “من العدل ان يأتي الرجل من الحجيج لخصومه بمثل ما يأتي فيه لنفسه” سواء تعلق الامر بالحجاج الكلامي او بالاختلاف العقدي او بالتنافس على المصالح. واذا كان العدل بمعناه العام يقتضي المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، فان معنى العدل هنا يجب ان ينصرف بالدرجة الاولى الى مساواة الانسان غيره بنفسه. ان يعطي لغيره من الحق ما يعطيه لنفسه ثم يطالبه بعد ذلك بما عليه. وقد عبر المعتزلة الذين اطلقوا على انفسهم (اهل العدل) عن هذا المعنى حينما عرفوا العدل بقولهم ” توفير حق الغير واستبقاء الحق منه”. ولكي يغدو التسامح قيمة يدخل العدل في مضمونها وتزيد عليه يجب اعطاء الاولوية لتوفير حق الغير. ان العدل يقتضي المساواة، اما اعطاء الاولوية للغير داخل المساواة، فذاك هو التسامح.
       ان التسامح حين يقرن بالعدل بهذا المعنى يبتعد عن ان يكون معناه التساهل مع الغير او الترخيص له بكذا او كذا، الشيء الذي يضع المسامح في وضعية اعلى من المسامح له، بل التسامح هنا يعني الارتفاع بهذه العلاقة الى مستوى الايثار(20).
      اذا التسامح بهذا النوع من التأسيس، فانه سيغدو في الامكان توظيفه في القضايا الاربع الكبرى التي اشرنا اليها والتي تتحدى العقل والفلسفة في عصرنا. ان الانطلاق من (توفير حق الغير) يضع في قفص الاتهام وفي آن واحد كلاً من التطرف الديني والتطهير العرقي، كما انه يحرج التفكير الاحادي الذي يلغي الحق في الاختلاف ويفصح مقولة (صراع الحضارات) التي تريد اخفاء الصراع حول المصالح ويطرح بديلاً عنها الدعوة الى توازن المصالح.
     لقد وقع فلاسفة التنوير في اوروبا او بعضهم على الاقل في تناقض صارخ حينما رفعوا شعار التسامح لتجاوز الخلافات الدينية وعدلوا عنه الى نوع من اللاتسامح صريح عندما تعلق الامر بالقضايا السياسية والوطنية. وهكذا تسامح كثير منهم مع الاستعمار حينما اعتبروه وسيلة ضرورية لتمدين الشعوب غير المتحضرة كما غضوا الطرف عن النزاعات العرقية وربما كان منهم من كان يعتقد في تفاوت الاعراق وافضلية بعضها على بعض…..
    وسنرتكب خطأ مماثلاً اذا نحن فعلنا مثلما فعلوا ورفعنا شعار التسامح ضد الاصولية الاسلامية وحدها ساكتين عن النزاعات الدينية في بلدان اخرى بامريكا واوروبا وعن المواقف الفكرية والسلوكية التي تحركها المصالح السياسية والاقتصادية ويغذيها التعصب العرقي.
     ان عالمنا يفتقر الى العدل الى الاعتراف بالآخر وبحقه في امتلاك خصوصية خاصة به وفي تقرير مصيره سواء كان هذا الآخر فرداً او اقلية دينية او عرقية او كان شعوباً وامماً مبني اصلاً على الظلم على اللاتسامح وبالتالي فلا معنى لرفع شعار التسامح ضده الا مقروناً بالعدل الذي ينطلق كما قلنا من توفير حق الغير(21).
     ان التسامح يفترض فيه ان يكون علاقة بين طرفين، مسِامح ومسامَح معه، والذي يضبط هذه العلاقة هو ميزان القوى لا غيره. ففي البلدان التي كان يستحيل فيها على دين معين قمع الديانات الاخرى، قام ما اسمته عجرفة الديانات المهيمنة بالتسامح، اي رخصة يعطيها اناس لأناس آخرين تمكنهم من الاعتقاد فيما يقبله عقلهم، والعمل بما تمليه عليهم ضمائرهم.
       اذن، فمفردة تسامح لا تعبر ابداً عن الاحترام الذي يجب ان يشمل الاراء التي لا تتفق معه، ذلك لاننا نتسامح مع ما لا نقدر على منعه، والذي يتسامح ما دام ضعيفاً يحتمل جداً ان ينقلب الى لا تسامح عندما يزداد قوة.
     ان احترام حرية التدين قد عبر عنه تعبيراً سيئاً جداً بكلمة تسامح، ذلك لأن الامر يتعلق بالزام يقرره العدل وبواجب لا يحتمل التساهل. ان التسامح يقتضي لا ان يتخلى المرء عن قناعاته ولا ان يكف عن اظهارها والدفاع عنها والدعوة لها، بل انما يعني الامتناع عن استعمال اية وسيلة من وسائل العنف والتجريح والتدليس، وبكلمة واحدة: احترام الاراء وليس فرضها. وليس من السهل الاختيار بين الرأيين، ذلك لأن هذه الشكوك والتحفظات قد اثيرت في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين(22).
      ان مبدأ التسامح يتخذ منابع متعددة دينية وسياسية وقانونية وعرقية واخلاقية واجتماعية وفكرية وفلسفية، لكنه يواجه عقبات اللاتسامح بسبب التعصب الذي يتخذ احياناً شكل حروب او عدوان او اعمال ابادة او انتقام او تحريم اراء وتجريم وجهات نظر او تكفير فكر، بل انه يمتد الى الحياة الشخصية ليقف حائلاً امام الشريك والزوج والاهل.
     هل اعدنا النظر؟ وهل احكمنا العقل؟
        اذا كان دعاة التسامح قليلين او هكذا توحي عوامل الكبح، لانه الطريق الاصعب خصوصاً في ظل سيادة نمط الواحدية والاطلاقية وادعاء امتلاك الحقيقة، لكن الامر يتطلب ايضاً رياضة نفسية وروحية كمعيار اخلاقي مثلما يتطلب قوانين ومؤسسات ضامنة وراعية.
        ان استلهام النماذج المتقدمة على المستوى الروحي والاخلاقي، وكذلك الضرورات العملية، تجعل فريق اللاتسامح ينحسر تدريجياً خصوصاً من خلال التطور والتراكم. وهكذا يمكننا ان نردد- فلا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه.
     
* الهـوامـش
1- ثناء عطوان- التسامح والتاريخ، مجلة دبي الثقافية (دبي)، العدد 62 (يوليو/ 2010) ص103.
2- محمد محفوظ- في معنى التسامح، التسامح وافاق السلم الاصلي، بحث ضمن كتاب التسامح وجذور اللاتسامح، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ط1/ 2005، ص 183.
3- محمد عابد الجابري- قضايا في الفكر المعاصر، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ص20.
4- عبد الحسين شعبان- فقه التسامح في الفكر العربي الاسلامي، ط1، دار النهار للنشر، بيروت، 2005، ص55.
5- جابر عصفور- عن التسامح، مجلة دبي الثقافية (دبي)، العدد 25 (يوليو/ 2007).
6- المصدر نفسه.
7- المصدر نفسه.
8- جابر عصفور- اتساع مفهوم التسامح، مجلة دبي الثقافية (دبي)، العدد 26 (يوليو/ 2007).
9- عبد الحسين شعبان- مصدر سبق ذكره، ص 62 و 63.
10- محمد عابد الجابري- مصدر سبق ذكره، ص 29 و 30.
11- المصدر نفسه، ص 25.
12- المصدر نفسه، ص 25.
13- المصدر نفسه، ص30.
14- المصدر نفسه، ص 19.
15- ابن منظور، لسان العرب، ط6، ص 354 و 356.
16- الفيروزابادي- القاموس المحيط، ط1، ص 46.
17- عبد الحسين شعبان، مصدر سبق ذكره، ص 90.
18- المصدر نفسه، ص93.
19- محد عابد الجابري، مصدر سبق ذكره، ص 25 و 26.
20- المصدر نفسه، ص 31.
21- المصدر نفسه، ص 32.
22- المصدر نفسه، ص 28.
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات