قصص صحفية عديدة مثيرة تابعتها الأيام الماضية حول “خلافات” و”توترات” و”أزمة صامتة” تخيم على فضاء العلاقات الاماراتية السعودية، وهي قصص يصعب على أي مراقب للشأن الخليجي تجاهلها حتى وإن كانت غير دقيقة ولا تعبر عن الواقع الفعلي لعلاقات البلدين الشقيقين، خصوصاً أن هذه التقارير تثير نقاطاً عدة للنقاش في مقدمتها مساحات التطابق والاختلاف في وجهات نظر الدول مهما كانت مستويات تقاربها الاستراتيجي، فالعلاقات الدولية المعاصرة لم تعد تحتمل العبارة التقليدية المكررة التي طالما تزينّت بها البيانات الرسمية الصادرة عن أي اجتماعات تعقد على مستويات رفيعة بين الدول العربية أو الخليجية، وهي العبارة التي تؤكد على “التطابق التام في وجهات نظر البلدين”؛ فالحقيقة أن هذا التطابق المزعوم لم يعد قائماً بحكم تعقد وتشابك وتداخل المصالح الاستراتيجية للدول، وبما يجعل من فكرة التماهي التام بين هذه المصالح مجرد فكرة عبثية لا اعتقد أنها قابلة للتحقق، بل لا اعتقد كذلك أنها كانت محققة في الماضي من الأساس، أو على الأقل بدرجة مائة بالمائة وفقاً لما توحي به كلمة “التام” من معان!
هناك تجارب ثرية للدبلوماسيتين الاماراتية والسعودية تعكس تخلصهما من بعض موروثات الماضي وتعاملاهما مع الحقائق والواقع بشكل أكثر شفافية ومكاشفة ليس فقط لأنه بات من الصعب اخفاء الحقائق وابقاء أي خلافات مهما كانت صغيرة وراء الكواليس، ولكن لأن الدبلوماسية باتت تعمل وفق آليات تناسب عصرها، ولا ترى في الحديث عن تباينات أو حتى خلافات في وجهات النظر مسألة كارثية تقلل من قوة ومتانة العلاقات الثنائية بين أي دولتين، لاسيما إذا كانت هذه العلاقات تتكىء على روابط وركائز ومصالح واتفاقات شراكة استراتيجية مدروسة تفوق في قوتها بمراحل أي أثر محتمل لخلاف عابر في وجهات النظر حول هذه أو تلك من القضايا والموضوعات المشتركة.
بالطبع، لا اقصد بهذه المقدمة الاقرار بوجود أي خلاف في العلاقات الاماراتية السعودية، سواء لأن موقعي كمراقب لا يسمح لي بتأكيد أو نفي مثل هذه التكهنات والتقارير، بالاضافة إلى أن التركيز على التقارير القائلة بوجود مثل هذا الخلاف من جانب وسائل اعلام معينة ومعروفة الاتجاهات والتوجهات بما يكشف عن محاولات حثيثة للنفخ في نار الوقيعة والسعي لإشعال فتنة بين دولتين شقيقتين طالما كان التحالف بينهما طوق انقاذ لأزمات منطقتنا العربية في السنوات الأخيرة، وفي عالم السياسة يدرك الجميع أن تفكيك التحالفات بين “الاطفائيين” في منطقة ما تعاني انتشاراً لنيران الأزمات هو أحد أهداف مشعلي الحرائق وناشري الفتن.
وإذا كانت بعض وسائل الاعلام قد ذهبت إلى حد الزعم بوجود تباعد في المصالح الاستراتيجية بين دولة الامارات والمملكة العربية السعودية الشقيقة، على خلفية تباين وجهات النظر حول قضايا وملفات مثل انتاج النفط واليمن والتطبيع مع اسرائيل وحتى طريقة التعامل مع جائحة “كورونا”، فإن النظر بموضوعية إلى مايحدث لا يدع مجالاً للتفسير والتحليل لأنه ـ على سبيل المثال ـ مسألة مثل قوائم الدول الخاصة بالسفر خلال فترات تفشي الجائحة تشهد تغيرات سريعة وطبيعية بحكم إدراك كل دولة للأوضاع الصحية داخلها وخارجها، وبالتالي هي قرارات مهنية لا علاقة لها بالسياسة على الاقل في منطقتنا، التي لا تشهد صراعات قطبية بين الكبار كما هو الحال بين الصين والولايات المتحدة مثلاً!
الواضح أن “الشرارة” التي اطلقت العنان لتقارير اعلامية كثيرة تروج لفكرة الخلاف بين الدولتين هي تباين وجهتي نظر البلدين حيال اتفاق منظمة “أوبك” بشأن الحصص الانتاجية للدول الأعضاء، حيث وفر هذا الموقف فرصة لبناء “قصة اخبارية” اضيفت إليها بعناية بعض “التوابل” الأخرى مثل موقف البلدين في اليمن، والعلاقة مع إيران، بدعوى أن الامارات تتبنى موقفاً أكثر انفتاحاً تجاه إيران، رغم أن الشواهد الرسمية تشير إلى أن الرياض وطهران قد اقرتا رسمياً بوجود محادثات استشكافية بينهما!
والحقيقة أنه يصعب الامساك بكل ملف من الملفات التي يضعها البعض داخل دائرة “الخلاف” بين الرياض وأبوظبي ومناقشة مايثار بشأنه بموضوعية غائبة من الأساس في مثل هذه النقاشات العبثية التي لا تستند إلى معلومات بقدر ما تهدف إلى الترويج لقصص اخبارية مثيرة بشكل تقف ورائه دوافع مهنية تنافسية أحياناً ونوايا سيئة في أغلب الأحيان!
المؤكد في الأمر كله أن الدبلوماسيتين الاماراتية والسعودية، اكتسبتا مرونة وديناميكية كبيرة في السنوات الأخيرة، وبات بامكانهما الاحتفاظ بخصوصية العلاقات الأخوية والشراكة الاستراتيجية القائمة بمعزل عن أي متغيرات تكتيكية عابرة قد يعتقد البعض أنها ستؤثر حتماً في أجواء العلاقات، وبمعنى آخر، لم تعد علاقات البلدين تتقدم أو تتأخر بفعل موقف ما أو تحرك عابر هنا أو هناك لأن هناك اتفاق مسبق حول الأطر الاستراتيجية الحاكمة لعلاقات البلدين الشقيقين، بحيث لم يعد الأمر متروك للظروف وتقلبات السياسة.
والحقيقة كذلك أنه في ظل الطموح التنموي الهائل للاقتصادين الاماراتي والسعودي، من الوارد أن تلتقي المصالح ومن الوارد كذلك أن تتضارب، وهذا أمر بديهي في العلاقات الدولية المعاصرة، ويمكن أن يتم تجاوزه بالنقاشات، ولكن من الصعب أن يخلط البعض في تفسير مثل هذه المواقف ويربط بين السياسي والاقتصادي والعسكري وغير ذلك، وللمصداقية فإن التاريخ القريب يشهد بأن التباينات خصوصاً الاقتصادية قد تحدث أحياناً بين الرياض وأبوظبي ولكنها لا تٌحدث قطيعة بين البلدين، لأن هناك تفاهم على أن مصالح البلدين والشعبين الشقيقين أكبر من أي اختلاف في وجهات النظر، لاسيما بعد اختلاط دماء الشهداء على أرض اليمن الشقيق دفاعاً عن أمن واستقرار ومصالح جميع شعوب دول مجلس التعاون، فلاشك أن ماربط البلدين والشعبين في السنوات الأخيرة يزيد علاقاتها رسوخاً ومتانة وثباتاً بغض النظر عما قد يراه الآخرون محطة للقطيعة والشقاق.
الاماراتي سيبقى سعودياً والسعودي سيبقى إماراتياً لأن هذا هو الرباط الفعلي الأقدس وهو الحصن الحصين الذي يتجاوز الحسابات التقليدية في النظر إلى العلاقات الثنائية بين الدول والشعوب.