يمتاز الانسان عن بقية الخلق بأنه كائن لا يستطيع العيش الا وسط مجاميع مجتمعية تكون اهميتها متصاعدة حسب قربها البياتي من حياة الشخص المعني ، اي ان الانسان اذا ما تمثل بنواة حلقات دائرية تكبر مساحتها كلما ابتعدت عنه ، فإنه يتعلق بالاقرب ثم التي بعدها وهكذا مع بقية تلك الحلقات ، وهذا ما نراه جليا في تعلق الانسان بأسرته ثم بأقربائه ثم اصدقائه ثم المقربين منه سواء في العمل او المحيط ، وصولا الى من لديهم صلات اقل بحياته.
ان اولويات الانسان تتغير مع تقدم عمره ، بدءا من التعلم والطموح عند الصغر والانجذاب نحو الملذات عند الصبا ، فإن رغبته الجامحة في تكوين اسرة خاصة به بعيدا عن الاسرة الام التي تضم الابوين والاخوة تبدأ في سن الشباب ، وصولا الى التقدم في العمر حيث تميل رغباته الى الاستقرار عند النضوج الاربعيني ثم الراحة التامة عند كهولته ، ونظرا لما تقدم ، فإن هناك حالة تكوينية قد تكون خليطا بين سايكولوجية الانسان وطبيعته البيولوجية تدفع به الى هذه الرغبات التي ربما تختلف من شخص لآخر نسبيا لكنها مشتركة بالمطلق ، ولان استقرار ذلك الانسان في جميع ما تحدثنا عنه من جوانب يعتمد بالاساس على استقراره في الحلقة الدائرية الاولى القريبة منه كما اسلفنا القول في مقدمتنا ارتأينا الخوض في اهمية تلك الحلقة الا وهي الاسرة الخاصة به التي ستنبثق باختياره الشريك ثم انجاب الابناء ، اي بمعنى ان استقرار الحلقة الاولى سيكون مفتاحا لاستقرار العلاقة مع الحلقات الأبعد والعكس قد تنتج عنه نتائج عكسية ايضا.
وحتى لا نبتعد عن محور حديثنا لهذا الموضوع ، قد نكتفي بما سبق ليكون مدخلا للغاية التي نرغب بإيصالها للقارئ الكريم ، وهي ان اختياراته في تكوين اسرته الخاصة ما هي الا رسالة سامية تعتمد عليها مقومات ومخرجات ونتائج لا تقل اهمية او قدسية عن التمسك بالرسالات السماوية التي نسعى خلالها لكسب رضا الباري جل وعلا عبر التمسك بمبادئها وتعاليمها.
ان الاختيار الامثل للشريك لن يكون بالضرورة مبنيا على أسس عاطفية انجذابية ، إنما يكون عبر تلاقي الافكار والصفات الانسانية لدى الرجل والمرأة ، وكي نكون منصفين اكثر وغير حديين بتفسيراتنا المتعلقة بالاختيار ، فإنه من الممكن ان يكون تلاقح الافكار وتقارب الصفات موجودا لدى شخصين يشعر كل منهما برغبة عاطفية جامحة نحو الآخر ، غير ان الحديث بصدقية واكاديمية يحثنا على تناول الاعم وليس الاخص ، أي أن الاساس لن يكون بالمطلق الشعور انما الحكمة والصواب لسبب واحد هو ان الحكمة ثابتة بينما يكون الشعور متغيرا وفق تأثيرات حياتية معينة يمر بها الانسان ضمن مرحلة زمانية او مكانية.
ووفقا لدراسات وبحوث متعددة ومتشعبة في هذا الصدد ، فإن تلاقي السمات البشرية لدى الرجل والمرأة يخلق حالة من الانجذاب والانصهار بين طاقتيهما ، وهو ما اشار اليه الله تعالى في قرآنه الكريم حين قال ” بسم الله الرحمن الرحيم ” ( وجعلنا بينهم مودة ورحمة ) وهذا ما نراه ايضا في حالة الحب المقدس غير الحسي بين الشخصين المتزوجين وفقا للاختيار الذي اشرنا اليه ونقصد بغير الحسي اي انه يكون ضمن وجدان العقل الباطن وليس بين ثنايا عقلنا الظاهر ، وحتى نوضح مقصدنا اكثر يمكن ذكر امثلة من بينها تفاني الرجل او المرأة في الدفاع عن شريكه حتى الموت احيانا والغيرة الجنونية على بعضهما الآخر والشعور بأنه جزء من ممتلكاته الشخصية غير القابلة للنقاش وبنفس الوقت لا يشعر بعاطفة جنونية ظاهرية كما عليه الحال في العلاقات العاطفية التي لا يمكن لها ان تتعدى العقل الظاهر لانعدام الشعور سالف الذكر في هذه الحالات ، لذلك نطلق عليه الشعور او الحب اللا حسي وهو لا يوجد الا بين المتزوجين وفق منظور الحكمة والصواب ، بينما تشهد حالات الارتباط وفقا لمشاعر الحب الظاهري حالات فشل متعددة ، والسبب بات واضحا وهو ان الحب بين الشخصين لم ولن يرتقي الى باطنية العقل ، والعائق هو التنافر بين سمات الشخصين والتي تولد لاحقا انعكاسا في الرؤى الحياتية ، وصولا الى حالة مطلقة من عدم الانسجام وفك الشراكة وربما احيانا تحول الانجذاب الهائل الى تنافر اكبر هولا عند وصول الطرفين الى ذروة التقاطع.
اذن نحن امام حقيقة واقعة وهي ان نجاح الفرد في بناء اسرة نموذجية سيكون منطلقا لمجتمع سليم وهذه امانة مقدسة على الجميع التمسك بها وبأصولها ، كونها تعد مفتاحا للصلاح او الفساد المجتمعي ، وان هذه الامانة تدفع بنا للتمعن في خياراتنا وجعلها خلاصة ناتجة عن انصهار العقل والقلب بقرار واحد يكون فيصلا في سعادة الفرد او حزنه لبقية حياته ، بل ان الامر يتعدى الشخصين ليكون محددا لسعادة اسرة كاملة ومحيط كامل له صلة بهذا الارتباط.