17 نوفمبر، 2024 3:46 م
Search
Close this search box.

حذار «الأمية المقنعة»

حذار «الأمية المقنعة»

وقفت في طابور طويل أمام “دائرة تجنيد مدينة الديوانية” يوم بلغت سن الخدمة العسكرية الإلزامية (خدمة العَلَم، كما تُسمَّى في العراق) من أجل إصدار “دفتر الخدمة العسكرية”، وذلك لتأجيل خدمتي العسكرية لحين إكمالي دراستي. وقد ذهلت عندما جاء دوري ليكتب العريف المختص وصفًا لي، ومفاده هو: “يقرأ ويكتب”. علمًا أني كنت طالبًا في الثانوية ولم يستمر ذهولي طويلًا، نظرًا لأنني لاحظت بأن أغلب أقراني (سنًّا) كانوا يوصفون بـ”لا يقرأ ولا يكتب” على صفحات دفاتر خدمتهم العسكرية!
وقد منحتني هذه التجربة صورة بانورامية مرعبة لانتشار الأُمِّية في عراق أواخر الستينيات. والحقُّ، فإن هذه الآفة المدمِّرة للمجتمعات ما لبثت وأن تم التعامل معها على نحو جادٍّ، وذلك بإطلاق الحكومة العراقية ما سُمِّي حينذاك بـ”الحملة الوطنية الشاملة لمحو الأُمِّية” وهي الحملة التي استمرت سنوات طوالًا، تمَّت خلالها تعبئة كافة موارد الدولة وطاقات المجتمع للقضاء على الأمية المستشرية حقبة ذاك.
وقد تنفَّسْتُ الصعداء، أُسوة بغيري، يوم إعلان الحكومة العراقية نصر “القضاء على الأُمِّية” في تاريخ لاحق.
إلا أن نشوتي بهذا النصر الوطني لم تستمر طويلًا في دواخلي، وذلك حالما اكتشفت وجود “أُمِّية”، ولكن من نوع أخطر وأكثر تدميرًا للمجتمعات، وهي “الأُمِّية المقنَّعة”، بمعنى أن مهارات “القراءة والكتابة” لا تكفي لانتشال المواطن من الأُمِّية الحقة، أي الأُمِّية المقنَّعة: بمعنى هي أو هو يقرأ ويكتب، ولكنهما جهلة، يسلكان سلوكًا أُمِّيًّا في حياتهما داخل الإناء الاجتماعي الأوسع الذي يسبحان بداخله.
في تلك الأعوام والأيام وعبر ما تلاها، أدركت جيدًا أن ما يطلق عليه المختصون وصف “الأُمِّية المقنَّعة” إنما هو الشكل الأخطر، اجتماعيًّا وثقافيًّا، من أشكال الأُمِّية، خصوصًا عندما يعتقد من يقرأ ويكتب بأن تجاوزه دروس الأُمِّية “الأصل” تكفيه لأن يرتقي بنفسه إلى مصاف الثقافة الحقة أو إلى المستوى الذي يؤهله للظهور على الشاشات الفضية، مجادلًا أو مُعقِّبًا أو موهومًا، عبر العالم العربي (شكرًا للفضائيات التي ما فتئت تقدم الغث والسمين دون احترام لدورها أو للجمهور أو للذوق العام).
ومع احترامي لأصحاب الرأي السديد وسراة القوم من أهل الإدارة والثقافة، فإني أجد نفسي محرجًا، بل وخجلًا كلما تابعت مناظرة تلفازية بين اثنين من الأميين المقنعين بالعناوين الأكاديمية، أي من هؤلاء الذين لم تزدهم القراءة والكتابة سوى جهل بأعماق المعارف وآفاق الثقافة الحقة. وهؤلاء، لعمري، كثر في عالمنا المعاصر هذه الأيام: فاحرص على حماية نفسك وأفراد أسرتك من الأُميين المُقنَّعين الذين يقرأون ويكتبون، ولكنهم يقودون المرء أو الجماعة إلى مجاهل لا حدود لها!
وللمرء أن يخلص إلى أن الإنسان الأُمِّي (الذي لا يقرأ ولا يكتب) غالبًا ما يكون أفضل من الأُمِّي المقنَّع الذي إلى قيادة أو “إضاعة” سواه!

أحدث المقالات