بداية لست ممن يناهضون الفكرة الديمقراطية ويعارضون قيمها لذاتها ، كما إني لا أضمر شرا”ولا أحمل ضغينة ضد الداعين لها والمدّعين بها كأشخاص ومؤسسات . إلاّ إني بالمقابل لا أحبذ فهمها والإيمان بها كما يفهمها البعض ويؤمن بها ، كما لو أنها (عقيدة) دينية منزّهة لا يأتيها الباطل ولا يعتريها الخطأ ، بقدر ما أدرك طبيعتها وأتعامل معها (كمنهج) إنساني قابل للانحراف و(طريقة) حضارية معرضة للنكوص ، سنّت لتنظيم علاقات الشأن العام وإدارة مصالح عناصره وتأمين حقوق مكوناته . واللافت إن الفكرة الديمقراطية – كأي فكرة عامة مجردة – قابلة لأن تتحول إلى إيديولوجيا خلاصية شرسة ، لا يضبطها عرف ولا يردعها قانون ولا يقننها نظام ، طالما إن الواقع الاجتماعي المعاش الذي أريد لها أن تستوطن ذهنية أفراده وتعقلن سلوك جماعاته ، لا يشاطرها القيم التي تبشر بها ولا يجاريها في المبادئ التي تدعو إليها . بحيث تستحيل من وسيلة حضارية للاستقرار السياسي إلى أداة لتأجيج للاضطرابات ، ومن طريقة عقلانية للبناء الاقتصادي إلى معول لتسريع الانهيارات ، ومن عامل إنساني للتوحد الاجتماعي إلى فتيل لتفجّر الصراعات . ولعل التذكير بما آلت إليه مصائر الشعوب التي كانت مستعمرة ، تحت وطأة حمى تلك العقائد المؤدلجة ( الليبرالية والاشتراكية والديمقراطية ) ، قمين باعطاءنا التصور المناسب ومنحنا الانطباع الملائم حيال هذه المسألة . إذ كثيرا”ما تغنى زعماء الأحزاب الوطنية وقادة حركات التحرر القومي في بلدان العالم الثالث ، على امتداد جغرافيات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وهم يقارعون فلول القوى الاستعمارية التي كانت جاثية فوق ترابهم الوطني ، على مدى عقود من السيطرة الغاشمة والتحكم التعسفي . بقدوم عصر الديمقراطية الألفي حيث سينعدم الفقر وتمحى الأمية ويقضى على الظلم ، بعد أن يجتث زؤان العصبيات القومية / العرقية ، وتستأصل جذور الأصوليات الدينية / المذهبية ، وتمحى مظاهر الاستزلامات القبلية / العشائرية ، وتجفف منابع الصراعات الاجتماعية / الطبقية . وستقام ، من ثم ، العدالة الاجتماعية الضائعة ، وينشر الرخاء الاقتصادي المفقود ، وتعمم الحرية الفكرية المنتهكة ، وتصان الكرامة الإنسانية المستباحة . إلا إن حصيلة تجارب الحكم (الوطني) التي أعقبت مرحلة الاستقلال ، لم تلبث أن باغتت الجميع بانكساراتها على جميع الصعد وفاجأة الكل بانحرافاتها على مختلف المستويات ، وذلك باستحالة (الليبرالية) المفترضة إلى تسلط جائر لا يرحم ، و(الاشتراكية) المزعومة إلى فساد مستشري لا يرعوي ، و(الديمقراطية) المفبركة إلى فوضى عارمة لا تبقي ولا تذر . ولعل من خصائص الشعوب والمجتمعات المتخلفة – بصرف النظر عن باعها التاريخي والسياسي في تجربة الاستقلال – أنها لم تتعلم من أخطائها في الاجتماع ، ولم تتعض من مصائبها في الاقتصاد ، ولم تستفيد من هزائمها في السياسة ، ولم تعتبر من كوارثها في الثقافة . للحد الذي باتت معه أشبه ما تكون بدريئة مباحة لصولات المغامرين من كل التيارات اليمينية واليسارية ، مثلما أصبحت مجرد جماهيرات مجيشة سهلة القياد من لدن جميع الثورات المدنية والعسكرية ، دون أن تعي بعد ماذا تريد وكيف تبلغ ما تريد . والجدير بالتأمل والاعتبار إن المفهوم الذي كونته تلك الشعوب والمجتمعات المتخلفة عن الديمقراطية – المفارقة أنها لا زالت متمسكة به وتصر عليه – يختلف جذريا”عما يشاع عنه في لغات الأدب السياسي والإيديولوجي ، حيث جرعات التلفيق والتزويق والتنميق فوق المعدل عادة . إذ لا علاقة له البتة لا من قريب ولا من بعيد بما يتضمنه حقا”وفعلا”من ؛ خيارات عقلانية متوازنة ، وعلاقات حضارية متطورة ، والتزامات أخلاقية مسؤولة ، وقناعات فلسفية واعية ، وقنوات تواصلية مفتوحة . وهكذا فالديمقراطية كما تفهمها وتتعاطى معها هي إن يكون للقوي بماله أو بسلطته أو بالاثنين معا”، حق الحكم والتحكم بمصائر الضعفاء اجتماعيا”واقتصاديا”. كما ويكون من باب الإنصاف والعدالة أن يغمط دين الأغلبية ومذهب والأكثرية ، حق الأقليات الدينية والمذهبية الأخرى في التعبير عن إيمانها الديني والقيام بطقوسها والخاصة . وان يكون للحزب المهيمن سياسيا”والمسيطر إيديولوجيا”، الحق بتهميش الأحزاب الأخرى وإقصاء الأفكار المختلفة . أما إن تؤمن بالديمقراطية كطريقة حضارية ومنهج إنساني ، للاعتراف بالآخر المعارض سياسيا”والمغاير دينيا”والمخالف مذهبيا”والمتباين قوميا”، فتلك مسألة لا تخطر لها على بال وليست ضمن حساباتها ، إن لم تكن بعيدة عن تفكيرها وغريبة عن قناعاتها . ولعل اعتراض وجيه يثار ضد طرح كهذا مؤداه ؛ إن جميع تلك المساوئ والعيوب والمثالب ، لا مناص من ظهورها كثمن لانخراط تلك الشعوب والمجتمعات في الممارسة الديمقراطية ، وكرد فعل على محاولات ولوجها فضاءات الحياة المدنية لأول مرة . لاسيما وانه قلما نجت تجربة إنسانية سابقة من التعثر فيها والمعاناة منها ، خصوصا”إذا كانت خارجة لتوها من جحيم الأنظمة السياسية المتريفة ، وكسرت حديثا”قيود عبوديتها المزمنة . وهو الأمر الذي يلزمنا الإيضاح بأن هذه الحالة أدعى أن لا تعطى تلك الشعوب أكسير الديمقراطية جرعة واحدة وإنما على جرعات مقننة ، وان لا تمنح هذا العلاج السحري دفعة واحدة وإنما على دفعات مدروسة . بمعنى إن حداثة فترة دخول تلك الشعوب مرحلة التحرر من الطغيان السياسي والحرمان الاقتصادي والامتهان الاجتماعي والارتهان الإيديولوجي ، قمينة بحملنا على الحذر والتروي في إغداق المظاهر الديمقراطية عليها ، فضلا”عن مراعاة تقنين بعض قيمها وأخلاقياتها بالضوابط والالتزامات ، بدلا”من إطلاق العنان لكل من هبّ ودبّ لتشريع وتنفيذ كل ما يحلو له من قوانين وأنظمة ومؤسسات ، كما لو إن المجتمع يعيش في غابة القوي فيها يأكل الضعيف . والحال ما جدوى الديمقراطية المفبركة ، إذا كان الثمن أن نخسر وطن موحد ونربح فدراليات اقوامية وكانتونات طوائفية ، تدعو إلى التقسيم وتحض على الانفصال ، لمجرد أن يشاع إن العراق أصبح بلدا”ديمقراطيا”؟! . وما قيمة الديمقراطية المبتسرة ، إذا كان الثمن أن نخسر دولة قوية ونربح مراكز متنابذة وأطراف متخاصمة ، تبشر باخصاء سلطتها وتسعى للتفريط بسيادتها ، لمجرد أن يقال إن العراقيين استحالوا إلى أناس ديمقراطيين ؟! . وما معنى الديمقراطية المزعومة ، إذا كان الثمن أن نخسر سلطة مهابة ونربح نوازع عدوانية منفلتة ، تشيع الفوضى وتبيح الموت ، لمجرد أن يزعم بأن الإنسان العراقي بات ديمقراطيا”؟! . فإلى متى يتجاهل الناس حقيقة أن الديمقراطية كفكرة وكواقع هي ؛ وعي ناضج قبل أن تكون سلوك فج ، وثقافة إنسانية قبل أن تكون سياسة همجية ، وأخلاق متحضرة قبل أن تكون تصورات متهورة ، ومواطنة مسؤولة قبل أن تكون نعرات متعصبة ، ومؤسسات مدنية قبل أن تكون دكاكين حزبية ، وقوانين ضابطة قبل أن تكون إرادات متكالبة . ولعل مشكلة الديمقراطية تكمن في كونها تتعارض جذريا”وتتناقض مبدئيا”مع كل ما جبل عليه الإنسان من نوازع بدائية ، وطبع عليه من دوافع غريزية . للحد الذي ألزم مفكري وفلاسفة الفكرة الديمقراطية ، تذكير المعنيين بها ( رجال ساسة وزعماء سلطة وصناع رأي ) من مغبة تجاهل المخاطر الناجمة عن تسلل النزعة الرعاعية إلى صلب تلك الفكرة واندساس التصورات لراديكالية إلى عمق فلسفتها ، تحت يافطة مسميات (الأغلبية والأكثرية) الجاهلة سياسيا”والأمية ثقافيا”والمتخلفة حضاريا”، مما يحيلها – عند التطبيق – إلى وسيلة لبث الفوضى وأداة لإشاعة التهتك وآلية لتسريع الخراب . وهو الأمر الذي حمل فيلسوف العقد الاجتماعي (جان جاك روسو) إلى التصريح بما معناه (( إن الديمقراطية تحتاج لكي تنجح إلى شعب من الملائكة)) . وهنا ندخل في إطار علاقة جديدة تؤطر الحدود ما بين الديمقراطية كتصورات وممارسات من جهة ، وبين المجتمع كقيم وثقافات من جهة أخرى ، لا يسمح ضيق المجال هنا العروج عليها والحديث عنها والنقاش حولها ، وهو ما نأمل أن يتشكل محور موضوع قادم .