دراسة: د. حسين سرمك
هذه هي الحلقة الثالثة والأخيرة من الدراسة التي أجراها الناقد الراحل ” د. حسين سرمك” على رواية “حياة ثقيلة” للكاتب “سلام إبراهيم”.
مادة البراءة..
هل يمكن أن تتفق هذه المعلومات مع تسلسل أحداث حكاية أحمد التي قصّها علينا الراوي حتى الآن؟ كيف يكون أحمد هو الذي أسهم في تحويل كفاح من الالتزام الديني إلى الحزب الشيوعي وكسبه إلى تنظيم الشبيبة الشيوعية .. وفي بيت سلام، وفي السنة الأولى من دراسة سلام وأحمد في إعدادية الزراعة وسلام يقول إنّه لم يعرف بأنّ أحمد كان منتمياً للحزب الشيوعي إلا في عام 1973 وقت قيام الجبهة الوطنية؟؟ كان سلام يعرف أن أحمد شيوعي منظم وهو في الصف الأول من إعدادية الزراعة!!
وقد حصل ما توقعه كفاح، فبعد أشهر قليلة جاء الخبر اليقين إلى سلام وهو أنّ أحمد قد وقّع هو وزوجته مادة البراءة (200) بعد أن زارهم رجال الأمن في بيتهم بوساطة من قريب حزبي (بعثي) له. كان وقع الخبر على سلام – كما يقول – صاعقاً لأنه كان يعتقد أنّ أحمد مؤمن حقيقي بفكره وأنّه أخفى انتماءه في أحلك الظروف (كيف أخفى أحمد انتماءه وكان يناقش أباه جهارا عن الإلحاد والماركسية وستالين ويقنع كفاح بالماركسية ويكسبه إلى الشبيبة الشيوعية؟! هل نسيانات سلام هذه سببها أنّه وضع أحمد كـ”مثل أعلى”؟).
لا يعلم سلام بأنّ أجهزة المخابرات تسير على قاعدة في علم النفس بأن الفرد كلما كان متعصباً لفكرة ما كلما كان معنى ذلك أنّه يقاوم عكسها ويكبته ويصرف طاقة نفسية كبيرة في عملية الكبت هذه، فيكون انهيار الكثير منهم في الواقع في مرحلة الانتظار قبل وقت الانهيار الفعلي وعلى أساس مبدأ “أن انتظار الموت أسوأ من الموت نفسه”. ووسط سخط سلام العارم على أحمد قرّر الذهاب إلى بغداد مع صديق له لمقابلته. كان سلام يغلي غضباً. ومن بيت أهل زوجة أحمد قرروا الخروج لشرب الخمرة. وخلال هذه الجلسة انفجر سلام في حديث طويل عن خيانة أحمد له كصديق وإنّه أوهمه طوالَ علاقتهما بشخصية المناضل المخلص بصمته الأسمنتي ونظراته المتأملة. ولا أستطيع الجزم بأن هاتين الصفتين: الصمت الإسمنتي والنظرات المتأملة هي جزء من صفات المناضل المخلص. فقد تحصل حتى لدى المضطربين نفسيا. ولم أستطع – اعتماداً على القدر من الحوادث التي قصّها سلام عن سيرة أحمد – بأنه يتمتع بأي صفة من صفات المناضل المخلص..
المناضل الشيوعي المخلص..
فالحوادث البارزة تذكرنا قسراً بحادثة العرض الجنسي والتبصصلت التحرشية في السوق وعذاباته بعد موت أبيه والرحلة المجنونة وعمله في اللجنة المحلية ودورة بلغاريا الحزبية وغيرها من الأمور العديدة. على العكس من ذلك فإن سلام بالاعتقالات والمطاردات المتكررة حتى وهو خارج التنظيم الحزبي الفعلي هو الذي يمكن لنا أن نطلق عليه وصف المناضل الشيوعي المخلص مقارنة بأحمد. هل كان سلام يقوم من حيث لا يدري بعملية “إسقاط” لاشعورية لتصوّراته عن المناضل المخلص على أحمد؟ وهل قام – من حيث لا يدري أيضاً/ لاشعوريا- بتوسيع عملية الإسقاط هذه لتشمل “آثامه” هو أيضا حيث اعتبر توقيع أحمد لمادة البراءة المميتة واعترافاته “وقعة غبراء” كما يصفها وهو نفسه كان قد صدّق اعترافات مسئوله الحزبي ووقع صك البراءة والفارق أن أحمد وقعها في البيت وهو متزوج وسلام في أقبية الأمن وهو فرد بلا مسؤوليات عائلية مباشرة.
هذه المسؤوليات والارتباطات ستجعله يتخذ موقفا مغايرا لما يريده أحد رفاقه في بيروت في القسم المقبل؟ ولولا عملية الإسقاط هذه ومحاولة بناء صورة “المناضل” الأنموذجية العصيّة على سلام لما كان انفعاله مفرطا في تلك الجلسة يبكي (هل كان سلام يبكي ذاته المنجرحة؟!) ويصرخ ويلوم ويشكو إلى أن سقط في عدم السكر. والخمرة كمُذيب للأنا الأعلى/ الضمير تساعد كثيرا في إرخاء القيود المنطقية وتفجير الصراعات الذاتية المكبوتة.
بوابة ليل العراق الطويل..
# بعد جلسة الحساب تلك لم يلتق سلام بأحمد سوى مرةٍ واحدةٍ حين زار أحمد مدينتهما الديوانية. تسكعا في أرجائها أكثر من أربع ساعات استعادا فيها تفاصيل ذكريات تلك الأيام المضيئة التي اندثرت مقارنة بعتمة تلك السنة 1980 التي سماها سلام بحق “بوابة ليل العراق الطويل” الذي لم ينتهِ حتى اليوم. كان سلام في تلك المدة يواصل الصلة برفاق أحمد المتخفين في بغداد ويوفّر لهم ما يستطيع من مساعدة برغم أن هذا التصرّف قد يودي به إلى التهلكة بسبب توقيعه مادة البراءة المميتة.
ومن بين المساعدات التي كان يقوم بها هي نقل جريدة “طريق الشعب” جريدة الحزب الشيوعي، إليهم، والتي تحوّلت إلى جريدة سرّية صغيرة الحجم. كان أحمد يتهرّب من أي ذكرى عن عملهما السياسي السابق إلى أن وصلا باب بيته.. حينها دسّ سلام في كفّ أحمد جريدة طريق الشعب ملفوفة كحجم طرف الإصبع وحين فضّها أحمد أصفر وجهه وكاد ينهار. وسلام نفسه يتساءل كم كان قاسيا وجلفاً على أحمد. وفعلا .. لا يمكن تفسير هذا التصرف سوى أنّه تصرّف “سادي” لأن سلام نفسه ذكر لنا قبل صفحات أن المادة (200) التي وقعها أحمد تنص على معاقبة من ينتمي لأي تنظيم سياسي غير حزب البعث العربي الاشتراكي بالإعدام. ولو كان هناك مراقب محايد يرقب المشهد لتوقّع أنّ سلام هو من رجال الأمن الذين ينصبون مصيدة لتوريط أحمد وإنهائه.
ومن المنطلق نفسه قد يندهش القارئ لسلوك سلام العام في علاقته بتنظيم الحزب. فما كان يقوم به من مساعدة للرفاق الشيوعيين المختفين من ملاحقات السلطة التصفوية الدموية وإيصال جريدة الحزب السرّية “طريق الشعب” إليهم وإيواء وإخفاء أحدهم.. هذه كلها تصرفات توصله إلى الإعدام حسب المادة التي وقعها حين صادق على اعترافات مسئوله خلال اعتقاله الأول. كيف سيبرر تصرفاته تلك؟ بل كيف سيبرّرها للقرّاء: شخص لا علاقة له بالتنظيم يقوم بمهمات خطيرة قد لا يقوم بها الكثيرون من المنتمين أنفسهم. في هذا الدور إحساس بالبطولة و – ضمنا – بالدور الأبوي. وهي محاولة لغسل مشاعر الذنب والانكسار التي لحقت بالذات الفردية في تجربة الانهيار الأول. ولعلّ “آنا فرويد” قد تحدثت بصورة مستفيضة عن هذه الظاهرة كأوالية دفاعية نفسية في كتابها “الأنا وأواليات الدفاع”. وسلوك سلام المفرط هذا ينطوي تحت خيمة سلسلة سلوكياته تجاه أحمد وبضمنها جلسة المحاسبة.
رحلة جنونية..
وكل هذه الذكريات استعادها سلام وهو ينطلق فجرا نحو مرآب السيارات أو خلال انتظاره لانطلاق السيارة أو جلوسه في المقعد الأمامي في طريقه للوصول إلى صديقه الحبيب “أحمد” بعد أكثر من 27 عاماً من الفراق. وهي رحلة “جنونية” ثانية أو عاشرة من رحلات سلام الكثيرة (سندباد المهمات) كما سنرى. وقد حاولت نظم سلسلة الذكريات هذه برغم الوقفات “الاعتراضية” الكثيرة كي يسهل على السادة القراء ملاحقتها بعد أن قرأوها متناثرة كسلسلة من “الاستعادات/ الفلاشباكات” تقع كوقفات استرجاع ذاكراتي أو حوار داخلي بين مشاهد التعامل مع العالم الخارجي.
الآن ينطلق سلام إلى بغداد. وإذا كان قد قدّم لنا لقطات سريعة عبر مقارناته بين وضع سابق طغياني قامع دموي وحاضر فاقه قسوة ودموية ووحشية تسيّدت فيها قوى الاحتلال القذرة ذات الخبرة العريضة في تنظيم “فرق الموت” لقطع الرؤوس وتصنيع الاقتتالات الداخلية عبر حركات “معارضة” مسلّحة تجعل المواطنين يلجأون إلى قوى المحتل والسلطة للاحتماء بها (في السفادور كانت فرق الموت تقطع رؤوس المواطنين بالمناشير.. في إحدى الحوادث قطعوا رؤوس القساوسة المعارضين ووضعوها بين أيديهم وهم جالسون إلى مائدة الطعام) وفوق ذلك كانت الميليشيات المسلحة تعيث فسادا في الأرض..
نقل سلام تعليقات عسكريي السيطرات حول رحلته الخطيرة ونقمة سائق التاكسي الذي أوصله إلى المرآب. لكن التصوير/ الشهادة المهمة من سلام وهو كما قلت لا ينطبق عليه وصف السارد أو الروائي بقدر ما ينطبق عليه وصف “الشاهد الحكّاء”.. ففي كل أعماله كان سلام هو “بطله” إذا جاز التعبير حتى وهو مهزوم محطم.. و”البطل” في العمل الفني هو الذي تلتم عنده عُقد الأحداث ولا تتحرك حلّاً أو تعقيداً إلّا انطلاقاً منه بصورة مباشرة أو غير مباشرة.. وسلام هو “عقدة” حكاية شعبه.. وسندباد رحلاته المهولة ورمز “حالته” الصدوق الحي النابض. مسيرة سلام هي مسيرة جيل أو جيلين من أجيال شعبه كانت الأكثر تعبيرا عن خلاصة مسيرته لتاريخية وتحولاتها والشاهد على أحداث خمسة عقود لم يستطع أي حكّاء آخر بلوغ مقدرته الفذّة في الحفاظ على صندوق ذاكرتها الأسود. ومن المؤسف كما سأتوقف عند ذلك قريبا أنّ أغلب النقّاد قد توقفوا عند الجانب الجنسي من “اعترافاته” في حين أن “أدب الاعترافات الأكبر” المتفرد الذي قدّمه سلام كان في جوانب أخرى أخطر وأكثر حسماً.
في تصويره لحال سائق السيارة التي أقلته إلى بغداد وسط المخاطر وتوقعات الموت والركاب الثلاثة الذي احتلوا الكرسي الخلفي العريض شهادة تفوق ما يمكن أن يطرحه أي “مؤرّخ”. فالمؤرّخ يوصف بأنه “موضوعي” وأمين كلّما كان بارد المشاعر وقام بتحييد عواطفه الشخصية. وفي هذا مقاربة لخدعة “الناقد الموضوعي” بمعنى الناقد الحديدي الذي يتناول العمل الفني وكأنه “يؤرّخ”. وهذا ما لم أستطع القيام به بل لا يستطيع القيام به أي ناقد إلا بحدود ضئيلة. الناقد يكون ذاتياً كاملا عند خط البداية ثم – ومع سيره مع النص وتحليله – يحاول أن يمتلك زمام الموضوعية.
وسلام كان “يؤرخ” ما يشاهده من أحوال شعبه ولكن من “قلبه”.. نعم.. ومن أعماق “قلبه”.. ولهذا تأتي الشهادة حيّة حقيقية ومشهديّة بعين سينمائية لا بعين فوتوغرافية كما يحصل لدى المؤرخ. ويكفي أن ننقل ما سطّره سلام عن حال ركاب العربة العراقيين وهي تنطلق نحو بغداد “التي لم يعد يعرفها محبّوها” في رحلة الموت ومخاوفهم المرعبة من المرور بـ”مثلث الموت”:
“أدخلَ مفتاح التشغيل وأداره فتعالى صوت المحرك لكنه لم يتحرك. بل لهج في ترديد دعاء طويل:
– اللهم أحفظنا من كل مكروه
اللهم أعمي عنا عيون الأشرار
اللهم!.
فتصاعدتْ أصوات من خلف ظهري تردد أدعية، وآيات قرآنية، حملقتُ في وجه السائق كان يتوسل متهدج النبرة يكاد ينشج، وشفتاه ترتجفان بمفردات الدعاء التي يلفظها ببطء شديد. التفت ُإلى الحوض الخلفي، فهالتني الوجوه، زادت شحوباً على شحوبها. تردد آيات من القرآن، حتى الشاب الذي بدا متماسكاً أصابهُ الجو بالعدوى، فراح هو الآخر يردّد أدعية بقسمات ضارعة مستسلمة، وكأننا مقبلون على الموت. غمرني لغط (لاحظ مفردة “لغط” هنا) الأدعية والآيات فأخذني بعيداً إلى محطات رعب عمري الضاجة بالقمع والتهديد بالموت في كل الأمكنة التي سبقت وصولي إلى الدنمارك فلم أرَ رعباً كالرعبِ المرتسم على وجوه الركاب الأربعة.
رعبٌ أملس مطلق لم أشعر به لا في نفسي وأنا تحت القصف في جبهة الحرب مع إيران، ولا في وجوه زملائي الجنود رغم أنه يخطف منا في الشهر واحدا أو اثنين في أوقات هدوء الجبهة، ولا في وجوه الثوار في الجبل حينما نُحاصَر ويكون الموت على بعد أمتار، ولا حتى في سراديب الأمن العامة والاستخبارات العسكرية التي حللت في ظلمتها وعفنها ورعبها مرات. كنت لا أعرف ما يجري بالضبط، ولم أستوعب بَعْدُ الهول الذي يعيشون به والذي بدا محفوراً في أرواحهم.. هاهو يتجلى في أصواتهم وهم يتضّرعون إلى الخالق وقديسيهم من أئمة الشيعة، مستنجدين بمن لم يستطيعوا النجاة بأنفسهم يوم الطف في العاشر من عاشوراء، يستنجدونَ بوجوهٍ مشلولةٍ، مرتجفةِ الشفاه والسيارة لم تتحرك بعد. قلت مع نفسي:
– إنهم في لحظة رعبٍ فاقت لحظة رعب العراقي أيام الدكتاتور.
وتساءلتُ بصمتٍ:
– أية فظائع وأهوال جرت تحت أنظارهم منذ الاحتلال؟!.
ـ أية؟!..
أستمر لغط الأدعية والتمتمة والتضرع دقائقَ خمساً، إلى أن قطعها السائق بالقول وهو يضغط على دواسة البنزين:
– رددوا الشهادة!.
نطقوها بوضوح وبصوت عالٍ، ومع آخر فقرة أردف:
– الله كريم. الأعمار بيد الله!.
قلت مع نفسي:
– يبدو أنه الموت إذن!.
تحرّكت السيارة وَعَبرتْ الباب الواسع وأخذت الطريق المعبّد القديم المتوجه نحو الحلة، والسائق يبرر الأمر قائلا:
– ندخل الطريق السريع قرب الحلة أسلم!.
فاستفهمتُ فرد:
– طريق الدغارة ملغوم لو سلابه لو مليشيات!.
قلت مع نفسي:
– لا طريق آمن إذن!.
وهذا ما بددَّ شيئاَ من غرابة خوفهم الأملس من موت يلوح في الطرق والمدن والقرى المنتشرة على الطريق- ص 43 و44 و45″.
الرعب الجديد..
كانت هذه مشاعر عيّنة من العراقيين المرعوبين المحاصرين بالموت والخراب مع كل خطوة. وهي من سمات “الحالة العراقية”. يقول صموئيل نوح كريمر وهو من أشهر وأكثر الباحثين تعمّقاً في التراث السومري أنّ أكبر قدر من المراثي عُثر عليه في أرض سومر وخصوصا مراثي المدن التي يتحسّر كاتبها “الشاعر المجهول” – وملحمة جلجامش كتبها شاعر مجهول وهل ستجد البشر بعد مئات السنين لوحا إلكترونيا لشاعر مجهول هو سلام إبراهيم؟؟ – على مدينته التي تمّ حرقها وسلبت بيوتها ومتاجرها ونُثرت جثث سكانها في الطرقات.. بعد خمسة آلاف سنة سيواجه سلام وركاب السيارة مشهدا مروّعاً صار يوميا في العراق آنذاك: عراقيون تم قطع رؤوسهم على الشارع العام وقرب معسكرات القوات الأمريكية وقاطعي الرؤوس الملثمون يتنقلون بكل حرّية تذكرك بسطوة فرق الموت في تجارب الولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية (وليس اللاتينية فاللاتينيون هم الذين ذبحوا سكان القارة الأصليين!). يقول سلام الشاهد:
“السيارةُ ضَجّتْ بالأدعيةِ من جديد. السائقُ أطفأ المسجل الذي لم أنتبه له طوالَ الطريقِ. كان يردّد مراثٍ حسينية بصوتٍ عذبٍ مصحوبٍ بإيقاعِ ضربِ الصدور.
ورددَ:
– الله الساتر!.
سألتهُ:
– شكو؟!.
– راح نوصل اللطيفية!.
تأملتُ وجوههم؛ السائق والمرأة وزوجها والشاب، كانتْ شاحبةً تبسمل وتردد بلغطٍ مبهمٍ ما يقيها الشر القادم. وجوهٌ لها نفس إيقاعِ رعبكَ حينما سقطتْ الورقة السرية من كفك المفتوح المرتخي، احتجتُ مخاضَ عمرٍ شرسٍ كي أفهم؛ أن ذلك ليسَ جبناً، بل تشبث غريزي بالحياةِ. السيارات تسير بسرعةٍ جنونيةٍ في كلا الاتجاهين. لاحتْ أمامنا سيارات متوقفة، فأبطأ السائق من سرعتهِ، وراح يستعيذ بالله متضرعاً، كي لا تكون الزحمة نقطةَ تفتيش طيارة، من التي تقيمها مليشيات متشددة تتنكر بزي جيش أو شرطة تقوم بخطفِ وقتلِ من تنتقيه من الركابِ، أشتدّ رعب الركاب حينما ظهرتْ جثثِ رجالٍ حزّتْ أعناقهم مرميةً على جانبِ الطريقِ جوارَ سيارتين كبيرتين متوقفتين، وجمهرة من النساءِ يلتففنَ بعباءاتٍ سود ينخرطنَ بعويلٍ هستيري وإلى جانبهنَ وقفَ بقيةَ الركابِ من الرجالِ ممن لم يذبحوا. أجهشتْ الأمُ بينما ردد الرجال:
– لا حول ولا قوة إلا بالله، لا الله إلا الله.. لا الله إلا الله.
ضغطَ السائقُ على دواسةِ البنزين قائلاً:
– الله سِتَرْنْا لوْ واصْلِينْ قَبِلْ رُبِعْ ساعة چانْ رِحْنا!.
وأشارَ بيدهِ نحو سيارةِ حمولة من نوع Toyto، مكتظة عربتها الخلفيةِ برجالٍ ملثمينَ تنهب الطريق الزراعي في اتجاه البساتين الكثيفة مثيرةً عاصفةً من الغبارِ مردفاً:
– شُوفُوهْمْ ذبْحْوا الناسْ وشْرْدَوا!. لا الله إلا الله- ص 61 و62 و63”.
قتلت فرق الموت الأمريكية في بلدان أمريكا اللاتينية وأغلبها أنظمة ماركسية: 200 ألف في غواتيمالا، 75 ألف (و8 آلاف مختفٍ) في السلفادور، 3 آلاف قتيل و60 ألف معتقل في شيلي، وقبلها مليون مواطن شيوعي أو مناصر للحزب الشيوعي في أندونيسيا، 200 ألف في تيمور الشرقية ، 3 ملايين ونصف في فيتنام ، 600 ألف في لاوس، مليونان في كمبوديا ، نصف إلى 3 مليون في بنغلاديش بإشراف كيسنجر، وووووووووووو.. وكل ذلك لم يردع قيادة الحزب الشيوعي العراقي من التعاون مع المحتل وحتى الدخول في مجلس الحكم!!
لكن كيف كانت مشاعر سلام وسط موجات الرعب الخانقة التي تجتاح ركاب السيارة والسائق في فضاء السيارة الصغير؟
يكرّر سلام أنّه لم يكن مكترثاً ولم يشعر بالرعب مثل الباقين، وأنّه كان ينظر إلى بساتين النخيل على جانبي الطريق والشمس الساطعة بذهبها المنهمر (ص 62):
“لا أدعي الشجاعة ولكن لم أكن خائفاً. وبتعبيرٍ أدقَ كنتُ فارغ الإحساس كأنني أشاهد فلماً في التلفاز”.
التبلد العاطفي..
ولعل الوصف الأخير: “فراغ الإحساس والفرجة كمراقب محايد” هو الذي سيمسك به المحلل النفسي حين يقرأ عمل سلام هذا ويجعله متسقاً مع مشاعره وسط بياض الهم والقلق والاكتئاب في غرفته في الدنمارك. فهي تتفق مع واحدة من أهم سمات “الناجين” النفسية: التبلّد العاطفي واللااكتراث النفسي في أعتى مواقف التهديد وأبشع مشاهد الموت، وهذه السمة على مستوى اللاشعور تساوي نسبيا القيام بالفعل نفسه. وهذه ملاحظة خطيرة جدا يكون لها عادة تأثير مدمّر في التحكّم وبصورة مستترة بسلوك وتوجهات الناجي الاجتماعية والنفسية وحتى الاختيارات الجمالية. يتساءل سلام:
“- هل كنتُ غير مصدقٍ ما رأيتُ من مشاهد ذبحٍ؟!. أم جلّدني المخاض لكثرةِ ما رأيتُ وحملتُ من قتلى في جبهات الحرب؟!.
– هل مات حسّي بحيث بتُ عاجزاً عن مشاركةٍ الناس فواجعهم إذ لم يرفَّ لي جفنٌ لعويلِ النساءِ جوار الجثث، ونحيب الأم وتضرع الركاب في السيارة.. هل؟!. أم أن عالمك يا “أحمد” فصلني عن المحيط والناس وأحالني إلى كائنٍ يخرج من زمن مضى؟!لا أدري، ما كان يهمني في تلك اللحظات أكثر من أي شيء آخر هو الوصول إليك، والذي كنتُ واثقاً منهُ، بالرغم من كل ما يجري!.- ص 63″
وقبيل وصول سلام إلى بغداد انسحب إلى ذاته قليلاً ليرى طيف صديقه أحمد مانحا إياه أبعاداً أسطورية محلقاً فوق الحقول والبساتين الراكضة خلف نافذة السيارة، مغسولا بضوء الشمس الأصفر اللاهث (ص 63).. وهذا التصعيد في الصورة الشخصية هو استمرار لموقف نفسي داخلي عميق كانت مقدمّاته في العلاقة المتينة بينه وبين أحمد التي بدأت بخلاف لعرض مُهين أعقبه علاقة غير متوازنة نفسيا من ناحية “أمثلة” سلام لصديقه والصعود به إلى مرتبة “المناضل المخلص الحرّ” بلا أدنى مبرّرات داعمة في عملية نفسية داخلية يُسقط فيها سلام موقفه في الحاجة إلى صياغة الذات في صورة الأنموذج الأبوي المقتدر الذي انجرح في تجربة الاعتقال والانهيار الأولى..
والآن.. وصل سلام عند باب بيت “أحمد” الذي كان في الزيارة السابقة؛ زيارة “جلسة المحاسبة” قبل سبعة وعشرين عاماً، حَسَن البناء ذا بوابة حديدية كبيرة، فصار ذا باب حديدي صدئ نصف موارب. ومنذ اللحظات الأولى واجهته علامات الأحزان والثكل وهي من سمات “الحالة العراقية”: عبارة “يا حسين يا شهيد كربلاء”. ومن عمقِ الدار يأتي خافتاً صوت مراثٍ حسينيةٍ تندبُ واقعةَ كربلاء. لقد تغيّر كل شيء، الإنسان والحجر؛ وأهم ما تغيّر هو أحمد.
في لقطة “شقاوة” جميلة يدقّ سلام الباب ثلاث مرّات وهي إشارة بينهما منذ أيام الشباب، فعرف أحمد صاحب الطرقات وهبّ لاحتضانه بقوّة:
“سلّومي .. حبيبي .. ما أصدّك..”
الارتداد الانتهازي..
لقد تغيّر أحمد: جاء بلحية بيضاء طويلة، وجسد هزيل، بشرة متخشبة ملأتها الغضون، وأجفان ذابلة.. ولم يبق من أحمد الأمس سوى بريق عينيه الذي لم يصبه الذبول. والأهم في التغيير هو الطلاق النهائي مع الماركسية والشيوعية التي آمن بها الاثنان واعتقدا بتغيير العالم و”بناء عالم جديد” من خلالها. لقد أصبح أحمد متديّناً إسلامياً!!
والشيوعيون العرب هم الذين طلعوا علينا بخلطة عجيبة غريبة هي “الشيوعي المتديّن” وخلقوا لها منظّرين ونظريات. وبهذا يكونون هم أنفسهم الذين مهّدوا لقواعدهم هذا الارتداد التلفيقي بل قلْ “الانتهازي” الذي يسطّح الأمور بل ويسفّه الثوابت الفكرية الماركسية الأساسية ويصدر عن عقل تلفيقي (وبالمناسبة “الذرائعية” سمة من سمات الحالة العراقية في جانبها الفكري قديما منذ زمن السومريين وحتى زمن الأحزاب السياسية في وقتنا الحاضر).
إنّ إيمان الماركسي بالدين خصوصا والعوامل الروحية عموما يعني تقويض المادة الديالكتيكية والمادة التاريخية وحتى الاقتصاد السياسي وهي المكونات التقليدية الثلاثة للفكر الماركسي. وعودوا واقرأوا أسس الماديتين الديالكتيكية والتاريخية لتدركوا أن لا مجال أبداً أن يزعم الماركسي الشيوعي أنّه شيوعي “يخاف الله” ويؤدي الفروض الدينية ويدخل في حركة المجتمعات عاملاً “أفيونياً” آخر “من الخارج” يلغي عوامل التغيير “الداخلية” المتمثلة في علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج وغيرها.
وكنّا نتساءل بمرارة كيف استولت أحزاب دينية كانت هامشية على الغالبية المطلقة من أصوات الناخبين العراقيين في الانتخابات الأولى في حين لم يحصل الحزب الشيوعي ذو الثمانين عاماً فعلياً، مضمخة بدماء الشهداء على أي صوت!! لكن هذه المرارة تخف ولا تختفي عندما نضع في اعتبارنا الكيفية التي أسهمت فيها الحركات الوطنية التقدمية و “المتحضرة” العراقية نفسها في خلق “الجموع أو الحشود” التي تصلح بنيتها النفسية والاجتماعية لأي حماسة “قطيعية”. تصوّر لافتة هائلة الحجم تُعلّق في مدخل شارع المتنبي في بغداد تحمل العبارات التالية:
( الحزب الشيوعي العراقي يعزّي صاحب العصر والزمان الإمام المهدي الغائب عجّل الله فرجه باستشهاد الإمام الحسين “ع”) (7)
وضعْ هنا ألف علامة استفهام تثير الدهشة والمرارة.
إن خطورة التربية السياسية التي اضطلعت بها الأحزاب السياسية الثورية في العراق – وهي مفارقة عجيبة، مضحكة ومبكية في الوقت نفسه – وتتمثل في أنها أسست لبنية نفسية وعقلية صالحة لأي فكرة “جموعية” تنتعش فيها اشتراطات الحشد. ولهذا شهد العمل السياسي العراقي ظاهرة خطيرة قلما شهدتها أقطار المعمورة وتتمثل في سهولة تحوّل الشيوعي إلى بعثي ثم إلى إسلامي.. وفي كل هذه التيارات – ويا للعجب المدوّخ – ينشط، بل “يستبسل” المناضل السابق ليصل إلى المواقع القيادية العليا!!.
وفي جلسة خاصة مع المبدع الكبير “مظفر النواب” في شقته بدمشق ذكر لي اسم شخصية سياسية بارزة جدا كانت شيوعية تقاتل معهم في الأهوار ثم “تبرّأت” وصارت قيادية بعثية ثم أصبحت قيادية إسلامية!!وكنتُ أتساءل ومازلتُ هل تستطيع القاعدة الشعبية العريضة من المنتمين للحزب الشيوعي وهم من الطبقات المسحوقة من العمال والفلاحين والكسبة والطلبة وغيرهم قراءة رأس المال – إنجيل الحركة الشيوعية كما كان يوصف – بأجزائه الأربعة الضخمة ثم تمثله وتحليله ونقده؟! .
ولو سرنا صعوداً ضمن إطار الهيكل التنظيمي للحزب الشيوعي فسنجد أن قادة الخلايا وأعضاء اللجان المحلية وهم يأتون من القاعدة الشعبية هذه بطبيعة الحال لم يكونوا يحملون مؤهلات علمية كافية تتيح لهم قراءة واستيعاب رأس المال بأجزائه الأربعة الضخمة. وفي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وجدنا أعضاء لهم قدرة متميزة على قراءة الموروث الماركسي لكنهم كانوا يفاجئوننا – بين وقت وآخر – بأطروحات تفضح وبعمق تسترهم بالمصطلحات أمام “المعدمين” ثقافياً، أكثر من تسلحهم بفهم الأفكار الجذرية والحاسمة. فهذا قيادي شهير يعلن أن علي بن أبي طالب هو أول شيوعي في التاريخ لأنه قال ذات مرة: ما جاع فقير إلاّ بما مُتّع به غني!!
ولعلّ هذا من الأسباب التي جعلت أحمد لا يعود إلى الحزب الشيوعي بعد الاحتلال وسقوط الدكتاتورية التي ورّطته بالتوقيع على المادة (200) المميتة واختار الاتجاه الديني وبنى مكتبة صغيرة في حديقةِ البيت يبيع فيها الكتب الدينية، وصور الأئمة، وأقراص ترب الصلاة والسبْحات (ص 66). وها هو ينهي صلاته ويدعو سلام – ضمناً – إلى أن يستقر على ساحل الدين كملاذ أخير.
وإذا كان أحمد قد تغيّر جذريّاً بهذا التحوّل الكبير الذي قد لا يكون جوهرياً فكرياً ولكن للتكفير عن مشاعر الذنب فالعراقي “حيوان مذنب” وهي من سمات الحالة العراقية” منذ فجر التاريخ ولعل من الدلائل الخطيرة على ذلك هو أنّ العراقي هو الوحيد بين بشر الأرض الذي خُلق – أسطوريّاً – من “طين ودم” وليس من “طين وماء” حسب أسطورة الخليقة وقد أُخذ الدم من عروق إله متمرّد “مذنب” ، الإله “كنغو” ومزجته الإلهة مامي مع طين الفرات لتخلق الإنسان العراقي الأوّل لـ”يحمل العبء عن الآلهة” الصغرى !! التي ثارت بسبب التعب ولم يكن مذنبا ليتحمل عبئها!!.. أقول إذا كان أحمد قد “تغيّر” فإن سلام قد “تغيّر” نسبيّاً أيضا. تذكّرْ ثورة سلام العنيفة على أحمد في جلسة المحاسبة بعد أن أخذته العاطفة والسُّكر وقال لأحمد ساخراً:
– ليش بالبيت.. يعني عمرك النضالي تنزعه في بيتك.. ليش؟!- ص 59″.
وكان لزاماً عليه أن يكون أكثر سخطاً أو بسخط مماثل وهو يرى أحمد وقد نزع عمره النضالي ثانية بلحيته البيضاء الطويلة وأدعيته الدينية المتواصلة أتي يتمتم بها وصور الأئمة المحاط بها على الجدران ومكتبة “المذهب” التي افتتحها وهو يدعوه للرسو على ساحل الدين بعد ذلك التمرّد العنيف في الإلحاد والترويج للفكر الماركسي. لكن الطاقة النفسية لدى الفرد تتهاود مع تقدّم العمر فيصبح همّه البحث عن ملاذ. فكيف بفرد لم يتقدّم به العمر سنوات بل عقوداً بفعل الانثكالات المتكررة التي استنزفت كل شيء لديه؟!
كان سلام الآن وهو يجد أحمداً غارقاً في لغطِ (ولاحظ نفس المفردة “لغط” مرتبطة بوصف الأدعية هنا أيضا) أدعيته مطبقَ الأجفانِ يتضرع إلى الخالقِ والقديسين. يحسده على “السلام الروحي العميق الذي هو فيه”. وبخلاف السابق لم يكن لديه لومٌ ولا عتاب كما كان أحمد يظن ويخشى، بل كان سلام يغبطه في أعماقه على السكينة الغامرة قسماته التي غضّنتها السنون. “فبعدَ عناء العمر، الكل منا يبحثُ عن ساحلٍ” (ص 65).
وصحيح أن سلام ردّ على دعوة أحمد إلى الاستقرار الفكري والروحي بأنّه “ما يزال بينَ بين” و”أنّه لم يزل في البحر واللجة” فإن هذا الجواب نفسه يشي باهتزاز المكوّنات اليقينية السابقة التي كادت توصلهما إلى “الجنون” في مرحلة سابقة..
أمضى سلام نهاراً وليلة واحدة مع رفيق عمره أحمد.. تحدّثا فيه عن كل شيء.. عن أولاد أحمد الثلاثة وبناته الست، عن عمله والمكتبة التي بناها في حديقةِ البيت يبيع فيها الكتب الدينية، والشغل ماشي، عن جهاده زمنَ الحصارٍ حيث صارت اللقمةُ صعبةً، عن تنقلهَ بين مهنٍ عجيبةٍ غريبةٍ، حمّال، نجّار، حدّاد، ماسح سيارات، صبّاغ أحذية، وعمل زوجته كخياطةٍ، وأولاده في شتى المهنِ، والبيت الذي سترهم.. استعادا ذكريات المراهقة الساخنة وهي الذكريات التي تنحفر على صفحة الذاكرة الغضة إلى الأبد عادة وفي مقدمتها ذكرى التلميذة السمراء التي أوصاه بها أحمد وهو يذهب إلى العسكرية.
ولأنّ اللاوعي لا ينام ولا يغفو.. فقد أرسل أحمد رسالة تتسق مع موقفه الجديد ودعوته لسلام حين كلمه بخفوت عن مصير صديقهما المشترك “عبد الله أبو التمن” الذي بقى شيوعياً ولم تغيّره الظروف، فعادَ للعملِ بعدَ الاحتلالِ وسقوط الدكتاتور في مقر اللجنة المركزية في ساحةِ الأندلسِ، وقبلَ شهرين خطفتهُ مليشياتٍ مجهولةٍ، ليعثروا بعد شهرٍ على جثتهِ مشوهةً في مجمع قمامة بطرفِ بغدادَ (ص 67).
ولم يناما حتى الفجر.. وعاد سلام إلى الديوانية على وعد أن يتلاقيا بعد أسبوعين.
لكن..
قابل للفناء..
لم يُتح المثكل المُصنّع لهما تحقيق هذا الوعد.. فقد قُتل أحمد بعد أيام.. اتصلت زوجة أحمد بسلام باكية وهي تخبره بمقتل زوجها: أمطره مسلحون ملثمون نزلوا من سيارة جيب صغيرة بالرصاص وهو جالس وسط كتبه ولاذوا بالفرار.. لماذا؟؟ ابحث عن “المستفيد” العميق..
وسؤال الـ”لماذا” هذا يصبح سؤالا مرفّهاً فالأهمية هنا تكمن في انخلاع جزء عزيز من “الأنا” يُشعر المثكول ولأوّل مرّة بأنّه يمكن أن يموت. فاللاشعور لا يفنى وفيه إحساس ثابت بالخلود. ولهذا لا يتعظ الإنسان من “الموت” وهو يرى أو يسمع بالآلاف المؤلفة التي تموت وتُقتل كل لحظة.. متى يشعر بأنّه قابل للفناء؟ حين يفقد عزيزاً شكّل جزءاً من “أناه” الشخصي. كمْ قطعة انخلعت من “أنا” سلام إبراهيم الشخصي؟ كمْ؟؟ وكم قطعة انخلعت من أنا العراقي الشخصي.. كمْ؟؟ وليس مثل القطعة التي سطّرها سلام في مشهد وداعه الأخير لجسد الشهيد أحمد المثقب بالرصاص قطعة تعبّر ببلاغة مسنّنة تقطّع القلب:
“كانَ صوتِ زوجته المتهدج يذبحني بخبره:
– صديقك راح مات قتلوه بالمكتبة!
أمطره مسلحون ملثمون نزلوا من سيارة جيب صغيرة بالرصاص وهو جالس وسط كتبه ولاذوا بالفرار، طفقت أنحب وهي تضيف:
– الدفن باچر بالنجف الساعة وحده الظهر!.
أمام باب المغسل وقف سبعة رجال. في ركن الجدار وقفت زوجته وحولها أولادها وبناتها ناحبين. عبرتُ العتبة. تجمهرَ الرجال حول دكة الغسل. أفسحوا لي ممراً. فوقع بصري على جسده ممداً عارياً مثقباً بالرصاصِ. اقتربتُ منهُ. توقفَ شيخٌ ملتح كان يهمُ بغرف طاسةِ ماءِ من حوضِ الغسلِ. كانَ سليم الوجه، يبدو وكأنه يغفو. ركعتُ على ركبتي جواره ونزلتُ إليه ودمعي يصّبُ. لامستْ شفتيَّ جبهته العريضة. شممتهُ من عنقهِ. انتصبتُ. رجعتُ خطوتين. باشرَ الرجلُ بغسله.
وبغتةً شهقتُ. خانتني قوايَّ، فتهالكتُ جالساً. حملوني من كتفيّ إلى خارجِ المغسلِ وأجلسوني على مقعدٍ من حجرٍ مركون إلى الجدارِ تحتَ الشمسِ وأماميَّ امتدتْ شواهدَ القبور حتى الأفق وطيفكَ بوجهه الفتي إلى جواري على عربةِ قطارِ حمولةٍ تمخرُ عبابَ ليلِ الجنوبِ يرقصُ هازاً بذراعه الأيمن يتوعد ويهدد الوجود وينشد معي:
– لبناءِ عالمٍ جديد.. ولقبرِ مشعلي الحروبّ!- ص 68 و69”.
ومع جسد أحمد الذي سوف يُدفن بعد قليل.. هل سيدفن سلام شعار “لبناء عالم جديد” محمّلاً بأحلام جيل كامل أو جيلين كاملين كما هو حال الشعارات والأحلام العراقية الأخرى؟؟
ثريا النص..
# حول العنوان: هل هو ثريا النص؟
من الصعب الانتقال من ذلك المشهد المأساوي للوداع الأخير إلى التناول النقدي “الباهت”. انتظرتُ عدة ساعات للعودة إلى الكتابة. ذكّرني هذا المشهد بكل أخوتي وأحبتي الراحلين استشهاداً أو موتاً بطرق أخرى وآخرهم أخي الأصغر الحبيب واسمه “أحمد” أيضاً أحد ضحايا مؤامرة وباء كورونا.
لقد تطرّف – وكالعادة – أغلب النقّاد وهم يتلقفون الأطروحة الغربية عن دور العنوان في النصّ والتي صاغها – عراقياً – المبدع الراحل “محمود عبد الوهّاب” في كتابه الصغير المميّز “ثريا النص” (دار الشؤون الثقافية/ 1995).
ضربت أمثلة كثيرة أعود لواحد منها ثم أقدّم واحداً جديداً. لو أخذنا قصة “المئذنة” للقاص “محمّد خضيّر” من مجموعته الشهيرة “المملكة السوداء” وركزنا على إيحاءات عنوانها فإن أقرب تأويل يرد إلى ذهن المتلقي هو أنّه سوف يطالع موضوعاً دينياً أو روحيّاً. لكن القصة تدور حول مومس سابقة تائبة سئمة في سرداب بيت الزوجية وتتشوّق لزيارة غرفتها القديمة في بيت البغاء.. وحين تذهب إلى هناك تشاهد من نافذة هذه الغرفة “مئذنة” بنت على رأسها أعشاشها اللقالق.
إنّ التعامل مع عنوان النص على طريقة “المكتوب يُعرف من عنوانه” وأنّه ثريا تضيء كل زوايا النص قبل فتح بابه والولوج في غرفه وممراته خطأ كبير.
ولكي يسهل على القارئ العودة إلى المصدر، هناك قصة أخرى من نفس المجموعة هي “أمنية القرد” عنوانها يخدع القارئ حتما ويربكه إذا تعامل معه على أساس أنه “ثريا النص”. فالقرد موجود لكن الأمنية للفتاة وليس له محملة بحفزات وصراعات نفسية معقّدة.
وقُلْ مثل ذلك عن عنوان نصّ سلام هذا: “لبناء عالم جديد”.. فما يوحي إليه هذا العنوان عند البداية هو سعي أو مشروع بناء عالم جديد. وهذا فقط. لكن كيف ؟ ومَنْ يضطلع ببناء هذا العالم الجديد؟ وكيف سيصبح؟ وما هي ملابساته؟ وغيرها من الأسئلة الكثيرة، فلا أحد يستطيع تحديد ذلك.. وإذا توقّع القراءة نهاية متفائلة في بناء هذا العالم الجديد فسوف يُصدم مع إجهاض هذا العالم و”دفنه” مع جثة أحمد..
إنّ الطريقة السليمة للتعامل مع العنوان من وجهة نظري، هو تأمّل أوّلي في إيحاءاته ثم إكمال النص والعودة إلى وضعه ضمن إطار الصورة الكلّية (الجشطلت –Gestalt) للنص.
وينك يا بلدي..
وقد عادت إلى ذهني ملابسات هذه الأطروحة “العنوان ثريا النص” حين طالعتُ القسم الثاني من الرواية الذي يحمل عنوان “وينك يا بلدي” حيث استعجلتُ وتساءلتُ: لماذا لم يستخدم سلام تعبير: وينك يا وطني؟ والعراقيون يستخدمون تعبير “وطني” أكثر من تعبير “بلدي”. لكن مع قراءة النص اتضح السبب المتسق مع سياق النص كما سنرى.
يستهل سلام هذا القسم بالقول:
“انتزعتُ نفسي بعناءٍ من الفراشِ عازماً على زيارتها. فقد مرَّ أسبوعان كنتُ فيها متردداً أَلومُ نفسي تارةً لقبولي بالمهمةِ وأشجعها في أخرى قائلاً في سرّي:
– لعلَّ زيارتي تبرّد قلبها!.
الغرفةُ معتمةٌ. لبثتُ على حافةِ مجرى الضوء مهدوداً أحاولُ التماسكَ كي أقوم بارتداء ملابسي. عاودني اللومُ:
– أي مهمة ثقيلة وافقتَ على أدائها!.
همستُ لنفسي بخفوتٍ متأرجحاً على حافةِ الوهنِ. شددتُ جسدي لثوانٍ لكنهُ انحلّ من جديد. فتهالكتُ على كرسي بمواجهة النافذة، ورحتُ أحملق شارداً ببقايا حديقة أبي وشجرة النارنج الوارفة جوار الجدار الخلفي للدكان الذي بنوه في سنين الحصار، لديّ أكثر من عشر ساعات عن الموعد الذي اتفقنا عليه تلفونياً، كانَ صوتها ناعماً يشف بالشوقِ وهي ترحب بيّ وتقول:
– وأخيرا ستتحقق أمنية عمري!.
وأرتجفَ صوتها مهتزاً بنبرتهِ الخافتةِ وهي تضيف:
– أريد التفاصيل كلها.. كلها!.
واختنقتْ بالكلماتِ. أصابتني عدواها فكدتُ أنهدّ ناحباً. ودعتها بارتباك وأغلقتُ الخط- ص 70 و71”.