خاص: إعداد- سماح عادل
“كريستين دي بيزان”، ولِدَت 1363م – وتوفيت 1430 ميلاديًا، كانت كاتبة في أواخر العصور الوسطى، ولِدَت بإيطاليا بـ البندقية وقاومت ما يُعرف باسم كره النساء (أو الميسوجينية) والأفكار النمطية السائدة في الثقافة المنتشرة في أواخر العصور الوسطى. وقد اشتهرت كشاعرة، وكتبت حوالي واحد وأربعين عملاً خلال الثلاثين عامًا في الفترة ما بين (1399م- 1429م).
وتعتبر أول كاتبة محترفة في أوروبا. انتقلت للعيش بباريس لعمل والدها كعرّاف عند ملك فرنسا “شارل الخامس”، أبوها “توماسو دي بينفينوتو دا بيزانو”، الذي عُرف لاحقًا بلقب “الغاليز توماس دي بيزان”، في إشارة إلى أصول العائلة في مدينة “بيزانو”. كان توماس طبيبًا ومنجمًا وسياسيًا في البندقية، وقبل التعيين في محكمة شارل الخامس الفرنسية عام 1368، رافقته عائلته هناك..
على عكس العديد من معاصريها، كانت متعلمة جيدًا منذ صغرها، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى والدها، الذي شجعها على التعلم ووفر لها الوصول إلى مكتبة واسعة. كانت المحكمة الفرنسية شديدة الفكر، واستوعبته هي كل شيء.
تزوجَت في عام 1380م في الخامسة عشر من عمرها كجميع فتيات هذه الحِقبة. وأنجبت ثلاث أطفال في عشرِ سنوات قبل وفاة زوجها بمرض الطاعون ووفاة والدها في العام الأسبق. وتُركت لتعول والدتَها وأطفالَها ومما دفعَها للكتابة حاجتها لكسب العيش. عاشت “دي بيزان” معظم طفولتها وحياتها البالغة في فرنسا ثم في دير ببلدية بواسي، وكتبت بشكلٍ باللغة التي نشأت عليها وهي اللغة الفرنسية الوسيطة. وبالرغم من كَونِها إيطالية الأصل، إلّا أنّ كتاباتِها ذاتَ وطنيةٍ فرنسيةٍ متأصّلة، وكانت معظمُ كتاباتها باللّغة العاميّة الفرنسيّة.
تميزت كتاباتها الشعرية الأولى والتي كانت في الغزل بإلمامها بالعادات الأرستقراطية، وخاصة تلك التي تخص النساء بالإضافة إلى ممارسة الفروسية. ولقد عكست رسائلها التعليمية الأولى واللاحقة معلومات عن حياتها ووجهات نظرها، كما تأثرت بالميثولوجيا والأساطير والتاريخ كما اهتمت بالاطلاع على الأنواع الأدبية والموضوعات الغزلية أو الدراسية للشعراء الفرنسيين والإيطاليين المعاصرين والذين نالوا إعجابها.
لاقت “دي بيزان” الدعم والتشجيع من رُعاة إنجليز وفرنسيين مهمين وملكيين، واستطاعت التأثير في الشعر الإنجليزي في القرن الخامس عشر. ويأتي نجاحها من مجموعة كبيرة من الكتابات الإبداعية والأساليب البلاغية والتي تحدت فيها كتابًا مشهورين من الرجال وتعرضت منهم لنقد لاذع، مثل جان دي مون والذين تضمنت أعمالهم الأدبية معتقدات معادية للمرأة.
مكانة مرموقة..
وفي العقود الأخيرة، عادت أعمال “دي بيزان” تحتل مكانة مرموقة من خلال جهود علماء مثل “تشاريتي كانون ويلارد، وإيرل جيفري ريتشاردز وسيمون دي بوفوار”. وتجادل بعض العلماء حول كونها من أوائل من كانت لهن اتجاهات نسوية، وأنها من اللائي استخدمن اللغة ببراعة وفعالية لتوصيل فكرة أن المرأة يمكنها لعب دور هام داخل المجتمع. إلا أن هذا التوصيف قابله نقاد آخرون بشيءٍ من التحدي حيث زعموا إما أنه استخدام للكلمة ينطوي على مفارقة تاريخية أو أن معتقداتها لم تتبلور كفايةً كي تستحق مثل هذا الوصف.
في 1402 اشتركت في الجدال الأدبيّ المعروف على قصيدة (رومانسية الوردة)، فقامت بالتّحريض على إقامة مناظرةٍ للتشكيك في الوقائع الأدبية لقصيدة (جان دي موي) لتصويره النّساء كأنهن مُغريات لا أكثر، وردت على ادّعاءات جان في كتابها (أقصوصة وردة) مؤكدة بأنّ وجهةَ نظرهِ كارهةٌ للنّساء بصورة فظّة وغير أخلاقيّة ومُغرضة.
كانت “كريستين” مفكرةً سياسيةً أيضا، ففي 1402 ووسط حرب المائة عام بين ملوك فرنسا وإنجلترا، نشرت قصيدة مجازية (الطريق للدراسة الطويلة)، تشير فيها أنّ من الممكن تحقيق العدل على الأرض من خلال حاكمٍ واحد ذي صفات ضرورية. وفي 1403 حكت قصة حياة الملك شارل الخامس في كتاب (الحقائق والأخلاق الحكيمة للملك الحكيم تشارلز الخامس) وصورته الحاكمَ والقائدَ السياسي الأمثل، ولكنها انتقدت أحوال البلاط الملكي.
بالإضافة إلى أنها كانت أكبرَ مناصرة للمرأة في زمنها، فكانت سابقةً لأوانِها، فأكملت في 1405 كتابَ (مدينةِ النّساء) وبعدَه كتاب (الفضائل الثلاث) المعروف بكَنز مدينة النّساء؛ يوضح الكتاب الأول أهمية إسهامات المرأة السابقة للمجتمع، والثاني يعلِّم جميع ساكنات المدينة كيفيّة غرس الخصال النافعة.
النساء في العصور الوسطى..
كانت المرأة ممقوتة في ذلك العصر ومستخفًا بها من قبل معظم الرجال، بحجة خطيئة حوّاء التي أَخرجت آدم من الجنة. وعلى الرغم من وجود بعض السيدات صاحبات النّفوذ في العصور الوسطى إلا أن الغالبية العظمى كانت مسضعفة. فكانت المرأة يُحدد لها طريقُها في مُقتبلِ حياتها، فتُوضعُ إمّا في إطار الزواج أو الرّهبنة، طريقان لا ثالث لهما. ولكن “كريستين” كسرت هذه القواعد عندما بَنت مستقبلًا لنفسها ولأطفالها بعد وفاة زوجها.
حكاية كتاب مدينة النساء..
تبدأ القصّة ب”كريستين” وهي تقرأُ كتابًا ل”ماثيليوس”، تقرأ منه قليلًا ثُمّ تَضَعه جانبًا مُستاءةً لخُلوِّه من المصداقيّة الأسلوبيّة والموضوعيّة. فتقول: هذا الكتاب بالرغم من أنّه لا يملكُ أيّ سلطةٍ، جعلني أتساءل كيف يميل كثيرٌ من الرجال – بما فيهم المتعلّمون- للكلام والكتابة عن النّساء بأسلوبٍ مهينٍ خبيث. ليس ماثيليوس هذا وحده، بل عامة الرّجال. يبدو في أطروحات جميع الفلاسفة والشعراء والخطباء -لا متّسعَ لذكر أسمائِهم- أنّهم يتكلَّمون بلسانٍ واحدٍ”.
فبدأَتْ بفحصِ شخصيّتها وسلوكِها كامرأةٍ طبيعيّة، وأيضًا فحَصَتْ مَن حولَها مِن سيدات المجتمع سواء كُنّ أميراتٍ أم سيداتٍ من الطبقتين المتوسّطة والفقيرة، أملًا منها أن تَحكُمَ بضميرٍ دون تحيّزٍ في كَونِ شهادةِ كثيرٍ من الرجال المرموقين صحيحة أم لا. وكلما أمضت وقتًا في مواجهة وتحليل المشكلة؛ لم تستطع أن ترى كيف يمكن أن تكونَ ادّعاءاتهم صحيحة طبقًا لِما قارَنَتْه بسلوك النّساء وشخصياتهم.
ومع ذلك جادلَت بشدّة ضد النساء فقالت: من المستحيل أنّ كلّ هؤلاء الرجال المشهورين الذين يحظون بفهمٍ عميقٍ، وعلي ما يبدو أنّ رؤيتَهم واضحةٌ في كلّ شيء أن يتكلموا كلامًا باطلًا في كثيرٍ من المناسبات في حق النّساء، فلم أجد كتابًا عن الأخلاق – أيًا كان كاتبه- إلّا وجدت فيه عدّة فصولٍ تهاجم المرأة.
تكتمل القصة مجازًا، فتأتي ثلاث سيدات، سيدة السبب، وسيدة الحق، وسيدة الاستقامة؛ ليوجِّهن كريستين ويعلّمونها كيفية بناء مدينةٍ للسيّدات العفيفات. تحكي لها سيدة السبب عن نبل النساء والمخاطر والصعاب التي يواجهنها. فتقول “كريستين” أن المرأة أنبل المخلوقات على وجه الأرض، ولكن برغم ذلك يقول شيشرون -كاتب روماني وخطيب- أنّه يجب على الرجل ألا يخدم أيّ امرأة، وأيُّ رجلٍ يفعل ذلك فإنّه يهين نفسه، فلا يجب على أيِّ رجلٍ أن يخدم أيَّ أحدٍ أدنى منه، فترد عليها سيّدة السبب بأنّ الرجل أو المرأة يحتكمان إلى فضيلةٍ أعظم، ليس الجلال أو الجنس، ولكن حسن المعاملة والفضيلة.
كانت الفكرة المركزية للكتاب هي إنشاء مدينة مجازية عظيمة، شيدتها النساء البطولات الفاضلات ومن أجلهن عبر التاريخ. في الكتاب، تخوض شخصية الكاتبة المتخيلة حوارًا مطولًا مع ثلاث سيدات يمثلن تجسيدًا للفضائل العظيمة: العقل والاستقامة والعدالة. تم تصميم خطابها لنقد اضطهاد النساء والمواقف المبتذلة المعادية للمرأة من الكتاب الذكور في ذلك الوقت. وقد تضمنت لمحات و”أمثلة” مأخوذة من نساء عظماء في التاريخ، بالإضافة إلى حجج منطقية ضد الاضطهاد والتمييز على أساس الجنس. بالإضافة إلى ذلك، حث الكتاب النساء في جميع المحطات على تنمية مهاراتهن والعيش بشكل جيد.
من الواضح أن شعرها قد تأثر بتجربتها الخاصة في فقدان زوجها، لكن بعض القصائد كانت لها نبرة غير عادية تميزها. تصف إحدى القصائد قصة خيالية لها حيث تأثرت بتجسيد الحظ و”تحولت” إلى ذكر، وهو تصوير أدبي لكفاحها من أجل أن تكون معيلة لأسرتها وتؤدي دور “الذكر”. كانت هذه مجرد بداية لكتاباتها عن الجنس.
السياسة..
خلال حياة “كريستين” كانت المحكمة الفرنسية في حالة اضطراب كبير، حيث كانت الفصائل المختلفة تتنافس باستمرار على السلطة وعجز الملك معظم الوقت. حثت كتابات “كريستين” على الوحدة ضد عدو مشترك وهم الإنجليز بدلاً من الحرب الأهلية. لسوء الحظ، اندلعت الحرب الأهلية حوالي عام 1407.
في عام 1410 نشرت “كريستين” أطروحة عن الحرب والفروسية، ناقشت فيها مفاهيم الحرب العادلة، ومعاملة القوات والسجناء، وغير ذلك. كان عملها متوازنًا في وقتها، حيث تلتزم بالمفهوم المعاصر للحرب كعدالة إلهية ولكنها تنتقد أيضًا الأعمال الوحشية والجرائم المرتكبة في زمن الحرب.
نظرًا لأن علاقتها بالعائلة المالكة ظلت على حالها، فقد نشرت “كريستين” أيضًا كتاب السلام، آخر أعمالها الرئيسي، في عام 1413. كانت المخطوطة مكرسة للداوفين الشاب، لويس من جوين، وكانت مليئة بالنصائح حول كيفية الحكم الجيد. في كتاباتها نصحت “كريستين” الأمير بأن يكون قدوة لرعاياه من خلال كونه حكيماً وعادلاً ومشرفاً وصادقاً ومتاحاً لشعبه.
بعد الهزيمة الفرنسية في أجينكور عام 1415، ابتعدت عن المحكمة وتقاعدت إلى دير. وتوقفت كتابتها على الرغم من أنها كتبت أنشودة إلى جان دارك في عام 1429، وهو العمل الوحيد باللغة الفرنسية الذي كتب في حياة جوان.
وفاتها..
توفيت “كريستين دي بيزان” في الدير في بواسي بفرنسا عام 1430 عن عمر يناهز 66 عامًا.