قالت شهرزاد: أتعبتني روح العدوانية لدى الكثيرين من حولي، في غالب الأحيان لا أجد تفسيرا منطقيا لها ،أرجوك لاتقل إننا سنواجهها بالمحبة .. أجدها عاجزة عن تحقيق ذلك.
– كانكِ تميلين الى القول :إن العدوانية مولودة مع الإنسان ، ويقينا ياشهرزاد :”حينما ندرك أن العدوانية خُلقٌ مكتسب وليست فطرة انسانية فإننا نواجهها بالمحبة ، أمّا حب السيطرة فهو طموح بشري يُكبح برسائل طمأنة مستمرة تحقق الأمن الداخلي للسادي لكنها تعلو من جديد بزوال المؤثر”.
– بصراحة لا أتفق معك فأنا مقتنعة بهذا الرأي ، كأن بعض الناس خلقوا وهم عدوانيون ،ولا يجدون الراحة إلا في إلحاق الأذى بالآخرين .
شهريار : حسنا سأحاول إقناعك ابتداءً بأنه خُلُقُ وليس طبيعة ،علّها تتكشف أمامك أسرار تلك الوديعة ، فإن عرفنا السبب بطل العجب ،وإني لأميل الى قول :إن العدوانية خُلقٌ ثقيل تودعه في النفوس ظروف المجتمع القاسية، وما أكثرها عبر التأريخ ،وبالرغم من ذلك فالمجتمعات الإنسانية القديمة كانت خالية من العدوانية ، ففي قديم الزمان حيث كان الإنسان يجمع قوت يومه بصعوبة بالغة ،ويعيش ظروفا قاسية ، لكنه شهد مجتمعات متآلفة لاجرائم فيها ولا اغتيالات ، ولا أملاك خاصة، لم تكن العدوانية موجودة ، ولاحاجة للعسكر والسلطة والنظام ، ببساطة شديدة لم يكن هنالك تنافس ، ولا رغبة بجمع المال، أو اتخاذ الخدم وجمع الحشم ، وغزو مجتمعات أخرى لتوسيع دائرة الهيمنة ، فلا أحد يبحث عن ذلك ، وينقل لنا المفكر الالماني إيريش فروم عن (كولين توربغول) مثالا حيا لتلك المجتمعات الطيبة فيقول : (هم بمجملهم صيادون بدائيون يطلق عليهم بيغماين “pygmaen” في وسط افريقيا ، ولا يختلفون كثيرا عن أولئك الصيادين قبل ثلاثين آلف سنة،إنهم يعيشون وسط الأدغال،وقلما تحدث العدوانية بينهم،بالطبع قد يحدث أن أحدهم قد يثير إزعاجا، لكن لن يكون أبدا سببا لتجاوز التقليد عندهم في مسألة ندرة العدوانية. واذا صادف أن أحدا يثير مشاكل ليشعل حربا ، ويهدف الى قتل الناس ، فهناك في العرف شيئان مختلفان تماما، يجب أن يكون لدى أحدهم قلة بصيرة لدرجة كبيرة ، عندما لايستطيع أن يرى الفرق الكبير فيما بين الأمرين : بين أن يكون هذا مثيرا للإزعاج ، او أن يكون قلبه مملوءاً بالكراهية) .
وأرى ياشهرزاد أنك تخلطين بين الأمرين بين الحين والحين ،ولست هنا بصدد تعميم قصة الصيادين الطيبين ، ففي أزماننا هذه تتجسد السلطات القهرية والتهميش والحروب وحب السيطرة ، والإحساس بالظلم أمور توقد في النفوس صفات الكراهية والحقد ، وتصيب القلوب بأمراض العدوانية ، لا ننكر ذلك لكننا نستطيع القول إنها خلق مكتسب فرضته الأحوال ،وتداعت له الأفعال والأقوال .
شهرزاد : لكن الكثير من الناس لا يعانون مما ذكرت ، وبرغم ذلك فهم عدوانيون في ردود أفعالهم ،وأنا أتحفظ على قولك : إنني أخلط بين مثير الإزعاج والعدواني .
-هل شققتِ عن قلوبهم ياشهرزاد حتى تعرفي إنهم لم يعانوا من القهر النفسي والتهميش والظلم ؟! ، دعينا نبدأ من حيث إنتهيتِ ، إن الخلط بين مثير الإزعاج والعدواني وارد لدى الكثير من الناس ، فهما يأخذان شكلا ظاهريا واحدا ، فمثير الإزعاج يحاول إثارة إهتمام الآخرين به رغما عنهم ، وهو يشعر بسعادة لحظية حينما يحقق غايته، إنه إنسان يعاني من الوحدة وغربة الروح ،وإنْ كان يعيش بين الناس ، هو المتجهم دائما الى اللحظة التي يثير بها ألما في صدر أحدهم فاذا إحمرت وجنتا الضحية ،وانتفخت أوداجه غضبا ، تبسم صاحبنا وهو يشعر بتحقيق كيانه الضائع ، إنه يستفز كل من حوله ويتفنن بإثارة حفيظتهم ليقول في نفسه :” أنا أُغضِبُهم إذاً أنا موجود”.
ذلك الموجود الغائب علاجه بسيط ، وتدمير مخططاته الماكرة أكثر بساطة مما تظنين ، وأمّا تدمير مخططاته فبتدريب النفس على عدم إظهار الإنزعاج من مقالبه الدورية ، والتحسب لكل حركاته البهلوانية ، وكذباته اليومية، فإذا استطاع أحدنا أن يرسم على وجهه ابتسامة استنكار يقابل بها فعله المزعج ويلتزم الصمت ، فذلك كفيل بإثارة عجبه ،وإشغاله ليوم كامل ،ويوما بعد آخر سيعرف في قرارة نفسه إنه لم يعد مزعجا كما كان ، أمّا علاجه فاهتمام وتقدير قبل أن يبدأ التفكير بخطة جديدة للإيقاع بنا مرة أخرى ، وقد قلنا ابتداءً إن الإهتمام واحد من أهم مفاتيح القلوب المغلقة ،وإنه لبلسم لغربة الروح ،ولعلل النفوس القابلة للعلاج ،ومنها قلب ذلك المزعج ،نحن هنا نستبق الرذيلة بالفضيلة والإزعاج بالطيبة ، والإحراج بالإحترام والإثارة السيئة بالاهتمام ، غايتنا رد شر ظاهر وإبعاد أذى خفيف، لكننا بذلك الإحترام والتقدير قد نستنهض في صاحبنا الإعتراف بوجوده الطبيعي ليزيح عن قلبه ذلك الخلق المكتسب ، وحينها نكسب راحتنا ،ونحقق مبدأ ( سعادتنا بإسعاد الآخرين ) في أحد معانيه على أقل تقدير .
دعيني أضرب لك مثلا عن أحد المزعجين وهو صديق مقرب ، كانت العلاقة بيننا إبتداءً زمالة كليتين في جامعة بغداد ،وإنه ليشكو من قلة الأصدقاء والرفقاء ، وإنْ لم يصرح بذلك ، مَرِحٌ حينما يجد ضحية لمقلبه الصباحي ، ومتجهم إنْ دار نقاش في النادي الطلابي من غير أن يُذكر اسمه ، او تُمتَدَحُ مساوؤه التي يراها محاسن فريدة ، يقطع كلام المتحدثين من غيرتردد ،ويسعى لتشتيت أفكارهم عامدا قصدا ، وحينما تثور دواخلهم ،ويعربون عن إنزعاجهم يضحك ضحكة السعداء ، ويتسلح بملامح الأقوياء ، وهو على هذا الحال في الليل والنهار ، وإني لأسمع تأفف الحاضرين حينما يقبل (أبو المكائد) من بعيد ، لكنني كنت أعرف علّته ، وأشفق على حالته ، بل إنني أبتسم حينما يُقبل ، وأنا على يقين بأن دواخله بيضاء لا تحمل شرا مستفيضا ولا حقدا،وهي بحاجة الى إهتمام متواصل يشعره بوجوده ، وحقيقة أهميته كصديق ودود ، وليس مزعجا حقودا.
حينما يتحدث بكلام نافع أبتسم له وأؤيده ، وحينما يستعرض ( محاسنه ) أبتسم في وجهه تلك الإبتسامة النكراء التي تحبط إحساسه بالنشوة والانتصار على الضحية ، يوما بعد أخر صار ينشغل عن المحيطين به بنقاش لطيف معي عن أحوال الدراسة ، وكان للتشجيع أثر طيب بتحسين معدلاته ، حتى جاء اليوم الذي فتح لي قلبه، وحدثني عن نبضاته المتسارعة لفتاة يشعر بالمودة نحوها ، أخيرا سنحت الفرصة ليتحرر من آلامه ويعوم في بحور الحب والشوق ، ويختفي من حوله الجميع ، ويطير بأجنحة سعادة سرمدية في فضاءات الكون الواسع .. إنه الحب الذي يمحو أثار الماضي المؤلمة ، وينير القلوب المظلمة ، وينعش الأرواح ، وينشر الأفراح ، وينسي الأتراح .
قاسمني الأيمان أنه يحبها ،وينوي الزواج بها بمجرد أن يكسب ودها وقبولها ، وفي صبيحة يوم ربيعي صرح لها بحبه ، وكشف لها مكنونات قلبه ، وترك لها مجالا للتفكير،علّها تكمل معه المسير ، لكن شبيه الشيء منجذب إليه ، وهي بمكرها ذكرتني بحاله الذي كان عليه ، انتظرَ لأيام وأيام ، وهي بين تمنع وانسجام ، حتى جاءت لحظة الإنتقام : عذرا أنت لا تنفعني ،أراك لحوحا متسرعا .. بصراحة أراك مزعجا .
لم يعد أبو المكائد كما كان ، صار حزينا منطويا على ذاته ، مرتعدا ممن حوله ، حزين القلب ،شاحبا وجهه ، مصدوما بحقيقته التي لم يكن يصدقها ، ويالها من صدمة أحالته الى طبيب نفسي .
في عيادة مشحونة بحركات المرضى النفسيين ، وأحاديثهم المبعثرة ، وآمالهم المتناثرة بين ذكريات السنين ، كنت أتكئ الى جدار قريب من غرفة الطبيب ، حيث وقف أبو المكائد ووالده رحمه الله ، كان صاحبي يردد عبارات غير مفهومة إلا قوله : ( هي لا تعرفني أنا لست مزعجا .. هي المزعجة ..الماكرة) ، ثم يعود الى عالمه الخاص يسطر أمجاده بحروف لا يفقهها أحد .
شبكت أصابع يدي اليمنى بأصابع يده اليسرى حينما علا صوته ، وجابهته بابتسامة عريضة ،وتقاطرت دموعي في لحظة ألم شديد .. لن أنسى كيف أن دموعه سابقت دموعي حينها ، ومسح بيده اليسرى دموعي ( رأفة بحالي) .
بعد فترة علاج لم أنقطع فيها عن زيارة شبه يومية لأبي المكائد ، وأنا اغرس الأمل فيه غرسا ، وأصطنع الضحكات ، وحتى المقالب لأرسم الإبتسامة على وجهه من جديد ، كنت أردد بلا انقطاع : (كل من حولك يحبك .. أنظر الى أبيك وأمك وأخوتك وجدتك ، كم أنت مهم لديهم ،إنهم يواصلون الليل والنهار يدعون لك، ويحيطونك بالإهتمام والمحبة ، كم أنت مهم لديهم ،وانا أحبك كما تعلم ) ، حتى منّ الله عليه بالشفاء ، إستعاد عافيته حينما أدرك أنه ذو أهمية كبيرة في قلوب أهله وبعض زملائه الذين تقاطروا عليه في زيارات متعددة شهدت بعضا منها ،أدرك في قرارة نفسه أن علّته الحقيقية تكمن في فهمه الخاطئ للمقربين، كان يراهم فيما سبق منشغلين عنه كارهين لتصرفاته ، وهو يعكس ذلك الإنطباع على المحطين به في الجامعة ، وعلى كل من يعرف خارج محيط الأسرة ، حتى حينما أحبَ ، او هكذا كان يعتقد، لم يستطع أن يتخلى عن رغبته بإزعاج الفتاة التي خَفَقَ لها قلبه ، بل إنه كان ينافسها في ذلك ،لكنه اليوم يشعر بالثقة والأهمية ،هو موجود في قلوب أهله وأصحابه النادرين ،وزملائه المتفهمين ، عليه أن يبدأ من جديد ، أن يبتسم ابتداءً ليبعث رسائل محبة ، وينال الثقة في قلوب مزيد من الناس ، ليشعر بكيانه واتساع دائرة تأثيره ، حينها يكون محبا لنفسه ولمن حوله ، سيختار قلبه التي تحبه بحق ، وتوافق طباعها الطيبة ،وشخصيته الجديدة المحبة لكل الناس بلا إزعاج .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]