خاص: إعداد- سماح عادل
ربما من المحزن أن يتحول الفيروس، الذي سبب الرعب للعالم، لأن يكون منقذا لبعض الكتاب أو على الأدق الكاتبات، اللاتي لم يتوفر لهن الوقت أو الرفاهية للكتابة الأدبية في مجتمعاتنا الشرقية، والتي يستنزف فيها الجميع والمرأة بشكل مضاعف، فالمرأة الكاتبة في مجتمعاتنا يجب أن تعد في أحسن الأحوال بطلة خارقة، لأنها تتحدى كل الأعباء والالتزامات التي فوق كاهلها، تغافلها لتنعم ببعض لحظات لتكتب فيها ما يمتلئ به عقلها وروحها، وكان الفيروس سببا لتوفر التفرغ للكتابة لدى بعض الكاتبات دون التزامات حياتية وعملية مجبرة على الانصياع لها.
لذا كان لنا هذا التحقيق الصحفي الذي يجمع آراء الكتاب والكاتبات حول تأثير العزلة العالمية بسبب الفيروس عليهم، وقد وجهنا لهم الأسئلة التالية:
– كيف كان تأثير ظهور فيروس “كوفيد ١٩”والعزلة التي صاحبته لمدة عام ونصف على الكتابة لديك؟
– هل أثرت العزلة على حركة الثقافة وعلى نشر وتوزيع الكتب خاصة مع قلة الفاعليات الثقافية من معارض كتب وندوات؟
تأثير سلبي..
يقول الكاتب السوداني “أمير تاج السر”: “بلا شك كان لظهور هذا الوباء المخيف وما أدى إليه من دمار في كل شيء، تأثيره السلبي على الكتابة الإبداعية، كثيرون توقفوا تماما عن التأمل في المسألة الإبداعية وانشغلوا بالخوف المصاحب للمرض، واحتمال الموت من جرائه، لذلك أستطيع القول أن الكتابة ترنحت بشدة لدى كثيرين، هناك مشاريع كتابية لم تكتمل، وأخرى لم تبدأ أصلا، بالنسبة لي توقفت عاما كاملا بسبب انزعاجي طبعا، وأيضا بسبب انشغالي بمكافحة المرض بوصفي طبيبا.
واستطعت فقط في بداية هذا العام أن أنجز روايتي التي كانت فكرة معلقة، لكن بمرور الوقت يبدو أن الناس تعودت على كوفيد ١٩، وبدأ كثيرون يحاولون كتابته رواية وأظن صدرت للبعض روايات بالفعل عن تلك العزلة المفروضة”.
ويضيف: “العزلة أثرت كثيرا جدا على حركة الثقافة، فقد توقفت معارض الكتب لفترة طويلة، وفقد كثيرون وظائفهم، وقلت المداخيل المادية، وأصبح شراء الكتب من المعضلات الكبرى، لكن الناشرون في الغالب لم يستسلموا وظلوا ينتجون حتى مع محدودية القراء، على أمل أن تتعدل الأمور، وأظن مع التطعيم ضد الفيروس الذي انتشر في معظم الدول، يمكن استعادة بعض التوازن، والأمل في القضاء على الفيروس.
الفعاليات كما ذكرت في مقال لي، اخترعت لها دربا، وهو درب سهل وغير مكلف، حيث يستضاف المبدعون في لقاءات الزوم التي يحضرها المبدع افتراضيا ويتحاور مع جمهور افتراضي، هذه كانت حلا سريعا لمسألة التفاعل بين المبدع وجمهوره، لكنها ليست مثل اللقاء المباشر، وأتمنى أن لا تصبح عادة بعد عودة الأمور إلى نصابها”.
في مديح الكورونا..
وتقول الكاتبة التونسية “فاطمة بن محمود”: “إذا كان إرنستكاسيرر يعتبر الإنسان كائنا رامزا فإني أعتبر أن الإنسان كائن حالم، هنا لا أقصد الحلم بالمعنى الفرويدي بل الحلم بما هو خطة بديلة واعية لواقع متأزم أنتجته الكورونا يحتاج المبدع أن يعيد تركيبه خياليا دون القطع الكلي مع الواقعي.
مثلما لا نعيش زمن الثورات كل يوم فإننا لا نعيش زمن الأوبئة كل يوم، لذلك قادتني الدهشة تجاه هذه الظاهرة الوبائية (الكورونا) إلى مزيج من المشاعر المختلفة يختلط فيها التوجس بالألم والخوف بالأمل وكان يجب ألا يعبر الوباء حياتي بصمت ساذج، لذلك كانت طريقتي في التعاطي معه هي بالكتابة فيه وعنه وحوله ومن هنا وُلد مشروع أدبي جديد هو كتابة يوميات الكورونا”.
الكورونا صديقتي..
وتواصل على عكس أغلب الناس من حولي وجدت في الكورونا وجها آخر وتستحق المديح، شيء، يخصني وحدي، يقول إنّ هذه الكورونا صديقتي، فقد وفرت لي ما تحتاجه امرأة تقوم في الحياة بأدوار عديدة تجعلها منهكة جدا، وفرت لي الكورونا متعة التفرغ للكتابة وهو ما لم توفره لي العائلة التي لا يكف أفرادها عن مطالبتي بواجبات تجاههم تحولني إلى آلة عمل ولم توفره لي الدولة التي لم تمنحني منحة إبداع تجعلني أستغل وقتي وموهبتي للأدب وما جاوره.
بالنسبة لمن تجدّ في عملها وملزمة بأعباء العائلة وفواتير الحياة، بارّة بأبنائها ولا تستطيع توفير ثمن خدمات معينة منزلية تصبح الكتابة لمثل هذه المرأة التي هي أنا معجزة حقيقية.
لذلك كل الوقت الذي كنتُ اختلسه للكتابة قبل الكورونا كان يجعلني ألهث خلف فكرة حتى لا تضيع وكثيرا ما ضاعت مني أفكارا عديدة، ألهث خلف اللغة حتى لا تتلاشى مني ويحدث أن تخذلني.
الآن الكورونا تمنحني هدية لا تقدر، كل الوقت أصبح ملكي وهذا يكفي ليجعل من الكورونا صديقتي، لذلك على خلاف كل من حولي كنت سعيدة بأن ألتزم بالحجر الصحي كمواطنة صالحة في دولة فاسدة”.
في ترويض الوباء..
وتضيف: “اخترت أن أكتب في أدب اليوميات التي لم تكن سوى محمل أدبي ووسيلة لترويض الوباء وتحويله إلى مادة أدبية، بحيث أصبحت الكتابة بالنسبة لي تقريبا ممارسة يومية يمكن من خلالها أن أدرك العوالم الجوانية للذات الكاتبة كما يمكن أن أتمثل بهدوء الواقع الذي أعيش فيه، لذلك أعتبر هذه اليوميات تعكس بشكل ما ذات واعية ومتشظية وحالمة كما أنها شهادة عن واقع متأزم وعنيف بمختلف أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لكل ذلك كان يجب فعلا أن أجعل من الكورونا صديقتي حتى أكتب بتلقائية وعنف وتوتر وقلق ولذلك يجد القارئ لهذه اليوميات ذات متألمة ومتشظية ومنكسرة ومرهقة وحالمة وعنيدة وثائرة وأحيانا قتيلة.
كان الواقع ومايزال أحد مصادر الألم بالنسبة لي لذلك أكتب وعلى امتداد ثلاثة أشهر مدة الحجر الصحي الأول في تونس انتهيت إلى كتابة خمس وخمسين نصا، لم تكن مقالات صحفية أو خواطر انطباعية بل نصوصا أدبية تمثل شهادة عن مرحلة وبائية مفاجئة وصادمة واخترت لكتابي العنوان التالي “صديقتي.. قاتلة”. نشر في دار الكتاب بتونس في حجم متوسط امتد على 280 صفحة، طبعة أولى/ جوان 2021.
لم أرغب أثناء فترة الحجر الصحي أن تكون الكتابة نشاطا يوميا معتادا بحيث تفقد بريقها وتصبح روتينا لذلك عندما تخذلني فكرة ما لم استطع ترويضها وتحويلها إلى نص كنت أشغل نفسي بما يغذي الكتابة من ذلك مشاهدة أشرطة سينمائية (23 فيلما) وقراءة روايات وكتب (11 كتابا) كما انشغلت بمقالات في النقد الأدبي وغيرها (8 مقالات)”.
متلازمة ستوكهولم..
وتكمل: “عندما بدأت الموجة الأولى للكورونا تخف تدريجيا، بدا الجميع من حولي مبتهجون بعودة الحياة إلى المدن والكثير يشيعونها بالشتائم، الشوارع تستعيد عافيتها والمقاهي تحتفي بروادها ومطاعم البيتزا تعج بعشاقها. الكتّاب أيضا كانوا سعداء بالكورونا تولي أدبارهم ويلقمونها الشتائم لأنها شوّشت عليهما هدوءهم وأصابتهم بالخمول والكسل، يبدو أنه وحدي التي أنظر إلى الكورونا وهي ترحل بحزن لا أجاهر به وأنظر بشفقة لتلك المرأة الشغوفة بالكتابة والتي ستفتقد تلك العزلة الذهبية، ذلك التفرغ التام للأدب وما جاوره الذي منحته لي صديقتي القاتلة.
يبدو أني الوحيدة في تلك الأيام التي افتقدت الكورونا وتحسرت على رحيلها، من المخجل أن أفتقد الوباء الفتاك الذي أرعب العالم، من المخجل فعلا أن أتحسّر على رحيل القاتلة المتسلسلة التي خلّفت العويل في بيوت كثيرة وتركت خلفها نحيب الأرامل ودموع اليتامى لكن ليس ذنبي أن توزع الكورونا الموت على الجميع وتمنحني حياة لأقرأ روايات كثيرة وأشاهد أفلام عديدة وأكتب.
ليس خطئي أن تسرق الكورونا حياة الآخرين وتمنحني حياة في الكتابة وتوفر لي الوقت لأقرأ كثيرا وأتغذى من مشاهدة الأفلام وأكتب. من المحزن فعلا أن تنطبق عليّ متلازمة ستوكهولم وأحزن لرحيل الكورونا لكن يعكس هذا حقيقة الواقع البائس الذي يعيشه المبدع اليوم في زمن معولم وفي سجون كبيرة نسميها أوطانا.
أتذكر ما قاله سهيل ادريس أن “الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا” وأقول أن كل البلدان العربية تقريبا لا تصلح للحياة، لذلك كل هذه السماوات الرحبة في سجوننا الكبيرة التي نسميها أوطانا لا معنى لها. لا يمكنني أن أطالب بالحرية من مجتمع منغلق ومن أنظمة كليانية تعتبر الثقافة ترف المجتمعات لذلك كنت مضطرة لصداقة الكورونا لتوفر لي ما يحتاجه كل كاتب: التفرغ التام للكتابة وما جاورها من قراءة كتب ومتابعة أفلام ومراقبة الحياة.
من المفارقة فعلا في أوطاننا البائسة أن يتحول الوباء نفسه إلى طوق نجاة للمبدعين. لكل ذلك ليست جريمة أن تكون الكورونا صديقتي.
لذة الكتاب..
يقول الروائي اليمني “سامي الشاطبي”: “أحيانا تغدو الأشياء التي تبدو بشعة للناس مثل فيروس كورونا نافعة! والمنفعة هنا تجسدت في عزلة الناس التي أدت إلى انشغالهم بمسائل أخرى كالقراءة! لقد انتصر الكتاب في أزمة كورونا واوجد قاعدة شعبية له ستترك تأثيرها على الجيل الحالي الذي استطعم لذة الكتاب، وبالتأكيد سينقل تلك اللذة إلى الجيل القادم”.
وعن تأثير العزلة يقول: “الكتاب الورقي هو أصلا قد تأثر بالغ التأثير من هجمة الانترنت والكتاب الورقي. المحظوظ مع أزمة كورونا هو الكتاب الالكتروني الذي ارتفعت مبيعاته كنسخة الكترونية بحسب اطلاعي وارتباطي بعدد من الدور العربية إلى مستويات كبيرة.
في المجمل إن وقوع الأفراد بمختلف تلاوينهم وأفكارهم تحت رعب كورونا دفعهم إلى المعرفة بحثا عن أفضل الوسائل والطرق لتجبنه. بعد كورونا الآن يجد الأفراد سببا آخر ليدفعهم إلى البحث المعرفة، أم أن البحث عن المعرفة صارت إدمانا كورونيا يتطور مع الوقت ليشمل الكتاب والمعرفة بكل صنوفها”.
تأثير على شهية القراءة..
ويقول الكاتب السوري “ماهر رزوق”: “أستطيع أن أقول أن تجربة العزلة بسبب الوباء هي تجربة جديدة كلياً بالنسبة لي، لأنني شخص اجتماعي بطبعي، وأحب دائما أن أتواجد في أماكن الازدحام والأماكن العامة.
كان للعزلة أثراً سلبياً على مسألة الكتابة لدي، لأنني غالباً ما أتبع أسلوب المراقبة والتحليل لتصرفات الناس وأكتب عنها، وهذا ما جعلني فقيراً من الناحية الأدبية في هذه الفترة، فحاولت أن أعمل في ترجمة مقاطع من الكتب بشكل مكثف أكثر لأعوض عن الفقر الإبداعي الأدبي.
كان هناك بالتأكيد شح في الكتب المنشورة أيضا، والمشكلة الأكبر كانت في إيصال الكتب إلى مناطق مختلفة من العالم.. بسبب الوباء كان ذلك الأمر صعبا وربما في بعض الأحيان مستحيلاً.
بسبب ذلك لجأ القراء إلى قراءة الكتب الالكترونية، من كان يقرأها سابقا لم يجد صعوبة، لكن من كان لا يفضلها، اضطر عليها مجبراً، وهذا الأمر لابد أن يكون له أثراً سلبياً على رأي القارئ في جودة المضمون وكذلك تأثيراً سلبياً على شهيته للقراءة”.