12 فبراير، 2025 7:03 ص

لميعة عباس عمارة.. صوت نسوي يفرض حضوره وينشر أريج عذوبته

لميعة عباس عمارة.. صوت نسوي يفرض حضوره وينشر أريج عذوبته

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“لميعة عباس عمارة” شاعرة عراقية شهيرة، اتسمت قصائدها بالعذوبة والجمال، وكانت تتميز بالجرأة، كتبت الغزل وكانت لها طريقتها المميزة في تناوله، كما تغنت بالعراق في قصائدها. كان نتاجها الأدبي تسعة دواوين، واحد منها بالعامية.

نشرت أول قصيدة وهي طفلة في عمر أربعة عشر عاماً في مجلة ”السمير“. وصفها المحرر “إيليا أبو ماضي” في ذلك الوقتً: “إذا كان في العراق أطفال كهؤلاء فإنه مقدم على نهضة شعرية”.

شهرزاد..

في حوار معها أجرته “عفاف نعش”  تقول “لميعة عباس عمارة” عن قصيدة “شهرزاد”: “نعم “شهرزاد” قصيدة جميلة، كتبتها في السنة الثانية من الكلية وكانت من المربعات. كانت هـدية لبدر شاكر السياب، كتبتها له وهو أجاب عن كل مقطع. كنت أكتب بيت شعر وهو يجيبني بقصيدة كاملة. كان بيننا حوار شعري”.

وتواصل عن “بدر شاكر السياب”: “ذكرياتي معه جميلة، كان كريماً كأي بصراوي، رقيق القلب، زكي النفس والرائحة، رغم أنه كان يدخن كثيراً. كان لطيف المعشر وأحيانًا عصبي المزاج ومتوتراً. التقينا أول مرة طلاباً في دار المعلمين العالي، أنا في الصف الأول في قسم الأدب العربي وهو في الصف الثالث قسم اللغة الإنكليزية. كنا نحن الطلاب نجلس حوله لنستمتع بحديثه العذب وشعره. كان إلقاؤه رائعاً وكأنه يمثل القصيدة أحياناً. التقينا آخر مرة في لقاء تاريخي سُجل ودُعيَ إليه الناقد الكبير علي جواد الطاهر. بدر ألقى قصيدته “العصماء” وأنا ألقيت قصيدة عن المرأة الشاعرة لم يفهمها أحد غيره”.

وتقول عن المرأة الشاعرة: “أعتقد أن المرأة إما يجب أن تتفرغ لتربية الأولاد وإدارة البيت أو للشعر والإبداع، الجمع بين الاثنين صعب. مثلاً، أنا انقطعت أربع سنوات عن كل شيء ولم ألتق بأحد. القصيدة التي ألقيتها في تلك المناسبة كانت “الزاوية الخالية”. الحضور من الرجال قالوا “هذه قصيدة قدور وصحون” والنساء قلن “غطينا رأسنا من الخجل”. انظري كيف يستقبل المتلقي القصيدة وكل منهم يعبر عن واقعه وفهمه ولكن القصيدة كانت للسياب وهو فهم ما كنت أرمي إليه”.

وعن كونها مُلهمة “عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر” تقول: “لا أدعي ذلك ولا أثق بالشعراء. نعم هو قرأها لي ولكنه كان يقرأ لي كل شعره. هو أضاف “مطر مطر مطر” فيما بعد فهذا الجزء لم يكن في القصيدة في البداية ويختلف في المضمون”.

وعن الحوار الشعري بينها و”السياب” تقول: “كنت أقول له بيتاً أو فكرة شعرية، هو يتأثر بجزء أو كلمة ويأخذ هذا معه ويبحر به ويجاوبني في اليوم التالي بقصيدة كاملة. في شهرزاد مثلا قلت “أساطير نمّقها الخادعون/ وأشباح موتى تجوب العيون”، هو كان يجيبني عن هذا بقصيدة ثم جمع قصائده بعد ذلك في ديوان أسماه “أساطير” متأثراً بقصيدة “شهرزاد” وغير هذا الكثير. كنا أصدقاء وكان يقرأ لي وأقرأ له ونتناقش في كل شيء”.

وعن إدعاء أنهما كانا أكثر من صديقين واتهامها بأنها لم تكن جادة مع السياب تقول: “هذا ليس صحيحاً، السياب كان أعز أصدقائي وكتبت وأهديت له الكثير من قصائدي ولكن الظروف تحكمنا. المانع هو نفسه دائماً الصحة والدين، عذران بل حقيقتان حددتا الكثير من تفاصيل حياتي، وأحيانا أستنجد بهما. كنت أنوي لقائه في الكويت ولم أحظَ بذلك فعندما حصلت على جواز سفري وأصبح من الممكن أن أسافر هو مات وحيداً في مستشفى الكويت. الكل قسا على بدر، الكل بلا استثناء. ربما كانت ردود فعله عنيفة قليلاً. كل من كان في العراق كان يشعر بالغبن وعندما جاءت الشيوعية استهوت الجميع لأن “المظلوم يدور على فَدْ شي يجلّب بيّ” (يبحث عن شيء يتمسك به).

بدر صار شيوعياً، واستمر بكتابة قصائد الغزل وهذا أغضب الحزب الشيوعي. كان من المتوقع منه أن يكون ثورياً فقط، وهذا من غير الممكن؟ الشاعر لا يُحجَّم، لا يُنظَّم ولا يُـقيَّد، ليس من الممكن ذلك. زُعماء الحزب الشيوعي أهملوه، جاع ومرض ولم يسألوا عنه بينما كانوا يبعثون بغيره بمنح دراسية إلى الاتحاد السوفييتي. هو تركهم وغيّر مساره ولكن لم يخنهم ولم يعمل ضدهم. تصوري عزيز الحاج كان يقول: “إذا رأيتم السياب ابصقوا بوجهه حتى يعرف قيمة من ينقلب على الحزب”. هذا الكلام عن بدر شاكر السياب، تصوري! أنا أهديت له الكثير من قصائدي في حياته وفي غيابه وهو كتب لي الكثير. آخر ما أهديت له قصيدة أسميتها “لعنة التميّز” في بداية التسعينيات وقُـرئَتْ في جمعية التمييز العنصري العربية”.

وتوضح أنها بعد رحيله: “نعم هو الشعور بالارتباط رغم الرحيل. أنا قلت:

“يوم أحببتك أغمضت عيوني

لم تكن تعرف ديني

فعرفنا وافترقنا دمعتين

عاشقاً مُتَّ ولم تلمس الأربعين

وأنا واصلتُ أعوامي

أو واصلتُ تسديد ديوني

ودرست الدين من بوذا وزرادشت و إبراهيم

صليتُ مع الرهبان

صِمتُ الصيف في رمضان

وعُمّدت على جبين أبي في النهر

لمَست جبيني الحكمة في الدين

ولكن حماة الله قسراً أبعدوني

ومن الطوفان حتى سانديغو

لم أزل أعثرُ بالقيد الذي هم ألبسوني

فاعذروني إن تكن صومعتي دون شبابيك وباب

فأنا أحذر أن تجرحني الريح

وأن يُغلق باب اللّه  دوني”.

التمييز..

وتقول عن معاناتها من التمييز العنصري: “طبعا عانيت وإن كان مُبطناً. مثلاً كان يُسمح للصابئة في المدارس والجامعات بنسبة 2%  فقط. أنا مثلاً وآخر درسنا والبقية في الشارع. الصابئة يتمركزون في الجنوب وبالأخص في العمارة، بهذا القرار تكون نسبة المندائين المتعلمين في العراق 2% فقط وهذه سياسة مُتعمدة”.

وعن الشخصيات الهامة التي عاصرتها تقول: “بدر كان أقرب شخص لي خلال سنوات الدراسة وبعدها. أساتذتي كانوا عظماء، الدكتور علي الوردي درّسني لمدة نصف سنة ثم رحل إلى أمريكا ليكمل دراسته. شاعر ثورة العشرين محمد مهدي البصير، مصطفى جواد هو أكثر من أثر بي. كان قاموساً متنقلاً ومع ذلك كان يحمل قاموسه في جيبه ويرجع له دائماً ليضبط عين الفعل. فتعلمنا منه أن لا استغناء عن المراجع وتعلمنا منه الدقة والتواضع”.

وعن الطفولة تتذكر “لميعة عباس عمارة”: “ولدت في بغداد في منطقة الكريمات. تحولنا إلى العمارة بعد أن أنهيت أول أبتدائي في مدرسة الشواكة الابتدائية التي كانت في نفس شارع بيت مظفر النواب. في العمارة سكنا في شارع بغداد قرب الكحلاء والنهر في بيت كبير من الطابوق وأكثر الناس في المدينة كانوا يعيشون في بيوت من طين. أمي ولدت بنتين في بغداد فأرسلوها إلى العمارة لتغير الحظ. كنت مريضة دائما في طفولتي مصابة بسعال مزمن أعاني منه حتى الآن، فرئتي ضعيفة جداً. هذا أخرّني كثيراً فلا أذكر أني أكملت سنة دراسية بدون غياب مكثف ولا أذكر أني علوت مسرحاً لألقي قصيدة بدون دواء. وبالرغم من ذلك أجمل وأغنى سنين حياتي هي تلك التي قضيتها في العمارة. كتاباتي في العامية هي من تأثير تلك الفترة والكثير من الفصحى أيضا”.

تأميم النفط..

وعن حكم “عبد الكريم قاسم” وما قيل عن أن قرارته سببت مشاكل كبيرة حتى اعتبره البعض سبب دخول حزب البعث إلى العراق. ومدينة الثورة التي هي مثال على ما يؤخذ ضده. هي مدينة نشأت في زمنه وظلت تعاني من الفقر والجهل وحتى الجريمة. لم تكن هناك خطة لتأهيل وإدماج القادمين من الجنوب تقول: “هو لم يجلبهم لتك المنطقة، هم كانوا موجودين من قبله ولو بأعداد قليلة. بدأوا الهجرة بعد تعبيد الطرق بين بغداد والمحافظات وسكنوا خيماً في ضواحي بغداد. عبد الكريم قال بالضبط: “العراقي لا يعيش في الخيم”. فوزع لهم الأراضي في شرق القناة. فأصبح كل واحد يجلب أقرباءه وصارت مدينتهم، مدينة الثورة.

مشاكل العراق بدأت عندما وقع عبد الكريم وثيقة “نفط العراق للعراق”، تأميم النفط. وهو كان يعرف ذلك وقال: “وقعت اليوم على أمر إعدامي”. بدأت المشاكل بتزايد طموحات الدول الكبرى وأطماعها بالعراق. عبد الكريم قاسم كان رجلاً وطنياً ولم يكن ليُرشى أو يخون، إذا كان يجب أن يُخلع فهو لا يفيد مخططاتهم. هو جاء في غفلة عنهم. المشاكل ليست بسببه، المشاكل بسبب البيئة التي شجعت وراهنت على تقسيم العراق من ذاك الوقت”.

وعن فترة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي التي كانت من أخصب الفترات الفكرية في العراق، تقول: “هذا صحيح . كان العراق مقسماً بين تقدمي وقومي، ليس بينهما لون رمادي. حتى العجائز في المطبخ كان لهن موقف ورأي سياسي. الآن صار هناك وعي ولكن  بأشياء أخرى. تشوهت الطينة العراقية.

يحلل الدكتور “علي الوردي” فيقول سلطة الاستعمار تسيطر على الوزير العراقي والوزير “يطلع حرگته” بالموظف والموظف بزوجته والزوجة بأطفالها وهكذا تستمر سلسلة من القسوة والعنف”.

طريق السياسة مفروش بالألغام..

وعن كونها كانت محسوبة على حزب اليسار تقول: “ما أزال محسوبة على اليسار وليس الحزب الشيوعي، أنا لم أُنظم. أنا مع الحرية، مع الديمقراطية، مع الديمقراطية المفتوحة وليس الديمقراطية الاستعمارية. أنا ضد أي حزب لأني أدافع عن الطرف الآخر دائماً. مثلاً القوميون، لا أؤمن برسالتهم، من غير الممكن أن أقبل بغير عراقي يحكم العراق. أنا ضد انتماء الشاعر لحزب. الشاعر حر والحزبي ببغاء، الشاعر قيادي والحزبي مُقاد.

“آني طلعت من الموت”. أنا كنت مطلوبة وصوري في التلفاز والجرائد، وصدرت أحكام ضدي مثل فصلي من الوظيفة ومُناقلة ممتلكاتي وحتى الإعدام. حُكم على امرأة بالإعدام على أساس أنها لميعة وأنا ذكرت هذه القصة عدة مرات.

كنا نخرج في مظاهرات ضد الحكومة ونؤلف قصائد ضد الحرب. نمجد حرية الإنسان ونرفع راية السلام في كردستان. وتبدل حكم عبد السلام وجاء القوميون ثم البعثيون وتوسط لي بعض الناس وتقاعدت وتركت العراق. كانت الأمور قد هدأت قليلاً. أخذت موقفاً ألا أكتب في السياسة، فقط غزل، لأني وجدت طريق السياسة مفروشاً بالألغام وطريق الغزل مفروشاً بالورد. في سنة 1971 في مهرجان المربد في البصرة، كان شعار المهرجان “الشعر والثورة” وكان طارق عزيز حاضراً، قال: “راح نسمع ست لميعة”. قلت: أنتم تقولون ثورة وأنا أعرف الثورة في الشارع أما هذه القاعة الجميلة المُرفهة تـصلح للغزل فقط وأنا لا أعرف أن أكتب شعراً ثورياً. قال لي: “ومن قال لك إن القيادة لا تريد الغزل”. هو كان شخص لطيف الكلام. شفيق الكمالي كان هناك أيضا، وكان أيضاً يتعاطف مع الشعر والشعراء، وكان يحبنا أنا وعبد الرزاق. الكثير من البعثيين كانوا يحبون الشعر، صالح مهدي عماش مثلا كان يحب الشعر ويُنظم الشعر. كانوا يحترمون شعري ويعرفون أني لا أنتمي لحزب”.

وعن دور الشاعر والمثقف وهل فعلاً هناك خيار أن تكون سياسياً أو لا تقول: “أنا لي مواقفي ومبادئي ولكن لا أكون واجهة إعلانية تستعمل لمنفعة الآخرين. الشاعر والفنان الملتزم والمبدع هو فخر لبلده وهذا يكفي. الشاعر أو الفنان ليس جندياً وليس هناك من يحميه”.

الشعر النسوي..

وعن مسيرة الشعر النسوي في العراق تقول: “قبل نازك كانت عاتكة الخزرجي. مجلة “فتاة الرافدين” نشرت قصيدة لها تقول:

بغداد أنتِ نعيمي قبلتي ألمي/ أنا المعنى بك يا روضة الأدب

أنا انبهرت. الله. حفظتها وتباهيت بها. ثم تعرفت على شعر نازك الملائكة. هي شيء مختلف، هي الشعر. نازك مثقفة جدا من عائلة شعرية ولغتها سليمة جدا. عاتكة ظلت تراوح مكانها ولم تتطور، ناظمة فقط وخالية من اللمسة الشعرية. التقيت كثيراً بنازك ولم تنشأ بيننا صداقة حميمة. كان هناك بعض من المسافة وهي أرادت ذلك. كانت تحب عزلتها. نازك أستاذة الشعر ولكن نازك أحبطتها الدنيا وأرهقتها الحياة. هي ماتت قبل أن تموت. تركت الدنيا واعتزلت تماماً هناك في مصر وحدها. ولكن أستاذة الشعر العربي النسوي هي “نازك الملائكة”.

وعن لمن تعطي الريادة السياب، نازك، أم البياتي في الشعر الحر تقول: “هو شعر التفعيلة وليس الشعر الحر بالمعنى الصحيح. يعني عدد التفعيلات يجب أن يكون هكذا في الصدر وهكذا في العجز، وهذه كانت القصيدة العامية. بعدها تطورت على أيدي المهاجرين مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة والمصريون طوروا فيها الكثير أيضاً. ثم جاءت مرحلة بدر وهو طور القصيدة الحديثة وطور في عدد التفعيلات. صار مثلاً تفعيلة واحدة، تفعيلتان تحتها، عشر تفعيلات بعد ذلك ممكن أن ترجعي لتفعيلة واحدة، المهم الحفاظ على الوزن.

إن الشعر العراقي منذ زمن بابل وكلكامش والأشوري والكلداني كان فيه وزن وليس من الضروري أن تكون هناك قافية. نازك وبدر عملوا الكثير وفي نفس الوقت، وأنا أميل أن تكون الريادة لبدر فبدر كتب الكثير وطور الكثير، أما البياتي فجاء بعدهم. كان مع بدر دائماً يتبعه ويقلده. كان يحضر كل حلقات بدر ويسمع ثم يذهب ويكتب ثلاث وأربع قصائد.

كان ينشر كثيراً حتى في مرة قرأت له قصيدة في مجلة “طبيبك” مجلة ليس لها علاقة بالشعر تماماً.  سأل البياتي حسين مردان وكان شاعراً وجودياً وهو من بدأ القصيدة النثرية التي لا أعرف ما هي، هناك قصيدة وهناك نثر ولا أعرف ما هي القصيدة النثرية. المهم، سأله البياتي كيف يمكن أن أكون شاعراً كبيراً. أجابه الأخير: اختر أحد مواضيع اليوم المهمة وأكتب تحتها ما شئت وأنشر ما استطعت فمهم أن يكون اسمك موجوداً دائماً. أخذ البياتي النصيحة وعمل بها وكانت له بعض الإبداعات الشعرية”.

المرأة العراقية..

وعن تقييمها للمرأة العراقية عبر السنين تقول: “المرأة العراقية كانت تملك العراق. انظري مثلا إلى المحلات السكنية هناك محلة العلوية، محلة رغبة خاتون، محلة سارة خاتون. النساء كانوا يشتغلن في البيوت أشغالاً يدوية مثل تحشية التبغ وحياكة “شقصات” (قبعات) يهودية، ليف ومكانس أو خياطة. كن يجمعن الأموال لضمان أنفسهن ولا يعتمدن على الرجل. المرأة كانت تعيل نفسها وممكن أن تساعد زوجها في مصاريف البيت حسب حالة العائلة.

فالنساء كن يجمعن الأموال لشراء بيوت وقطع أراضي وحلي وهذا من عملهن وليس من دخل أزواجهن. يعني عندها ملكيتها الخاصة وإحساسها بدورها وبوجودها الشخصي. من بيتها وبنفس ملابس الدار تقوم بواجبها تجاه الأولاد والزوج والبيت وتكون نفسها أيضاً. قليلات كنَّ موظفات والأكثر كنّ يعملن في الدار، في الحوش ومجاز البيت وبتقنية عالية جداً محترمة بذلك نفسها وعائلتها وتقاليد البيئة. العراقية قوية جدا تجاه نفسها وتجاه الآخرين. لا تسمح لأحد بالتعدي أو التطاول عليها وعندما خرجت للعمل كانت تستعمل حريتها بكفاءة وحشمة. مهما تكن قوتها ولكن ليس أمام زوجها. دائما تهاب زوجها وتحسب له حساباً وتضيف له هيبة أكثر أمام الأولاد.

أمي مثلاً كانت أمية، أنا وأخواتي كنا الجيل الأول في المدارس وبعدها بدأت تنحسر الأمية. عندما جاء عبد الكريم قاسم قال ممنوع أن يظل واحد أمّياً في العراق. حتى أجبرنا أن نعلّم أمهاتنا وأهلنا الكبار القراءة والكتابة. كنا نُدرّس أمي، هي كانت تقول “نحو الأمية” وليس “محو الأمية” ولم تـُصححها وأنا أقول لها الآن: “يا أمي كأنك تنبأت بما سيجري، والله يا أمي سرنا نحو الأمية”. عبد الكريم قاسم حكم العراق أربع سنوات فقط ولكنه طور الدنيا وطور أخلاق الناس. الدكاكين كانت مفتوحة والناس تخرج مظاهرات. ثم جاءت ثورة رمضان “المجيدة” وقلبت كل الأشياء. هكذا كانت مشيئة القوى العظمى”.

في الغربة..

وعن حياتها في “سان دييغو” تقول: “لا يوجد تواصل إلا القليل عبر الانترنت. هنا حياة بسيطة مع أولادي وأخواتي وعوائلهم. السكن والمكان متواضع وبسيط، شقة بغرفة نوم واحدة وراتب أمريكي. ولكن أعتز أني لم أكن أداة بيد أي طرف. كتبت ما ألهمت ولم أكتب رغبة غيري. ارتضيت الحياة البسيطة هنا في الغربة. تركت كل ما أملك ورائي في العراق ولم أحمل إلا القليل.

كتبي، التذكارات التي أهديت لي من شعراء وأدباء عرب كلها ذهبت. حتى صوري وصور العائلة المعلقة على جدران بيتنا سُرقت. أنا امرأة بدون ماضي. هذا التاريخ الطويل الذي حمل اسم العراق في محافل الأدب والشعر انتهى به المطاف للعيش تحت رحمة تقاعد خدمة المسنين الأمريكي “فإذا بيدي تمتدُ للصدقات يرميها الذي قتل الحضارةَ للقتيلِ”. حفيدي يقول لي جدة يجب أن يكون لك بيت كبير وجميل وتستقبلي فيه الطلاب والأدباء للبحث والنقاش. أنا فقط طلبت أن يُعين لي موظفة تساعدني على الكتابة فالصحة لا تسمح بالكتابة ولم يحصل ذلك. ولكن هذا هو مصير العراقيين وهذه هي الغربة.

من الطرائف أتذكر عندما جلست في مركز الخدمة الاجتماعية وزعوا لنا في صالة الانتظار أوراقاً وألواناً مثل الأطفال. أنا أخذت الألوان ورسمت لوحة لسيدة مسنة كانت تجلس أمامي ومن سخريات القدر أنها ماتت في اليوم التالي ولم تر رسمي.  هنا لا يعرفك أحد ولا يعرف مسيرتك وفي هذا ربما شيء من الهدوء”.

التفرغ للشعر..

وفي حوار آخر أجرته معها “سعدية مفرح” تقول “لميعة عباس عمارة” عن رحلتها الطويلة مع الشعر التي أنتجت فقط تسعة دواوين شعرية أحدها بالعامية: “هذا صحيح، ولكنني لست شاعرة متفرغة، فأنا إنسان في هذا المجتمع، أعطي لكل مهمة أنيطت بي حقها من العناية الكافية، فكمدرسة كنت أصرف جل أوقاتي ليس في تعليم طالباتي وحسب، إنما في تهذيبهن وبناء شخصياتهن ليكن سيدات مجتمع، كما إنني من جانب آخر ربة بيت وأم لأربعة أبناء وزوجة وسيدة مجتمع، وقد كنت أحاول أن آخذ من وقتي ومن راحتي في سبيل التوفيق بين كل هذه المهمات.

وعن كون ذلك عدم التفرغ للنساء أحد أسباب تفوق الرجال في النتاج الشعري على النساء تواصل: “أحسنتِ.. أحسنت. أنا أؤمن أن المرأة لا يمكن أن تصل إلى العبقرية لأنها لا تملك ذلك القدر من الأنانية الذي يملكه الرجل، فالمرأة تضحي بوقتها من أجل إسعاد الآخرين في المجتمع حولها، أما الرجل فهمه عمله فقط.

فهو مخدوم في البيت، ومتفرغ حتى وإن كان في عمله، ولكن المرأة لم تصادف مثل هذا التفرغ، والتي صادفت مثل هذا التفرغ هي المرأة التي أبدعت مثل مدام كوري التي تفرغت إلى العمل، وحياتها الخاصة لم تأخذ منها الكثير، خاصة إن شريك حياتها كان يعمل معها وفي اهتمامها نفسه، وهذه الحالة نادرا ما تحدث في محيط النساءِ.

والمبدع بشكل عام لا يشترط فيه أن يكون مرفها ماديا، فهو يحتاج إلى أن يقوم بأعمال كثيرة، وأنا شخصيا خلال إقامتي في أميركا في السنوات الأخيرة وقبلها خلال إقامتي في باريس، كنت أفتقد أن أكون السيدة المخدومة،  فأنا حاليا أخدم نفسي وأخدم الآخرين، خاصة في عدم وجود خدم هناك، وكل تلك المهمات اليومية تأخذ الكثير من وقتي مما جعلني أؤكد أنني لم أكن في يوم من الأيام متفرغة للشعر”.

الشعر النسائي..

وعن شعر المرأة العربية المعاصرة، ونتيجة لظروف عدم تفرغها، هل جعلته يستحق أن يوضع في تلك المنطقة المعزولة التي تسمى “شعر المرأة” أو “الشعر النسائي” تقول: “لا.. لا يجوز أن نقول هذا “شعر نسائي”. الشعر شعر، شعر جيد وشعر غير جيد، وإذا كانت أحاسيس المرأة يمكن أن تعبر عنها امرأة فهذا جميل ويمكن أن نسميه شعر امرأة بالفعل، لكن المرأة تمر أحيانا بتجارب لا تستطيع أن تعبر عنها، أو أنها تعبر عنها بشكل سيء، وربما يستطيع شاعر ما أن يعبر عنها بشكل أفضل، ولهذا أعتقد أن التمييز بين شعر المرأة وشعر الرجل كان يعود إلى قلة الشاعرات والمثقفات، أما الآن، وقد زاد عدد الشاعرات والمثقفات فلم يعد هناك مبرر لهذا التمييز”.

العزوف النقدي..

وعن العزوف النقدي الشديد عن شعرها وهل يعود إلى عدم انضمامها  تحت لواء أي حزب سياسي تقول: “طبعا.. طبعا. لقد كان هذا هو الذي يبني شخصيات مثل هؤلاء الشعراء، وإن كانوا شخصيات فارغة وكاذبة. لقد عاصرت بعض الشعراء، ارتفع قدرهم وعينوا في مناصب مهمة، وترجمت أشعارهم وكتب عنها كثير. أما أنا فقد كنت أنال الاضطهاد بسبب السياسة من دون الكسب، ففي بداية الستينات مثلا هددنا بحياتنا وحياة أطفالنا، فأخذت أطفالي ولجأت إلى ألمانيا الشرقية فحكيت لهم عن ظروفي والتهديدات التي وصلتني بالقتل في بلدي وطلبت منهم أن أعمل بالتدريس.

وعلى الرغم من أن الصديق عزيز شريف قد مدحني عندهم كثيرا، إلا أنهم سألوني إن كنت منتمية إلى الحزب الشيوعي أم لا؟ فقلت لا، عندها قرروا ان يضعوني في مخيم بائس وكريه للاقامة فيه، مما دفعني للهرب إلى ألمانيا الغربية في الليلة نفسها، لأنني لم أحتمل المكان، وأنا متأكدة إنهم كانوا سيضعونني على رأسهم لو كنت شيوعية. ودعيني أخبرك أكثر من هذا، فأنا أتذكر أن هناك بعض الأسماء التي فرضت على اتحاد الكتاب لدينا آنذاك على الرغم من تواضع موهبتهم، فقط لأنهم شيوعيون، وهذا ينطبق على الأحزاب الأخرى أيضا، وأنا لم أدخل في لعبة الأحزاب، ولا في لعبة أخرى حدثني عنها الشاعر الراحل بلند الحيدري، عندما قال لي أن الأمر يتطلب أن أكتب عن شاعر معين، وهذا الشاعر يكتب بالمقابل عني، والنتيجة أننا نصبح كلنا شعراء كبارا!”.

وفاتها..

توفيت “لميعة عباس عمارة” يوم الجمعة 18 يونيو 2021 عن عمر ناهز 92 عاماً، بعد صراع طويل مع المرض.

قصائد ل”لميعة عباس عمارة”..

لو أنبأني العرّاف

أنك يوماً ستكونُ

حبيبي

لم أكتُبْ غزلاً في رجلٍ

خرساء أًصلّي

لتظلَّ حبيبي.

لو أنبأني العراف

أني سألامس وجه القمرٍ العالي

لم ألعب بحصى الغدران

ولم أنظم من خرزٍ آمالي.

لو أنبأني العراف

أن حبيبي

سيكونُ أميراً فوق حصانٍ من ياقوت

شدَّتني الدنيا بجدائلها الشقرِ

فلم أحلُمْ أني سأموت.

لو أنبأني العرّاف

أن حبيبي في الليلِ الثلجيِّ

سيأتيني بيديهِ الشمسْ

لم تجمد رئتايَ

ولم تكبُرْ في عينيَّ هموم الأمس.

لو أنبأني العراف

إني سألاقيك بهذا التيه

لم أبكِ لشيءٍ في الدنيا

وجمعتُ دموعي

كلُّ الدمعٍ

ليوم قد تهجرني فيه.

————

لماذا أعشقك أنت..؟

لم اخترتك بين أمجادك الزاهرة؟

ومثلك يحلم كرم الجنان يسيل على كفه العاصرة

لماذا جعلت طريقي انتهاء وألغيت قدسية الذاكرة؟

أكان اكتمالا لمجدك أن سيقال ……

وهامت به الشاعرة؟

لماذا يحط المساء حزينا على نظرتي الحائرة

وفي القرب أكثر من معجب وأني أكثر من قادرة؟

أنا طائر الحب كيف اختصرت سمائي بنظرتك الآسرة؟

————-

عاد الربيع..

وأنت لم تعد

يا حرقة تقتات من كبدي

عاد الربيع فألف وا أسفي

ألا تحس به.. إلى الأبد

أنساك! كيف؟ وألف تذكرة

في بيتنا تترى على خلد

هذا مكانك في حديقتنا

متشوقا لطرائف جدد

كم قد سهرنا والحديث ند

وعلى ذراعك كم غفا ولدي

وتهيب أمي شبه غاضبة

«برد الهواء، فأكملوا بغد»

تخشى عليك وكلها وله

أن تستمر وأن تقول زد

وهنا مكانك حين يجمعنا

وقت الطعام يداك قرب يدي

وهنا كتابك في هوامشه

رأي وتعليل لمنتقد

ورسائل وردت وأعوزها

رد عليها بعد لم يرد

يا وجهة الريان من أمل

كيف احتملت تجهم اللحد.

———–

أغني لبغداد

هلا وعيوني بلادي رضاها

وازكى القرى للضيوف قراها

بلادي ويملؤني الزهو أني

لها انتمي وبها أتباهى

لأن العراقة معنى العراق

ويعني التبغداد عزا وجاها

أغني لبغداد تصغي القلوب

وألفي دموع الحنين صداها

وإن قلت بغداد أعني العراق

الحبيب بلادي بأقصى قراها

من الموصل النرجسيه أم الربيعين

والزاب يجلو حصاها

إلى بصرة الصامدين نخيلا

تشبت من أزل في ثراها

وأسكنت نفسي أقصى البعيد

وقلت غبار السنين علاها

فما نسيتني عيون النخيل

ولا القلب والله يوما سلاها

واعرف أن قمر للجميع

ولكنه قمر في سماها

————–

رهينة الدارين..

يعلم الله أنني أتعذب

رهبة من مشاعري أترهب

لا تقل لي (أحب)

هذا بعينيك اشتهاء

ونزوة

سوف تذهب.

لست أيوب،

لن تطيق وصالي

هو شيء من الخرافة أقرب

أن تراني وحشية التوق للحب

وتبقى معي الرفيق المهذب

أبعد الشعلتين – كفيك – عني

لا تلامس هذا الكيان المتعب

أنا رهن الدارين

أنساني الحرمان جسمي

ولذتي أن أصلب

———

مثلث برمودة..

صدرُكَ قاعدةٌ

وذراعاكَ الضلعان،

تتلاشى أيُّ امرأةٍ تدخل هذي الأكوان

وأنا

أعرفُ هذا

وأظلُّ لِـحُـبِّـكَ مشدودة

بين ذراعيكَ

مثلَّـث برموده.

——–

خاطرة..

أحتاجُ إليكَ حبيبي الليلةَ

فالليلةُ روحي فرسٌ وحشيّه

أوراقُ البردي ـ أضلاعي ـ فَـتِّـتْـها

أطلِقْ هذي اللغةَ المَـنسـيّـه

جسدي لا يحتملُ الوجدَ

ولا أنوي أن أُصْـبِـحَ رابعةَ العدويّه.

———-

عمر الحب..

أختارُهُ وأناجيهِ على ملأٍ

ويجهلونَ الذي أهوى،

ويجهلُهُ،

وقد يطولُ بنا شوقٌ لرؤيَتِهِ

وقد يُقَصِّرُ أحياناً

فنُبْـدِلهُ،

ليسَ حُبِّي الطوقَ

أفدي عُنُقـاً

هي عندي قطعةٌ من كَبِدي،

ساعةٌ منك تُـغَـطِّي عُمُراً

وتَرُدُّ الماءَ للنهر الصَّدِي.

أيها الطفلُ الذي أعشَقُهُ

أطِلِ اللهوَ

لتبْقى وَلَدي،

عِشْ كما شئتَ

فُراتً، بُـلبلاً، نَحْلَةً

أشرِكْ معي

أو وَحِّدِ..

أنا أهواكَ كما أنتَ..

استَرِحْ

لا تُبادِرْني بِـعُذرٍ في غدِ.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة