من يغوص في أعماق تأريخ العراق، وجواهر كنوزه وإبداعه ، يجد أن أغلب نخب هذا البلد ورموز إبداعه الثقافي والأدبي والفني والمعرفي عموما، تنطلق من محافظات الوسط والجنوب!!
وبالمقابل كان إهتمام نخب المحافظات الغربية ورجالاتها يتركز في الأغلب على الإلمام بنظم الحكم والإدارة وقيادة مسيرة الدول والحكومات العراقية ووضع ستراتيجية تقدمها ونهوضها، وهم من كانت لهم إسهامات فاعلة على مر التاريخ الانساني، وهم من حافظوا على الوطنية العراقية وتوقد وهج شعلتها ، مع بقية مكونات الشعب العراقي بوجه كل المحاولات التي سعت لتقويض معالم عراقهم الناصع البياض!!
ولكل من تلك النخب العراقية ، شرقيها وغربيها ، من كل طوائف العراق وأقلياته القومية والعرقية، باع طويل في مسيرة قيادة بلدهم والحفاظ على وحدة العراق من محاولات إستهداف شعبه، والمحافظة على إنتمائه العربي الإسلامي، ووقف كل محاولات الهيمنة على مقدراته من أي كان، والحفاظ على كل معالم إبداعهم وأرثهم الغني وعطاؤهم الزاخر بالتميز وإعلاء المكانة ، وتشهد لهم كل بلدان المنطقة، بأن العراقيين ، من كل محافظاتهم وعناوينهم، هم نفائس المعادن الأصيلة وجواهرها ودرر نتاجاتها الإبداعية والقيمية المتميزة التي أضاءت سماء الكون ، بكل تلك الإنجازات الرفيعة التي تعد محط فخر العراقيين والعرب والعالم أجمع، وهم جميعا، من شاركوا في كل الثورات والإنتفاضات الوطنية التي إستهدفت بلدهم أو سعت لإيقاف نهضته وشموخه!!
أما تأريخ شمال العراق الحبيب، وبخاصة الكرد والتركمان، فقد شارك أهلها ورموزها إخوتهم العراقيين ، بكل معالم الرقي والتميز ، وكان منهم أدباء ومثقفون وفنانون ، ولديهم باع طويل في الفلسفة الاسلامية وخبرة طويلة بعلومها وآدابها ، ولهم إسهامات كثيرة ، وكان منهم قادة وساسة مؤثرون في رسم معالم التاريخ العراقي المعاصر والمشاركة في صنع رفعته وشموخه، وهم يتفاخرون بأن العرب هم من حفظوا لهم شرف الإسلام والدفاع عنه، وكانت لهم وقفاتهم المشهودة من كرد وتركمان ومسيح وصابئة وايزيديين وكل طوائف العراق وأقلياته في مسيرة النهوض العراقي على مر الأزمان!!
ويعود التميز والإبداع الثقافي والأدبي والفني والفلسفي في محافظات الوسط والجنوب الى تاريخهم الضارب في أعماق الحضارات العراقية، وكان طابع الحزن الغالب على سمات تاريخهم ، وبخاصة قصص تاريخهم التي ترتبط بالتاريخ الإسلامي وقصص مسيرة أهل البيت وما لاقوه من مصاعب ومصائب ومحن ، هي من حفرت في مخيلتهم هذا الطابع الموغل في الحزن ، في شعرهم وفنهم وغنائهم وطبيعة التعبير عن التراجيديا العراقية وملهاتها المأساوية وقريحتها المتوهجة خيالا خصبا ورقيا فكريا، ليغترفوا من تاريخ بلدهم ما يجعلهم صناع الإبداع ، وهم كنوز المعرفة وأبطال ساحات مواجهتها مع الأعداء، فلديهم المام واسع بطبيعة صراعهم مع القدر ومع طبيعة ما ألم بهم من فواجع ونكبات ، فكانت قريحتهم تعبر عن هذا الشعور بالألم والحزن الطاغي على كل معالم السلوك التي توارثوها عبر العصور، وتلك القصص والروايات الشعبية عن تاريخهم الحزين، ومعالم أفراحهم وولعهم بالحب الانساني وشجن عشقهم وجنونهم، هي من شجعت كل تلك النخب والكفاءات الأدبية والفنية والفلسفية أن تزدهر ويكون لها باع طويل في صنع معالم ثقافة العراق ، وهم الذين ملأوا كتبها بمؤلفات مختلفة ما يشكل تاريخا مليئا بالزهو والفخار ، برغم كل شجونه وما واجهوه من كوارث ومحن ، تعد من وجهة نظرهم الطابع الذي حكم تاريخهم على مر العصور، كما أن طبيعة مناخ محافظاتهم التي يغلب عليه الحر اللاهب صيفا والبرد القارض شتاء هي من أوقدت في مخيلتهم وضمائرهم ، بأن بحروا في سفن الإبداع ، بل وظهرت هناك بعض التوجهات الفكرية المتطرفة، عن مختلف الرؤى التي تشكل معالم حياتهم وطموحهم ، كما أن تقاربهم مع دول جوار لها باع في الثقافة الانسانية والخيال الخصب ، هي من شجعتهم على أن يكون لهم أيضا معالم نهوض ورقي وعطاء إنساني، ورغبتهم بالتنافس والرقي والتميز عن الآخرين، يرتقي الى عمق حضارتهم الضاربة في الأعماق، كما أن حضارتهم السومرية والبابلية هي من تمنحهم التفوق الفكري والقيمي بأن لهم إمتدادات عمق تاريخي، يؤهلهم لتبوأ مكانات العلا في التاريخ الإبداعي المتعدد الصور والأشكال والمضامين، في أن لهم آثار شامخة هي من توقد فيهم روح الإلهام فتتفجر ينابيع تسقي ارض العراق بعطائها الثر، وما تزال قصص آثارهم تحكي قصة نهوض بلد ، كان محط الانبياء والرسل والمصلحين ، على مر الزمان!!
في حين كان إهتمام من يطلق عليهم نخب العراق من محافظاته الغربية ومن بغداد أنهم أصبحت لديهم خبرات طويلة متراكمة بكيفية إدارة نظم الحكم، ولهم السبق في أنهم حافظوا على دولة العراق مع بقية محافظات الوسط والجنوب وثوارها الأشاوس ، في صنع تاريخ العراق ورسم معالم نهوضه، وكانت نخب الغربية أقل إنتاجا وابداعا في الجوانب الأدبية والثقافية والفنية والفلسفية، وإن كانت لهم نخب كثيرة، ولهم فيها أعلام ورموز كثيرة، لكنها لاتقاس من حيث حجم ونوعية ماقدمته نخب الوسط والجنوب من كنوز معرفية وابداعية، أثرت الفكر العراقي وأسهمت بعلو مكانته ورقيه، حيث تزخر مكتبات العراق وكنوزه المعرفية ومنظماته ومنظوماته المختلفة بمئات الآلاف من أكثر مبدعي العراق وأعلامه الشامخة من رموز ونخب كفاءات الوسط والجنوب، وبهم يفتخر العراقيون أن كل تلك الإسهامات التي غلبت على تاريخ الثقافة العراقية هي من تؤهلهم لتبوأ مراتب العطاء الانساني والفكري العليا، وأعلامهم في الشعر والقصة والرواية والفن وعموم الانتاج الأدبي والثقافي في كل مؤسسات الدولة العراقية، ما يشفع لهم بأنهم صناع الابداع وموقدي ضمير الأمة ومن أسهموا في إعلاء شانها بين الأمم!!
بل أن محافظات الجنوب، وبخاصة محافظة ذي قار، وتليها البصرة وبقية المحافظات ، قد شهدت فيها إنطلاق أغلب الاتجاهات السياسية الفكرية التي بزغت في تلك المحافظات، ونقلوا تجارب قادة سياسيين ونظرياتهم التي إنطلقت في بلاد الشام الى جمهورهم ومثقفيهم، وكانت لهم إسهامات رائعة في تثبيت أطر الفكر القومي العروبي وتطوير الفكر الإشتراكي والماركسي عموما بل وحتى الفكر الإسلامي، وأغلب قادة الاحزاب السياسية العراقية كان روادها ومطلقي شعلتها الوهاجة كانت من نخب الجنوب!!
كان هذا إستعراض مقتضب لطبيعة التوهج الثقافي والمعرفي العراقي لكل مكوناته ، وهم من أسهموا جميعا في صنع تاريخه المجيد، ليكون كل هذا النتاج الثر الكبير ، دليلا للأجيال العراقية بأن العراق بكل محافظاته هو واحد موحد لايقبل التجزئة ، وينبغي المحافظة على عطاءات رجالاته بكل عناوينهم ومن قدموه من إسهامات رقي وابداع وتميز ، وأن نركن مواطن الضعف وتلك التي تخلق أسافين وأحجار عثرة بوجه تطوره جانبا،ولا نخرج صغائره وتفاهات بعض أقداره اللعينة الى العلن ، كونها تثلم طريق مسيرة نهوضه الحضاري الطويلة ، ولدى شعب العراق ونخبه ورموزه المؤثرة والايجابية والمشرقة في تلك المسيرة الغنية الزاخرة بتاريخهم الحضاري المشرق، طوال حقب التاريخ، مايرفع رأس كل عراقي الى السماء!!