يحدثنا القرآن عن حوار جرى بين الله تعالى وبين الملائكة، وكان المحور هو آدم، ونعرف أن الملائكة احتجت أو استغربت أن يكون الخليفة القادم هو من الجنس الذي أفسد في الأرض وسفك الدماء، وتعرفنا فيما مضى معنى إجمالي لهذا الفساد الذي كان عبارة عن فوضى كانت تعم الأرض قبل أن يأتي الإنسان الذي صنع الحضارات، وهنا لا بد من معرفة حقيقة الحوار الذي دار ولكن قبل أن نعرفه لا بد من معرفة حقيقة الملائكة، وماهية القول، أي عندما نقرأ القرآن نرى هناك ألفاظ مثل (وإذ قال ربك للملائكة) و (قالوا أتجعل فيها … الخ)، فهل هو حوار لفظي، أم شيء آخر؟، لأننا نعرف مسبقاً (حسب الفرض) أن هذه الكائنات ليست مخلوقات مادية تمتلك أفواه ولسان وأوتار صوتية، كما أنها ليست كائنات عندها مشاعر وانفعالات كما في البشر، وعندما نصل الى مرحلة سجود الملائكة نحتاج الى معرفة كيفية سجود الملائكة، وهل أنها سجدت لآدم فقط أم لمطلق أبناء آدم، وهل هو سجود مطلق أي في كل الأحوال أم اختص بأحوال معينة.
أما الأمر الأول عن حقيقة الملائكة فإن المتعارف والمشهور بين المفسرين والعامة أن الملائكة كائنات مجردة عن الشهوات وهي عقل محض، وهي تمتلك أجنحة تطير بها الى السماء أو أي مكان تريده، ويمكنها أن تتمثل بأي هيئة مادية، كما حصل مع ضيف إبراهيم الذين جاءوا إليه ليبشروه بإسحاق ويبلغوه بوقوع العذاب على قوم لوط، وكما تمثل الروح الأمين لمريم وبشرها بعيسى، وأن جبرئيل وميكائيل وإسرافيل سادة الملائكة، وهذا الفهم هو ظاهر القرآن الكريم، ولتفادي الإطناب، فإن جبرئيل وميكائيل وإسرافيل والروح لا يوجد في القرآن ما يدل على أنهم من الملائكة الذين يدور الكلام عنهم، وكذلك ضيوف إبراهيم.
وهنا اختلف علماء الإسلام حول تفسير أو تعريف ماهية الملائكة، كما يحدثنا العلامة المجلسي الذي يمثل أحد التوجهات :
((اعلم أنه أجمعت الإمامية بل جميع المسلمين إلا من شذ منهم من المتفلسفين الذين أدخلوا أنفسهم بين المسلمين لتخريب أصولهم وتضييع عقائدهم على وجود الملائكة، وأنهم أجسام لطيفة نورانية أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع وأكثر، قادرون على التشكل بالاشكال المختلفة، وأنه سبحانه يورد عليهم بقدرته ما يشاء من الاشكال والصور على حسب الحكم والمصالح، ولهم حركات صعودا و هبوطا، وكانوا يراهم الأنبياء والأوصياء “عليهم السلام”. والقول بتجردهم وتأويلهم بالعقول والنفوس الفلكية والقوى والطبائع وتأويل الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة تعويلا على شبهات واهية واستبعادات وهمية زيغ عن سبيل الهدى، واتباع لأهل الجهل والعمى. قال المحقق الدواني في شرح العقائد : الملائكة أجسام لطيفة قادرة على التشكلات المختلفة، وقال شارح المقاصد : ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة أن الملائكة أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة)). بحار الأنوار 56 : 202، وعلَّق محقق الكتاب الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي على ما قاله المجلسي في الهامش : ((لم يثبت اجماع الأمة أو الإمامية على جسمانية جميع الملائكة حتى الكروبيين والمهيمين والعالين إن سلم دعوى الاجماع على جسمانية بعضهم وعلى هذا فالمسألة ليست بتلك المثابة التي تتراءى من كلام المؤلف رحمه الله تعالى)).
ونلاحظ أن المجلسي يمثل الرأي التقليدي السائد، بينما يمثل الرأي الذي ذكره اليزدي الرؤية الواقعية التي نظرت بتمحيص الى النصوص، وحسب ما قال لم يثبت الإجماع على جسمانية الملائكة. وسبب عدم الإجماع عدم ظهور النص القرآني في ذلك.
ونعرف مسبقاً حسب النصوص الإسلامية أن كل ملك من الملائكة له مهمة موكل بها، فسنجد ملك موكل بالرياح والشمس والقمر والشجر، ويتقلص الأمر فنجد أن هناك ملك موكل بكل شعاع من أشعة الشمس وملك بكل ورقة من أوراق الشجر، وقد نسمع تسخيفاًَ من قبل البعض على هذا الكلام، ولكننا سنجد أن ما جاء في النصوص الآتية يتسم بواقعية أكبر مما كنا نتوقعه.
((ما من شجرة صغيرة ولا كبيرة ولا كمغر زابرة رطبة ولا يابسة إلا ملك موكل بها يأتي الله بعلمها رطوبتها إذا رطبت ويبسها إذا يبست كل يوم. قال الأعمش : وهذا في الكتاب “ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين”)). المصنف، ابن ابي شيبة الكوفي 8 : 302. والسيوطي، الدر المنثور 3 : 15.
((ما من نبت ينبت إلا ويحفه ملك موكل به حتى يحصده)). المتقي الهندي، كنز العمال 3 : 805.
((ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال : وراءك، إلا شيئاً يأذن الله فيه فيصيبه)).الطبري، جامع البيان 13 : 156.
((ما من آدمي إلا ومعه ملك موكل يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له)). المصدر السابق 13 : 157.
وذكر العلامة المجلسي في (بحار الأنوار 56) أسماء أو صفات ملائكة عديدين وكل حسب وظيفته :
((ملك موكل بالجن، ملك موكل بالبحار والأودية، ملك موكل بالشمس، ملك موكل بالقمر، ملك موكل بالنجوم، ملك موكل بالنصر والخذلان، ملك موكل بالريح، ملك موكل بالنوم واليقظة والسعي والحركة وحراسة الأرواح إلى أن ترجع إلى الأبدان، ملك موكل بالطير، ملك موكل بالسماء، ملك موكل بالأفئدة والعقول والأسماع والأبصار، ملك موكل بالدهور والأزمنة، ملك موكل بالشفاء، ملك موكل بالجبال، ملك موكل بالحيوانات، ملك موكل بالنار، ملك موكل بالبحار، ملك موكل بالحروب، ملك موكل بالسحاب، ملك موكل بالشياطين، ملك موكل بالأرض، ملك موكل بالأيام)). ثم علق المجلسي قائلاً : ((إن المحققين اختلفوا في هؤلاء الملائكة، فمنهم من حملوها على ظواهرها وقالوا : إن الله وكل بكل شيء من المخلوقات ملكاً يحفظه ويربيه ويصرفه إلى ما خلق له كما ورد في الاخبار : الملك الموكل بالبحار، والملك الموكل بالجبال والملائكة الموكلة بالأشجار وسائر النباتات، والملائكة الموكلة بالسحب والبروق والصواعق، وبكل قطرة من الأمطار، والملائكة الموكلة بالأيام والليالي و الشهور والساعات. وبه يوجه ما ورد من كلام اليوم والشهر والأرض والقبر وغيرها بأن المراد به كلام الملائكة الموكلة بها. ومنهم من حملوها على أرباب الأنواع المجردة التي أثبتها أفلاطون ومن تابعه من الإشراقيين، فإنهم أثبتوا لكل نوع من أنواع الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية والمواليد رباً يدبره ويربيه ويوصله إلى كماله المستعد له)). بحار الأنوار 56 : 113 ــ 114.
في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) : ((إن لله عز وجل جنوداً من رياح يعذب بها من يشاء ممن عصاه، ولكل ريح منها ملك موكل بها فإذا أراد الله عز وجل أن يعذب قوما بنوع من العذاب أوحى إلى الملك الموكل بذلك النوع من الريح التي يريد أن يعذبهم بها..)). الكليني، الكافي 1 : 91.
عن الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) ((اللهم بحق هذه التربة، وبحق الملك الموكل بها، وبحق الملك الذي كربها)). ابن قولويه، كامل الزيارات، 469.
((حدثنا علي بن محمد عن القسم بن محمد عن سليمان بن داود عن حماد بن عيسى قال سئل رجل أبا عبد الله “عليه السلام” فقال : الملائكة أكثر أو بنو آدم؟. فقال : والذي نفسي بيده لملائكة الله في السماوات أكثر من عدد التراب، وما في السماء موضع قدم الا وفيه ملك يقدس له ويسبح، ولا في الأرض شجرة ولا مثل غرزة إلا وفيها ملك موكل بها)). الصفار، بصائر الدرجات 89.
((عن علي بن أبي طالب “عليه السلام” سُئل عن المد والجزر ما هما؟، فقال : ملك موكل بالبحار يقال له رومان، فإذا وضع قدمه في البحر فاض وإذا أخرجها غاض)). علل الشرائع 2 : 554.
((عن عبد الله بن عباس انه سئل عن المد والجزر، فقال : ان الله تعالى وكَّل ملكاً بقاموس البحر، فإذا وضع رجله فيه فاض، وإذا أخرجها غاض)). المصدر السابق والصفحة.
((عن محمد بن سليمان الديلمي، قال : سألت أبا عبد الله “عليه السلام” عن الزلزلة ما هي؟، قال : آية. قلتُ : وما سببها؟، قال : إن الله تبارك وتعالى وكل بعروق الأرض ملكاً، فإذا أراد ان يزلزل أرضاً أوحى إلى ذلك الملك أنْ حرِّك عروق كذا وكذا، قال : فيحرك ذلك الملك عروق تلك الأرض التي أمر الله فتتحرك بأهلها)). المصدر السابق 2 : 256.
وتوجد العشرات من هذه الروايات متناثرة في مصادر الحديث عند المسلمين. ومن الصعب أن نعثر في التوراة على مفاهيم تخص الملائكة كما نجدها في القرآن والحديث، فقد تناولت المصادر الإسلامية تفاصيل كثيرة عن الملائكة، وتشعبت آراء المفسرين حولها كما أشرت.
ونفهم من هذه الروايات أن هناك مهام موكلة الى كائنات سميت (ملائكة) وهذه المهام تشمل كل ما يخص القوانين الطبيعية، وهي ليست كائنات مرئية وإنما خفية، وخلاصة القول فيها أنها قوى غير قابلة للتجسد أساساً، فهي ليست مخلوقات بالمعنى السائد، ومن الآراء المهمة ما ذكره الشهيد الصدر الثاني : ((إننا تعبدنا بما علمنا به أئمتنا E وهو أن الكون الخارجي محرك بأسباب خارجية وعلل موجودة، هي بالدرجة الأولى الملائكة وهم “قوانين القوانين” حسب ما عبر عنه السيد أبو جعفر P)). شذرات من فلسفة ثورة الإمام الحسين 195.
وهذا التعريف الذي ذكره السيد الصدر يفسر لنا ما سبق من الروايات الكثيرة، بالتالي نفهم الآن (عموماً) ما هي الملائكة، والتفسير العلمي المادي لا يختلف كثيراً في تفسير الظواهر الطبيعية، فهي من دون شك لا تأتي إلا بقانون أو علة، وليست عشوائية، ولكن التفسير العلمي يتوقف عند الكثير من العقبات كما أشرت أعلاه، بالتالي يوعز الكثير من الظواهر الى أسباب مجهولة أو غامضة، والتفسير الذي ذكره السيد الصدر اعتقد به علماء أقدمون ولكن بتعابير مختلفة، وقال أبو الحسن الشعراني وهو من علماء الإمامية :
((رب النوع والمثل والعقول العرضية والملك الموكل كل ذلك واحد)). شرح أصول الكافي 3: 139.
أي أن القوة التي تحرك الظاهرة أو الدافع الذي يكون مسبباً لشيء ما أو حدث ما له تسميات مختلفة ولكنها تؤدي الى نتيجة واحدة.
ومن القدم اعتقد سكان العراق القديم بنفس هذا المعتقد تحديداً ولكنهم أسموا هذه القوى تسميات أخرى، مثلاً “أوتو” بالسومرية و”شمش” بالأكدية هو إله الشمس أو رب الشمس، و”ننار” بالسومرية و”سين” بالأكدية هو رب القمر، و”آنو” رب السماء، و”أنكي” رب الأرض، “اينانا” أو عشتار ربة الحب والحرب، و”ننورتا” رب الحرب والصيد، و”أدد” رب الطقس، و”نبو” رب الخط والكتابة، و”نيسابا” ربة القصب، و”كولا” ربة الشفاء، و”نركال” رب العالم السفلي، و” ننكشزيدا” رب الطب، وهناك رب للشاة ورب للزرع ورب للميزان وغيرها العشرات من القوى التي كان سكان بلاد الرافدين يعتقدون أنها تتحكم بتلك الظواهر أو الأمور أو الأشياء، ولكنهم في نفس الوقت كانوا يعتقدون أن ملك السموات والأرض هو (أنليل) الذي هو اللفظ القديم للفظ الجلالة (الله)، وهو رئيس مجمع الآلهة. فهم في الأصل لم يكونوا يعبدون تلك القوى بعنوان أنها خالقة وإنما كانوا يحتمون بها ويقدمون لها القرابين ليدفعوا عن أنفسهم الأضرار التي يعتبر كل رب مسؤول عنها. كما أنهم جعلوا لكل ظاهرة رباً أي قوى تتحكم به، وهذه الالتفاتة لها منشأ ديني. وأيضاً مرَّت فترات طويلة من الشرك في تاريخ البلاد عبدت فيه هذه الأرباب حتى أن كل مدينة كان لها إلهها الخاص بها، وأغلب الظن أنه هذه العبادة الشركية هي التي أشار لها القرآن في قوله : {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ }آل عمران80.
وأكَّد أئمة أهل البيت من ناحيتهم أن الملائكة كائنات غير مرئية :
((عن أبي بصير عن أبي جعفر “عليه السلام” قال : قيل له وأنا عنده : إن سالم بن حفصة يروى عنك أنك تكلَّمُ على سبعين وجهاً لك منها المخرج، فقال : ما يريد سالم منى، أيريد أجيء بالملائكة، فوالله ما جاء بهم النبيون)). العياشي 2 : 184.
فالملائكة لم يأت بها النبيون ولن يأتي بها أحد، لأنها مما لا يمكن أن يأتي بها أحد، لأنها غير قابلة للتجسد. ويشهد القرآن على ذلك :
{قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً }الإسراء95. وهذه الآية تنفي وجود ملائكة يمشون، أي مجسدين أو ماديين. وقد يحتج البعض بقوله تعالى :
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً{21} يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً{22} الفرقان. وهذا يعني ظاهراً أن الملائكة سوف يراهم الذين لا يرجون لقاء الله يوم القيامة، أو عند الموت، وكذلك قوله تعالى :
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ }الرعد23.
و{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }النحل33.
و{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }الأنبياء103.
وقد أسهب المفسرون في تفسير هذه الآيات والحقيقة أن ما قرأناه من معان يتحدث عن السرور والطمأنينة، أو الخوف التي يشعر بها الإنسان حسب عمله وعاقبته، كما في قوله تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }فصلت30. وهذه الآية تؤكد أن الملائكة هي الباعث الطمأنينة التي يشعر بها الإنسان المؤمن الذي يركن الى استقامته فتبعث فيه راحة الضمير ورضا ربه.
ومن أهم الشواهد القرآنية على ما ذكرنا :
{بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ }آل عمران125.
و{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ }الأنفال9.
بداية لم ير أحد من المسلمين تلك الملائكة في أي من حروبهم، ولو تنزلنا وقلنا أن هذه الكائنات مخلوقات خفية تقاتل وتَقتل كما يَقتل الإنسان فما هي الحاجة الى هذا العدد الكبير، فبإمكان عدد قليل منهم أن يقضي على الآلاف في وقت قصير، باعتبارهم غير مرئيين، مثلاً في وقعة بدر كان قتلى المشركين حوالي سبعين فرداً، وذكرت مصادر التاريخ الصحابة الذين قتلوهم، بالتالي ما الذي فعلته الملائكة في هذه المعركة، وما هي فائدة أن يمدهم الله تعالى بألف أو خمسة آلاف منهم؟.
لو تمسكنا بتعريفنا أو تفسيرنا للملائكة بأنها قوانين أو طاقة خفية تتحكم أو تؤثر في الخارج فمن السهل أن نتصور قلة أو كثافة العدد، فمثلاً تؤثر إيجابياً عند المسلمين أي العوامل الخارجية أو النفسية المساعدة والتي تبعث الشجاعة عند الأفراد حتى لو كانوا أقل عدداً، وتؤثر سلبياً عند المشركين باعتبارهم العوامل الخارجية أو النفسية التي تساعد على بث الخوف والوهن والفشل عندهم مما يؤدي الى هزيمتهم، ولدينا نموذج قرآني لعله يساعدنا في توضيح المسألة :
{وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }الأنفال46. فمتى ما كانوا متوحدين متماسكين متفقين فسيكون النصر الى جانبهم، أي يمددهم الله تعالى بملائكة تجعلهم منتصرين، وبخلاف ذلك تكون العوامل مختفية بالتالي يوكلون الى نزاعهم الذي يؤدي الى ذهاب ريحهم وتولي الأشرار على مقدراتهم، أو هزيمتهم في الحرب كما حصل في معركة أحد.
وهذه الملائكة أو القوانين الحافظة للإنسان والمدافعة عنه نجدها بشكل أكثر وضوحاً في قوله تعالى :
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }الرعد11. وقد ذهب مشهور المفسرين الى أن المعقبات هي ملائكة تحفظ الإنسان من أمر الله الذي هو الأحداث التي تكتنف الإنسان بشكل يومي سواء كانت أمراً خارجياً أو حدثاً طبيعياً أو مرضاً، والملائكة هنا الموانع التي تحول دون حصول أحد تلك الأمور، وهو أمر نجده في حياتنا بشكل يومي، فعندما يمرض إنسان لسبب ما كالعدوى أو الطقس أو لإصابة في حادث، نجد أن بعضنا لا يصاب مع أنه يتعرض لنفس العوامل التي تعرض لها المصاب، وفي كثير من الأحيان لا نجد تفسيراً سوى القول (إني كنت محظوظاً)، وقد نفسر أن السبب هو وجود الاستعداد عند شخص دون آخر، مع أن العلم لا يفسر لنا معنى هذا الاستعداد وفي أحسن الأحوال يتم تفسيره بالمناعة أو المصادفة، وحسب التفسير الإسلامي فإن الموانع التي تحول دون الوقوع في بعض هذه العوارض تسمى (الملائكة) ونجد لها تسميات مختلفة حسب الثقافات المختلفة أو الأديان، كما رأينا في سكان العراق القديم حيث كانوا يسمونها آلهة أو أرباب، والعالم الحديث يسميها أيضاً تسميات خاصة به كالظواهر الطبيعية أو القوانين الفيزياوية والعوامل النفسية والآثار الجانبية، والنتيجة واحدة في كل التسميات. ونجد التفسير المقارب للعوامل والتأثيرات النفسية فيما ورد عن بعض جهابذة علماء الإسلام :
قال الرازي : ((أنا نرى أن الإنسان قد يقع في قلبه داع قوي من غير سبب، ثم يظهر بالآخرة أن وقوع تلك الداعية في قلبه كان سبباً من أسباب مصلحته و خيراته، وقد ينكشف أيضاً بالآخرة أنه كان سبباً لوقوعه في آفة أو معصية ومفسدة فظهر أن الداعي إلى الأمر الأول كان مريداً للخير والراحة، وإلى الأمر الثاني كان مريداً للفساد والمحنة، والأول هو الملك الهادي، والثاني هو الشيطان المغوي)). مفاتيح الغيب 19 : 20.
وذكر العلامة المجلسي :
((عن ابن بكير قال : قلت لأبي جعفر “عليه السلام” في قول رسول الله “صلى الله عليه وآله” : إذا زنى الرجل فارقه روح الايمان، قال : هو قوله عز وجل “وأيدهم بروح منه” ذلك الذي يفارقه. بيان : حاصله أن يفارقه كمال الإيمان ونوره وما به يترتب عليه آثاره إذ الايمان والتصديق بدون تأثيره في فعل الطاعات وترك المناهي كبدن بلا روح، وقد عرفت أنه قد يطلق على ملك موكل بقلب المؤمن يهديه، في مقابلة شيطان يغويه)). بحار الأنوار 66 : 190. وسيأتي مزيد من الإيضاح عند الحديث عن إبليس والشياطين.