18 ديسمبر، 2024 5:40 م

فور الإعلان عن اعتقال القائد في الحشد الشعبي قاسم مصلح، المتهم باغتيال الشهيدين إيهاب الوزني وفاهم الطائي، راح كثيرون من زملائنا الكتاب والمحللين ذوي النوايا الحسنة يعلنون أنهم واثقون من جدية رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي في صعق جماعة السلاح المنفلت، معتبرين اعتقال قاسم المصلح الشرارة التي أشعل بها الكاظمي حربه ومعه الأميركان لتقليم الأظافر الإيرانية في العراق، بل راحوا يتخيّلون حرب شوارع بين الحكومة والجيش من جهة والحشد الشعبي من جهة أخرى، ويتكهّنون بمن ينتصر عن قريب.

وتذكرون يومها أن الكاظمي، سارع، كعادته في أعقاب كل اغتيال، فأمر أجهزة وزارة الداخلية بسرعة الكشف عن قتلة الشهيد الوزني، وقال “المجرمون أفلسوا من محاولات خلق الفوضى، واتجهوا إلى استهداف النشطاء العزّل، لكن القانون سيحاسبهم، مثلما سقط آخرون في قبضة العدالة من قبل”. وأكد أن “قتلة الناشط الوزني موغلون في الجريمة، وواهمٌ من يتصور أنهم سيُفلتون من قبضة العدالة. سنلاحق القتلة ونقتص من كل مجرم سوّلت له نفسه العبث بالأمن العام”.

ويومها، تعرض مقالي السابق المعنونوما زال الحال على حاله في العراقإلى اتهامات بالتشاؤم وبعدم رؤية النصف المملوء من الكأس.

وتركزت الاعتراضات على تأكيد المقال على أن “للاحتلال الإيراني جناحين لضبط العراق ومواصلة الإمساك الآمِن والمُحكم برقاب أهله المعروفين بالثورات والانتفاضات. فالجناح الأول هو جميعُ الدولة العراقية، بحكومتها وبرلمانها وقضائها وجيشها وأجهزة أمنها وإداراتها المالية والاقتصادية والزراعية والصناعية والدوائية، وبعلاقاتها الخارجية، كافة.

أما الجناح الثاني فهو جميع الفصائل والميليشيات والأحزاب والتنظيمات المملوكة لقادتها العراقيين الإيرانيين، سواء أكانت علنيةً استعراضية أم سريةً يُطلق عليها اسمُ “الطرف الثالث” الملثّم المتخفّي. ومن حين إلى آخر يتعمد المُهيمنُ الإيرانيُ افتعالَ مصادمة بين جناحيه لضبط الواحد منهما بالآخر، ولإيهام المعارضين بعدم وجود تناغم وتفاهم وتوزيع أدوار بين الجناحين”.

ولكنني لم أخترع شيئا، ولم أكن فتاح فال لأعرف ما سوف يحدث حين تنبّأت بإطلاق سراح قاسم مصلح بهذه العجالة. وذلك لأن المسرحية لم تكن من فن اللامعقول، ولم تكن معقدة، والتنبؤ بنهايتها أسهل ما يكون. فالقيادة الإيرانية أرادت باعتقاله أن تستخدم عصا حكومة مصطفى الكاظمي لضبط العناصر المنفلتة المنتمية لفصائل الحشد الشعبي التي تبالغ في الفلتان، وفي نفس الوقت هدفت إلى جرّ أذن الحكومة والقضاء والبرلمان بمسيرات الحشد الشعبي الغاضبة المهددة المهينة في شوارع المنطقة الخضراء.

وباستقباله، فور إطلاق سراحه، بالزغاريد والأهازيج وإطلاق الرصاص في الهواء أرادت أن تقول للداخل وللخارج إنها وحدها مالكة العراق، وصاحبة القرار الأخير فيه وفي المنطقة أيضا، وعلى الحاضر من العراقيين والعرب والأميركان أن يعلم الغائب.

فلم يمكث المتهم الأول باغتيال الشهيدين وبالتهديد باغتيال آخرين غيرهما سوى أسبوعين في ضيافة رفيقه رئيس هيئة الحشد الشعبي، فالح الفياض، في منزله، ليعلن مجلس القضاء الأعلى قرار إطلاق سراح المتهم لعدم كفاية الأدلة.

يقول بيان نشر على موقع المجلس إنه “بعد الاستيضاح من السادة القضاة المختصين بالتحقيق تبيّن أن قاسم مصلح تم اتهامه بقتل الناشط إيهاب الوزني، لكن لم يقدم أي دليل ضده، خاصة أنه أثناء حضوره أمام القضاة وتدوين أقواله أثبت بموجب معلومات جواز السفر أنه كان خارج العراق عند اغتيال الوزني، وأنكر ارتكابه أو اشتراكه بهذه الجريمة، ولم تجد محكمة التحقيق أي دليل يثبت تورّطه في تلك الجريمة بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء بالتحريض أو بغيره، لذا تم اتخاذ القرار بالإفراج عنه”.

هذا يعني أن مجلس القضاء الأعلى كان في انتظار أفلام مصوَّرة بالألوان تُظهر المتهم متواجدا في موقع الجريمة ويقوم بالاغتيال بمسدسه، أو أنه كان يشرف ويصدر تعليماته، بالصوت والصورة لفرق الاغتيال.

أما جواز السفر المختوم الذي يؤكد تواجد المتهم خارج العراق، في إيران، مثلا، أثناء وقوع الجريمة، فهذا أسهل ما يكون في وطن التزوير الأول في العالم، بشهادة شهود من داخل نظام المحاصصة الرديء.

ولكن وكالة الأنباء الفرنسية تنقل عن مصدر أمني قوله إننا “من جهتنا، قدّمنا كل الأدلة الخاصة بملف قاسم مصلح، لكن القضاء هو مَن اتخذ القرار بالإفراج عنه بسبب ضغوط مورست عليه”. وأضاف المصدر أن الأدلة التي قُدّمت ضده تتضمن “مكالمات هاتفية بين مصلح ومنفذي الاغتيالات، وإفادات شهود وذوي الضحايا ورسائل تهديد لعائلات الضحايا”.

بالمقابل وصف مدير مكتب “عصائب أهل الحق” في كربلاء الإفراج عن قاسم مصلح بأنه “الانتصار الذي يُضاف إلى سجل انتصارات الحشد الشعبي ضد الاستهدافات الداخلية والخارجية”.

ورفع مؤيدو مصلح في كربلاء لافتات كُتب عليها “قاسم عاد منتصرا” ووزّعوا الحلوى ابتهاجا بالإفراج عنه، وبرروا اعتقاله بأن أميركا التي اتهمته بالوقوف خلف الهجمات الصاروخية ضد قاعدة “عين الأسد” في الأنبار التي تضم عسكريين أميركيين هي التي أوعزت بالاعتقال.

والخلاصة أن مسرحية قاسم مصلح، بالطريقة التي تم فيها الاعتقال والتي تم فيها إطلاق السراح، تثبت الكلام الذي نردده باستمرار من سنوات، والقائل بأن قيادة النظام الإيراني وكما عودتنا، لم تتغير، ولن تتغير. يعني أن أحلامنا هي أحلامُ عصافير إذا صدقنا بأن في العراق حكومة تريد فعلا أن تسحب سلاح الحشد الشعبي، أو على الأقل سلاح الفصائل التي يصفها الكاظمي بالمنفلتة، ومقتدى الصدر بالوقحة، دون أوامر مسبقة وتعليمات مُبلَّغة من إسماعيل قاآني، أو سفارة الولي الفقيه في عاصمة أبي جعفر المنصور.

والسؤال الأهم الذي لا بد منه هنا هو كيف يتلقى مصطفى الكاظمي كلَّ يوم نبأ جريمة اغتيال جديدة، ويعرف الجاني، فيحبسه أياما ويطلق سراحه لعدم كفاية الأدلة، ثم يضع رأسه على مخدته ليلا وينام؟