يحارب الانسان منذ بدء الخليقة وليومنا هذا جملة من العوامل، بعضها ذاتي والاخر خارجي، من اجل البقاء تارة، وتطوير الظروف المحيطة به باتجاه جعلها اكثر ملائمة لحياته تارة اخرى. هذه الحروب ربما نراها بشكل واضح عندما تكون بين كيانات مجتمعية كبرى، وهو ما يعرف بحروب الامم او الشعوب، انما هناك حروب غير واضحة المعالم وغير مدركة إلا انها اكثر خطورة بل اكثر ايلاما على الذات من الحروب الكبرى، ألا وهي حروب الانسان مع نفسه وشركاء المعيشة في الارض ذاتها، ذلك كون تلك الحروب ذات ابعاد سايكولوجية اكثر من كونها ايديولوجية او سياسية، وان تأثيراتها لها صدى مباشر على شخصية الانسان التي يخوضها من دون ان يشعر احيانا من منطلقات موجودة ضمن الطبيعة التكوينية للانسان منذ خلقه، وحتى لا نخوض اكثر في المقدمات ارتأينا ان نتحدث عن نوع ربما هو الاهم من بين تلك الحروب، بعيدا عن التفصيلات الاخرى لها التي يمكن ان نغوص بها في مقالات منفصلة لاعطائها حقها في التبيين والاستيضاح، هذا النوع يتمثل بالصراع الطبقي داخل المجتمع الواحد وبفروعه كافة.
هذا النوع من الصراع ينقسم بطبيعة الحال الى حالات عدة، من بينها حالة العداء غير المعلن بين الطبقة الارستقراطية والطبقة الكادحة، برغم ان المنتمين للطبقتين يكونون احيانا من الفقراء ماليا وكادحين في مجالات العمل المختلفة، إلا ان انحدار احداهما الى عروق ذات ترف اجتماعي او ثقافة عالية او شخصيات معروفة سياسيا او علميا، وتأثيرات هذا التاريخ على الاحفاد يترك نوعا من الضغينة لدى بعض ممن يفتقدون تلك المؤهلات وهم السواد الاعظم من الناس، بل ان ما يعزز تلك الضغينة احيانا انحياز الفرص المكانية والزمانية للطرف الارستقراطي ما تجعله اكثر عرضة للنجاح والتألق من شريكه الاخر، فيبدأ هذا الاخر بشن حملات تسقيطية احيانا واحيانا اخرى تعبوية ضد خصمه.
ان الذي نريد قوله تحديدا ان الانسان متساو في القدرات الذهنية التي خلقها فيه الباري جل وعلا، إلا انه ومن حيث لا يشعر يعزز الابداع بداخله او يقتله انطلاقا من ثقته بنفسه وطاقاته الكامنة اللا متناهية، وهنا يكمن الاختلاف بين النموذجين قيد البحث، حيث يستحضر هذا الذي ينحدر من سلالات عظيمة تاريخه وتاريخ اسرته، فينهض بتلك الطاقات متسلحا بثقة كبيرة في الذات، فتكون الفرص النادرة مطويات بين يديه، ليس لانها بحثت عنه بل لانه استحضرها وخلقها لنفسه، انطلاقا من الشعور الذاتي بالثقة المطلقة. اما النموذج الاخر فبرغم امتلاكه احيانا مؤهلات علمية او مالية تفوق الاول إلا انه يفتقد في الاغلب القدرات الذاتية التي قد تدفع به الى سلم الرقي والنجاح في ما يخطط له ويريد، وسبب ذلك هو عدم ثقته بنفسه في ان يكون متميزا كون ان الفشل رافق من سبقه في تلك المحاولات من الاباء والاجداد، مع التذكير ان ما قلناه لا يعد بتاتا قاعدة ثابتة، بل حالة مرضية موجودة في المجتمع ارتأينا الخوض فيها لاهميتها وايجاد السبل اللازمة للتخلص منها.
ان الفيصل في التخلص من هذه الحالة يكمن في القناعة والايمان المطلقين بأن النجاح والابداع لا يخلقه تاريخ اسرة او مكانة مجتمعية ما، انما في استنهاض القيمة العليا للذات التي خلقها الله تعالى لدى الانسانية جمعاء، والايمان المطلق بأن من ابدع في الوصول لناصية هذا النجاح لم يصل اليه نتيجة حالة اجتماعية ينفرد بها، بل لاجتهاده الشخصي حتى وان استفاد من تجارب سلفه المبدع في مجال ما، وان الشخص يمكن ان يكون منبعا لابداع اسري، كما كان سلف النموذج الاجتماعي الاخر الذي خلق شيئا من العدم ثم استمر للابناء والاحفاد، وهذا نراه بوضوح في نموذج ثالث لعله انتشر في زماننا الحالي، ألا وهو شريحة الطبقة المثقفة التي خرجت من مجتمع انتشرت فيه الظلامية واستطاعوا نقل نجاحاتهم لابنائهم، ومؤكدا انها ستنتقل للاحفاد، وبالتالي خلق آلاف الاسر الارستقراطية بعدما اقتصرت على العشرات فقط في زمن الاجداد.. هنا نعطي دليلا بأن النجاح الاسري يمكن بناؤه بالذات لا بتاريخ الاجداد، وان المعاينة بحقد او حسد او ضغينة على طبقة ناجحة فقط لأنها تنتمي لأسر عريقة ما هو إلا فشل شخصي يراد تبريره بأحقاد تاريخية ترتبط بزمن الاقطاعية الزراعية والاضطهادات السياسية في النصف الاول من القرن الماضي وما تبعه من عقد او عقدين كحد اقصى. ان الصراع الطبقي لا يمثله فقط ما تقدم بل يذهب الى امثلة اخرى لعل ابرزها التفاوت في مجال التعليم، فنشاهد ان الذي حرم من تعليم عال ينظر بحقد كبير الى من يمتلك شهادات عليا حتى وان كان الاخير فقيرا جدا وان الاول يمتلك اموالا لا تعد ولا تحصى، فما الذي يدفع بهذا الذي انعم الله تعالى عليه بنعم الحياة المختلفة، ان ينظر بحسد وحقد على انسان فقير ماليا محتاج للاخرين فقط، لكونه يحمل شهادة عليا، الجواب واضح، هو ان هذا الانسان الذي قد يكون تاجرا او مقاولا او صاحب حرفة ما يفتقد للثقة التي تحدثنا عنها في الحالة المجتمعية السابقة ما من شأن الشعور بنقص شخصي كبير يراه في الشخص الاخر، ما يولد شعورا لا اراديا بأن ذلك الاخر هو افضل منه وبالتالي فأنه عنصر غير مرغوب فيه.
معالجة هذا المرض الاجتماعي لا تعدو كونها حالة من عدم قناعة بالمنجز الذاتي للشخص المعني، اي بمعنى ان ذات هذا الانسان كانت تصبو يوما، سواء في طفولته او مراهقته، الى طريق دنيوي اخر غير الذي اختطه القدر له، إلا ان الظروف كانت بالضد من ذلك، هذا الشعور يولد حالة من الضغينة اللا ارادية تجاه كل من استطاع من الاقران تحقيق هذا الحلم ومحاولة الانتقام منه في قناعة لا ارادية بأن حلمه قد سرق منه وانه برغم تحقيقه كل شيء، الا انه لم يحقق حلمه الاساس، بينما نرى اخرين يحاولون سد اي نقص يرونه بشخصهم في ابنائهم ويخطون لانفسهم نجاحات وابداعات في مجالات اخرى غير هذه التي تتعلق بالدراسة او التعليم الاكاديمي، وهؤلاء لديهم الثقة الكافية بأنفسهم ليكونوا عناصر ايجابية في مجتمعهم. هناك امثلة اخرى تتعلق بهذا الصراع المجتمعي هي بغالبيتها بين نموذجين احدهما ناجح والاخر فاشل او اقل نجاحا في ميادين العمل سواء الوظيفي او التجاري او الصناعي الى اخره، الفيصل فيها جميعا مفردتا الثقة او عدمها، ونحن نرى ان تعزيز تلك الثقة التي تعد دواء لمعظم هذه الامراض المجتمعية يأتي عبر عوامل ارتأينا التذكير بها، وهي الايمان المطلق بالله جل وعلا، وقدرته التي تمثلت في خلقه للانسان بأبهى واحسن تقويما، وان نجاح الاخرين لا يعدو الا نجاحا لشخصهم لا لأسرهم او مرتبة علمية اعطيت لهم من دون استحقاق، ولا بد ايضا من التذكير بأن الحالات الشاذة في الوصول الى مراتب اجتماعية، كأن يكون عبر فساد مالي او وظيفي لا نعده نجاحا ولا يصنف ضمن ما تحدثنا عنه لانه شيء طارئ لا يستحق الحديث عنه حتى عند ممن يعانون تلك الامراض سالفة الذكر.
واخيرا.. نرى ان من الضروري الاشارة الى ان المجتمعات الراقية الناجحة لم تصل الى ما وصلت اليه إلا عبر تكامل اجتماعي بين ابنائها، وان اي عنصر لا يمكن النهوض بذاته إلا بمشاركة الاخرين من ابسط الشرائح فصعودا الى اعلاها، وهذا الواقع الذي من شأنه النهوض بالامة لا الحديث عن تعزيز امراض توارثناها من دون شعور، حتى بدأت تتفاقم تزامنا مع تراجع شامل في مجالات المجتمع والدولة التي نعيش فيها.